علي بن أبي طالب رضي الله عنه 2
ناصر محمد الأحمد
1435/06/09 - 2014/04/09 02:18AM
عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
(2)
11/6/1435هـ
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: نكمل حديثنا عن سيرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثبت بالروايات الصحيحة أن خلاف معاوية مع عليّ رضي الله عنهما كان في قتل قتلة عثمان ولم ينازعه في الخلافة، بل كان يقر له بذلك، فعن أبي مسلم الخولاني أنه جاء وأناس معه إلى معاوية وقالوا: أنت تنازع علياً، هل أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل منّي، وأحق بالأمر منّي، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً، وأنا ابن عمه والطالب بدمه فأتوه فقولوا له: فليدفع إليَّ قتلة عثمان وأُسلم له، فأتوا علياً فكلموه فلم يدفعهم إليه.
أرسل أمير المؤمنين عليّ سهل بن حنيف والياً على الشام، إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام حتى أخذته خيل معاوية وقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحيهلاً بك وإن كان بعثك غيره فارجع. وكانت بلاد الشام تغلي غضباً على مقتل عثمان ظلماً وعدواناً، فقد وصلهم قميصه مخضباً بدمائه وبأصابع نائلة زوجه التي قُطعت أصابعها وهي تدافع عنه، وكانت قصة استشهاده أليمة فظيعة اهتزت لها المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها الدموع، كما وصلتهم أخبار المدينة وسيطرة الغوغاء عليها، وهروب بني أمية إلى مكة، كل هذه الأمور وغيرها من الأحداث والعوامل كان لها تأثير على أهل الشام وعلى رأسهم معاوية رضي الله عنه، وكان يرى أن عليه مسئولية الانتصار لعثمان، والقودَ من قاتليه فهو ولي دمه، والله عز وجل يقول: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً). وكان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبى سفيان بيعة عليّ بن أبى طالب بالخلافة، وليست لأطماع معاوية في ولاية الشام، أو طلبه ما ليس له بحق، إذ كان يدرك إدراكاً تاماً أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى، وأن علياً أفضل منه وأولى بالأمر. وأما الروايات التي تصور معاوية في خروجه عن طاعة عليّ بسبب أطماع ذاتية وأطماع دنيوية، وبسبب العداء والتنافس الجاهلي القديم بين بني هاشم وبني أمية، وغير ذلك من القذف والافتراءات والطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي روايات متروكة مطعون في رواتها عدلاً وضبطاً.
أيها المسلمون: استمرت ولاية الشام تابعة لنفوذ معاوية بن أبى سفيان طيلة خلافة عليّ رضي الله عنه، ولم يتمكن عليّ من السيطرة أو تعيين العمال والأمراء فيها، وقد وقعت في الشرق من بلاد الشام بعض المناوشات بين جند عليّ وجند معاوية كان أهمها موقعة صفين والتي شهدها عليّ ومعاوية رضي الله عنهما سنة 37هـ، ولم تمنع هذه المعارك من استمرار سيطرة معاوية على الشام. وكان لعبدالله بن سبأ دور في الخلاف الذي حصل بين الصحابة إذ إن هناك أجواءً للفتنة مهدت له، وعوامل أخرى ساعدته، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادّعاها واخترعها من قبل نفسه وافتعلها من يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها لغاية ينشدها وغرض يستهدفه، وهو الدَّس في المجتمع الإسلامي بغية النيل من وحدته، وإذكاء نار الفتنة وغرس بذور الشقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدّت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وتفرق الأمة شيعاً وأحزاباً، وخلاصة ما جاء به أن أتى بمقدمات صادقة وبنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذج الغلاة وأصحاب الأهواء من الناس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبّس فيها على من حوله حتى اجتمعوا عليه. وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان رضي الله عنه، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم. وكاتب من كان في الأمصار، وكاتبوه ودعوا في السرّ إلى ما عليه رأيهم، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسترون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنّا لفي عافية مما فيه الناس.
أيها المسلمون: إن الخلاف الذي نشأ بين أمير المؤمنين عليّ من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى، ثم بعد ذلك بين عليّ ومعاوية لم يكن سببه ومنشؤه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين عليّ وإمامته وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين، فقد كان هذا محل إجماع بينهم. وإنما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خلافهم في أصل المسألة، وإنما كان في الطريقة التي تعالج بها هذه القضية، إذ كان أمير المؤمنين عليّ موافقاً من حيث المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان رأيه أن يرجئ الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع وهدوء الأمور واجتماع الكلمة.
إن وقعة صفين كانت من أعجب الوقائع بين المسلمين. كانت هذه الوقعات من الغرابة إلى حد أن القارئ لا يصدق ما يقرأ ويقف مشدوهاً أمام طبيعة النفوس عند الطرفين، فكل منهم كان يقف وسط المعركة شاهراً سيفه وهو يؤمن بقضيته إيماناً كاملاً، فليست معركة مدفوعة من قبل القيادة، يدفعون الجنود إلى معركة غير مقتنعين بها، بل كانت معركة فريدة في بواعثها، وفي طريقة أدائها، وفيما خلّفتها من آثار، فبواعثها في نفوس المشاركين تعبّر عنها بعض المواقف التي وصلت إلينا في المصادر التاريخية، فهم إخوة يذهبون معاً إلى مكان الماء فيستقون جميعاً ويزدحمون وهم يغرفون الماء وما يؤذي إنسان إنساناً، وهم إخوة يعيشون معاً عندما يتوقف القتال، فهذا أحد المشاركين يقول: كنّا إذا تواعدنا من القتال دخل هؤلاء في معسكر هؤلاء، وهؤلاء في معسكر هؤلاء، وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم، وهم أبناء قبيلة واحدة ولكل منهما اجتهاده، فيقاتل أبناء القبيلة الواحدة كل في طرف قتالاً مريراً، وكل منهما يرى نفسه على الحق وعنده الاستعداد لأن يُقْتَل من أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخَنا ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، وهما أبناء دين واحد يجمعهما، وهو أحب إليهما من أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها، ويوم قتل عمّار بن ياسر صلى عليه الطرفان، ويقول شاهد عيان اشترك في صفين: تنازلنا بصفين، فاقتتلنا أياماً فكثر القتلى بيننا حتى عقرت الخيل، فبعث عليّ إلى عمرو بن العاص أن القتلى قد كثروا فأمسك حتى يدفن الجميع قتلاهم، فأجابهم، فاختلط بعض القوم ببعض حتى كانوا هكذا - وشبك بين أصابعه - وكان الرجل من أصحاب عليّ يشد فيُقتل في عسكر معاوية، فيُستخرج منه، وقد مر أصحاب عليّ بقتيل لهم أمام عمرو، فلما رآه بكى وقال: لقد كان مجتهداً أخشن في أمر الله، وكانوا يسارعون إلى التناهي عن المنكر حتى في مثل هذه المواقع، فكانت هناك مجموعة عُرفوا بالقرّاء، وكانوا من تلامذة عبد الله بن مسعود من أهل الشام، لم ينضموا إلى أمير المؤمنين عليّ ولا إلى معاوية، وقالوا لأمير المؤمنين: إنا نخرج معكم ولا ننـزل عسكركم، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له، أو بدا منه بغيٌ كنّا عليه، فقال عليّ: مرحباً وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة من لم يرض بهذا فهو جائر خائن.
أيها المسلمون: إن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معاً على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يُعمل بها في حروبهم، ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيراً من قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتُعلم وتُدوّن لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة.
كان أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه بعد نهاية الجولات الحربية يقوم بتفقد القتلى، يقول شاهد عيان: رأيت علياً على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم الشهباء، يطوف بين القتلى، وأثناء تفقده القتلى ومعه الأشتر، مر برجل مقتول وهو أحد القضاة والعباد المشهورين بالشام، فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين أحابس معهم؟ عهدي والله به مؤمن، فقال عليّ: فهو اليوم مؤمن.
لعل هذا الرجل المقتول هو القاضي الذي أتى عمر بن الخطاب وقال: يا أمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفزعتني، قال: ما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان والنجوم معهما نصفين. قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس، فقال عمر: قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَة)، فانطلِق فوالله لا تعمل لي عملاً أبداً، قال الراوي: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفين.
أيها المسلمون: إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بينهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم، لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم، ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم، وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد، والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ، غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده، وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوِّز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم. سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال: "تلك دماء طهّر الله يدي منها أفلا أطهر بها لساني، مَثَلُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها". وقال ابن كثير رحمه الله: "أمّا ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام: فمنه ما وقع من غير قصد كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين، والاجتهاد يخطئ ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً، وأما المصيب فله أجران". انتهى ..
أيها المسلمون: وبالرغم من كل المحاولات والجهود المضنية لم يستطع عليّ رضي الله عنه أن يحقق ما يريد، إذ لم يستطع أن يغزوا الشام بسبب التفكك والتصدع الذي حدث في داخل جيشه، وتفرق كلمتهم وظهور الأهواء فاضطر في سنة أربعين للهجرة أن يوافق لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، على أن يكون العراق له، والشام لمعاوية، ولا يدخل أحدهما على صاحبه في عمله بجيش ولا غارة ولا غزو.
تفيد بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي تعد من دلائل نبوته إخباره بأن علياً سيكون من الشهداء، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء، هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد".
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا عن الحروب التي وقعت بين الصحابة قبل وقوعها وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم وقد ذكرها وحدد زمانها، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يُقتل بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة". فلقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم القتال بهذه الأعداد الهائلة وأنها مقتلة عظيمة. كان أهل الشام ستين ألفاً، فقتل منهم عشرون ألفاً، وكان أهل العراق مائة وعشرين ألفاً فقتل منهم أربعون ألفاً. فأي مقتلة بين فئتين عظيمتين دعواهما واحدة تفوق هذا العدد؟!. ويكفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً على المعركة أنه قال عن الطرفين: دعواهما واحدة. فأي محاولة ماكرة لإدخال الهوى في هذه المعركة، أو محاولة اتهام أحد الطرفين بقصد الباطل وشهوة التسلط والحكم فهو اتهام باطل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن دعوى الفريقين واحدة.
توقف القتال بمحاولة التحكيم الذي لم يصل إلى نتيجة وبقي عليّ هو الخليفة على معظم الأقاليم ما عدا الشام.
وتمر الأيام، ويقتل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بسيف مسموم بيد الشقي عبدالرحمن بن ملجم بتخطيط من الخوارج.
لقد تركت معركة النهروان والتي خاضها عليّ ضد الخوارج في نفوسهم جرحاً غائراً لم تزده الأيام والليالي إلا إيلاماً وحسرة، فاتفق نفر منهم على أن يفتكوا بعليّ رضي الله عنه، ويثأروا لمن قُتل منهم في النهروان.
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ..
أما بعد: أيها المسلمون: كان من حديث ابن ملجم وأصحابه أن ابن ملجم، والبُرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التيمي اجتمعوا، فتذاكروا أمر الناس، وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهر، فترحموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئا، إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسهم فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد، وثأرنا بهم إخواننا، فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليّ بن أبي طالب، وقال البُرك بن عبد الله: وأنا أكفيكم معاوية، وقال عمرو بن أبي بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص. فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم، فسمّوها وتواعدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه إليه، وأقبل كل رجل منهم إلى المصر الذي صاحبه فيه. وأتى ابن ملجم رجلاً من أشجع يقال له: شبيب بن بجرة فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك؟ قال: قتل عليّ بن أبي طالب، قال: ثكلتك أمك، لقد جئت شيئاً إدّا، كيف تقدر على عليّ، قال: أكمن له في المسجد فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا، وإن قُتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قال: ويحك لو كان غير عليّ لكان أهون، قد عرفتَ بلاءه في الإسلام، وسابقته مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجدني أنشرح لقتله، قال: أما تعلم أنه قتل أهل النهر العباد الصالحين؟ قال: بلى، قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا، فأجابه. وأخذوا أسيافهم وجلسوا مقابل السُدّة التي يخرج منها عليّ. قال ابن الحنفية: خرج عليّ لصلاة الغداة، فجعل ينادي: أيها الناس الصلاة الصلاة، فما أدري أخرج من السدة، فتكلم بهذه الكلمات أم لا، فنظرت إلى بريق، وسمعت: الحُكم لله يا عليّ لا لك ولا لأصحابك، فرأيت سيفاً، ثم رأيت ثانياً، ثم سمعت علياً يقول: لا يفوتنّكم الرجل، وشدّ الناس عليه من كل جانب، قال: فلم أبرح حتى أُخذ ابن ملجم وأُدخل على عليّ، فدخلت فيمن دخل من الناس، فسمعت علياً يقول: النفس بالنفس، أنا إن مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي. جُمع الأطباء لعليّ رضي الله عنه يوم جرح، وكان أبصرُهم بالطبّ أثير بن عمرو السكوني، فأخذ أثير رئة شاة حارة، فتتبع عِرقاً منها، فاستخرجه فأدخله في جرحه، ثم نفخ العِرق فاستخرجه فإذا عليه بياض الدماغ، وإذا الضربة قد وصلت إلى أم رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين، اعهد عهدك فإنك ميت. قال الذهبي رحمه الله عن عبد الرحمن بن ملجم: قاتل عليّ رضي الله عنه، خارجي مفتر. وهو عند الخوارج من أفضل الأمة، وفي ابن ملجم يقول عمران بن حطّان الخارجي:
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا
وابن ملجم عند الروافض أشقى الخلق في الآخرة، وهو عندنا أهل السنة ممن نرجو له النار، ونُجوّز أن الله يتجاوز عنه، لا كما يقول الخوارج ولا كما يقول الروافض فيه، وحكمه حكم قاتل عثمان، وقاتل الزبير، وقاتل طلحة، وقاتل سعيد بن جبير، وقاتل عمّار، وقاتل خارجة، وقاتل الحسين، فكل هؤلاء نبرأ منهم ونبغضهم في الله، ونكل أمورهم إلى الله عز وجل.إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حيناً فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا
أيها المسلمون: كانت مدة خلافة عليّ رضي الله عنه أربعُ سنين وتسعة أشهر وثلاثة أيام، وكانت وفاته شهيداً في اليوم الحادي والعشرين من شهر رمضان عام أربعين للهجرة. وقد تولى غسله الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، رضوان الله عليهم، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص، وصلى عليه الحسن بن عليّ رضي الله عنهما. وأما موضع قبره فقد اختلف فيه. وفي الحقيقة فإن ابتداع ما يسمى مشهد عليّ رضي الله عنه بالنجف كان أيام بني بويه في عهد الدولة العباسية وكانوا من الشيعة الروافض، وقد صنع الشيعة ذلك على عاداتهم في القرن الرابع.
ولما جاء خبر قتل عليّ إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: ويحكِ إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم.
أيها المسلمون: إن الفرق الضالة والطوائف المنحرفة عندما تنتشر في بلاد المسلمين تعرض أهله للخطر، وتهدد الأمن والاستقرار وتشكك الناس في عقيدتهم، وتعيث في الأرض فساداً وخراباً، وتلك هي حال الخوارج المارقين الذين خرجوا على عليّ رضي الله عنه وكفّروه، وقتله نفر منهم على حين بغتة، زاعمين أنهم يشرون أنفسهم بهذا الفعل ابتغاء مرضات الله، وما عندهم في ذلك مستند ولا برهان، إن هو إلا اتباع الأهواء وطاعة الشياطين، وإذا تبين لنا مما سبق أن الخوارج قد تسببوا في قتل عليّ رضي الله عنه وعرفنا مناهجهم الفاسدة، فالواجب على أمة الإسلام أن تحذر منهم، وتحارب مناهجهم، ويقوم العلماء والدعاة بواجبهم في ذلك ليستقر الأمن، وتظهر أنوار السنة، وتخمد نيران البدعة، وفعل ذلك وأداؤه على الوجه الأمثل بالتمكين لعقيدة أهل السنة والجماعة، ومقارعة البدعة والمبتدعين، وهذا كله من أسباب نهوض المجتمعات، وهذه هي الطريقة المثلى لجمع الشمل ووحدة الصف، ومن تأمل تاريخ الإسلام الطويل وجد أن الدول التي قامت على السنة هي التي جمعت شمل المسلمين، وقام بها الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعز به الإسلام قديماً وحديثاً، وهذا بخلاف الدول التي قامت على البدعة، وأشاعت الفوضى والفرقة والمحدثات، وفرقت الشمل فهذه سرعان ما تندثر وتنقرض.
وهكذا خرج أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من هذه الدنيا بعد جهاد عظيم، وقد طويت بوفاته صفحة من أنصع صفحات التاريخ وأنقاها، فقد عَرَف فيه التاريخ رجلاً فذاً من طراز فريد، كانت همته في رضا الله تعالى، وكان همة انتصار الإسلام، وأعظم أمانيه سيادة أحكام الله في دنيا الناس، وأقصى غايته تحقيق العدالة بين أفراد رعيته.
أيها المسلمون: إن دراسة عهد الخلفاء تمد أبناء الجيل بالعزائم الراشدية، التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهجتها، وترشد الأجيال بأنه لن يصلح أواخر هذا الأمر إلا بما صلحت به أوائله، وتساعد الدعاة والعلماء وطلاب العلم على التأسي بذلك العهد الراشدي، ومعرفة خصائصه ومعالمه وصفات قادته وجيله، ونظام حكمه ومنهجه في السير في دنيا الناس، وذلك يساعد أبناء الأمة على إعادة دورها الحضاري من جديد.
اللهم ..
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق