عمارة المساجد
ناصر محمد الأحمد
عمارة المساجد
8/10/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: وانتهى رمضان، وبانتهاء رمضان لا ينبغي أن ينتهي علاقة المسلم مع المسجد.
المساجد بيوت الله في الأرض، خير البقاع وأزكاها، وأطيب الأماكن وأفضلها، مهوى أفئدة الصالحين، وبها تتعلق قلوب المؤمنين، على أبوابها تقف الفتن، ويحرص المسلم العاقل على بنائها إن استطاع، وعلى عمارتها وتنظيفها وتطييبها، فهي أعز عليه من بيته، وقد رتَّب الشرع الشريف على ذلك كله أجوراً عظيمة.
ولما اعتاض كثير من الناس عن المساجد وإتيانها ولزموا الشاشات، وعكفوا على المباريات، وغاب كثير من الناس عن المساجد، وتركوا حِلق الذكر ومصاحبة العلماء بها، وانشغلوا عن عمارتها، كانت هذه الكلمات تذكيراً.
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ. إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ كَانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقاً بِالْمَسْجِدِ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ.." الحديث .. متفق عليه.
فهذا العبد لما آثر طاعة الله تعالى، وغلب عليه حبه، صار قلبه معلقاً بالمساجد، ملتفتاً إليها يحبها ويألفها، لأنه يجد فيها حلاوة القربة، ولذة العبادة، وأُنس الطاعة، ينشرح فيها صدره، وتطيب نفسه، وتقر عينه، فهو لا يحب الخروج منها، وإذا خرج تعلق بها حتى يعود إليها.
وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله جلّ وعلا فانقادت له، فلا يقصر نفسه على محبة بقاع العبادة إلا من خالف هواه، وقدم عليه محبة مولاه جل في علاه. أما من غلبته نفسه الأمّارة بالسوء، فقلبه معلّقٌ بالجلوس في الطرقات، والمشي في الأسواق، محبٌ لمواضع اللهو واللعب، وأماكن التجارة واكتساب الأموال.
وعن أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّراً إِلَى صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ الْمُحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لاَ يُنْصِبُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ، وَصَلاَةٌ عَلَى أَثَرِ صَلاَةٍ لاَ لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّين" رواه أبو داود.
فلينظر المحب لعظم الأجر المعدّ له عند خروجه من بيته متطهراً ليؤدي فريضة من فرائض الله، مخلصاً لا يخرج رياء ولا سمعة، بل يؤديها خالصاً بها قلبه متوجهاً إليه وحده راغباً فيما عنده، فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى سُنة الضحى يعود بأجر المعتمر، فما بال كثير منا يزهد في أجر كهذا؟!.
ويزاد هذا الأجر يوم الجمعة، فعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ غَسَّلَ وَاغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، فَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ، وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ أَجْرُ سَنَةٍ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا" رواه أحمد والترمذي وابن ماجة.
هذا الأجر العظيم في إتيان المساجد يوم الجمعة، حتى صارت الخطوة الواحدة تعدل أجر سنة، تُحصّل أجر صيام 360 يوماً وقيام 360 ليلة، بماذا؟ بالاغتسال قبل الغدو إلى المساجد، والتبكير إلى المساجد، والاستماع والإنصات عند الموعظة، وصلاة ما كتب الله لك، فلماذا لا يحرص العبد على العمل الصالح؟ فلعل كفة الحسنات ترجّح بحسنة، والعبد منا لا يدري بأي عمل يدخل الجنة.
أيها المسلمون: وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه الكرام أحاديث وآثار كثيرة في الحض على لزوم المساجد وإتيانها، والأجر العظيم في ذلك، ومنها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لينادي يوم القيامة: أين جيراني، أين جيراني؟ فتقول الملائكة: ربنا! ومن ينبغي أن يجاورك؟ فيقول: أين عُمّار المساجد؟" رواه أبو نعيم في الحلية بإسناد صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها" رواه مسلم.
وعن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَداً مُسْلِماً، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ، فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، وَيَعْمَدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَرَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومٌ نِفَاقُهُ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ" رواه مسلم.
في الأحاديث الثلاثة فضل المجاورة ولزوم المساجد، وأن ذلك شعار الصالحين، ويورث صاحبه مقاماً عظيماً عند الله تبارك وتعالى. وفي التخلف عن المساجد، ومن ثَم إضاعة الصلوات أو تأخيرها، شؤم في النفس، وضيق في الرزق، وجهد في البدن، وعسر في الخُلُق، والعكس بالعكس، والجزاء من جنس العمل.
أيها المسلمون: كم في المبادرة والتبكير إلى صلاة الجماعة في المسجد من الأجر العظيم! فمن ذلك:
أن الجالس قبل الصلاة في المسجد، انتظاراً لتلك الصلاة، هو في صلاة - أي له ثوابها - ما دامت الصلاة تحبسه. فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخّر صلاة العشاء الآخرة، ثم خرج فصلى بهم، قال لهم: "إنكم لم تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة" متفق عليه.
والملائكة تدعو له ما دام في انتظار الصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه ما لم يحدث: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه" متفق عليه.
والمبكر يتمكن من أداء السنة الراتبة - في صلاتي الفجر والظهر - ويصلي نافلة في غيرهما. ففي الصحيحين عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانين صلاة، قالها ثلاثاً، قال في الثالثة: لمن شاء" متفق عليه.
والمبكر للصلاة يمكنه استغلال ذلك الوقت لقراءة القرآن الكريم، فقد لا يتيسر له ذلك في أوقات أخر.
ثم هذا الوقت من مواطن إجابة الدعاء. ففي الحديث عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء لا يُردّ بين الأذان والإقامة" رواه الترمذي.
والمبكر يدرك الصف الأول، ويصلي قريباً من الإمام عن يمينه، وفي الحديث: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول" رواه ابن ماجة.
ويدرك التكبيرة الأولى مع الإمام والتأمين معه، ويحصل له فضل صلاة الجماعة.
وهو نوع رباط في سبيل الله، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟". قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ" رواه مسلم.
أيها المسلمون: إن التأخر في الحضور إلى الصلاة كما أنه يفوّت أجوراً كثيرة، فهو أيضاً يفتح باب التهاون بالصلاة ويجر في النهاية إلى ترك صلاة الجماعة، فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في أصحابه تأخراً، فقال لهم: "تقدموا فأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله" رواه مسلم.
لقد أصبحت المساجد تشكو من قلة المرتادين لها والجالسين فيها لذكر الله، لقد فَقدت الرجال الذين يسبحون الله فيها بالغدو والآصال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
فَقدت العاكفين والركَّع السجود الذين يعمرونها آناء الليل وأطراف النهار، فقد كانت المساجد فيما مضى بيوتاً للعبادة ومدارس للعلم وملتقى للمسلمين ومنطلقهم، فيها يتعارفون ويتآلفون، ومنها يستمدون الزاد الأخروي ونور الإيمان وقوة اليقين، بها تعلقت قلوبهم وإليها تهوى أفئدتهم، هي أحب إليهم من بيوتهم وأموالهم، فلا يملون الجلوس فيها وإن طالت مدته، ولا يسأمون التردد عليها وإن بعدت مسافتها، يحتسبون خطاهم إليها ويستثمرون وقتهم فيها فيتسابقون في التبكير إليها.
أسأل الله أن يصلح قلوبنا وأحوالنا وأعمالنا ..
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى في دينكم عامة، وصلاتكم خاصة، أقيموها وحافظوا عليها، وأدوها بخشوع وطمأنينة وحضور قلب، ولازموا لها الجمع والجماعات، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين، وقرة عين الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: "وجعلت قرة عيني في الصلاة". تجتمع فيها من أنواع العبادات مالا يجتمع في غيرها، هي الصلة بين العبد وبين ربه، وهي الفارقة بين الكفر والإيمان، فلا حظ في الإسلام لمن ضيع الصلاة.
عباد الله: إن ميزان الصلاة في الإسلام عظيم، ومنـزلتها عند الله عالية، فاهتموا بشأنها غاية الإهتمام، وأدوها بالوفاء والتمام، فالصلاة مكيال من وفّاه، وُفّيَ أجره من رب العالمين، ومن طفف فيه فقد علمتم ما قال الله في المطففين، إنه لا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل فيها، ولا تصح إلا إذا أديت بطمأنينة، وحديث المسيء صلاته معلومة لديكم، فكلما جاء ليسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عليه الصلاة والسلام: "ارجع فصل فإنك لم تصلي". قال بعض العلماء أن هذا الحديث دليل على أن الطمأنينة في الصلاة لا تسقط بحال من الأحوال، وإلا لسقطت عن هذا الأعرابي الجاهل.
عباد الله: ومن أهمية الصلاة عند الله عز وجل، فقد جعلها للدين ركناً أساسياً، وأمر بها النبيين والمرسلين وأتباعهم، فقال عز من قائل في محكم تنـزيله على لسان إبراهيم عليه السلام: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي). وقال على لسان إسماعيل عليه السلام: (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا). وقال على لسان عيسى عليه السلام: (وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا). وأمر الله محمداً عليه أفضل الصلاة وأتم السلام بالصلاة بقوله: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا، ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا). وبقوله سبحانه: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات). وبقوله سبحانه: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك والعاقبة للتقوى). فاقتدوا بهؤلاء الأخيار الذين قال الله تعالى فيهم: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا).
عباد الله: لقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن نقر المصلي صلاته، وأخبر أن النقر صلاة المنافقين وهذا يحدث غالباً من الذين يأخرون الصلاة حتى إذا جاء آخر وقتها نقرها نقر الغراب، قال عليه الصلاة والسلام: "تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلا". كما أن من صفات المنافقين في الصلاة أنهم لا يؤدونها مع الجماعة، ومن صفاتهم أيضاً ما قال الله عنهم: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا). يقول الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله تعالى: فهذه ست صفات في الصلاة من علامات المنافق: الأول: الكسل عند القيام إليها، الثاني: مراءات الناس في فعلها، الثالث: تأخيرها عن وقتها، الرابع: نقرها، الخامس: قلة ذكر الله فيها، السادس: التخلف عن جماعتها. فاتقوا الله عباد الله، فمن كان متصفاً والعياذ بالله بإحدى هذه الصفات الست فليحاول جاهدا التخلص منها قبل أن يدركه الموت. سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يحضر الجماعة فقال: "هو في النار".
اللهم ..