«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي..»
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الأولى : «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي» 10 / 3/ 1446ه
إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدانا لهذا الدين وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار ومن سار على نهجهم إلى يوم القرار. أما بعد :
فاتقوا اللهَ أيها المؤمنون حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلامِ بالعُروةِ الوثقى، وإيَّاكُم ومُحدثاتِ الأمور، ومُضِلاتِ الفتن، (( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
لقد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا النعمة {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} قال الإمام البخاري رحمه الله: "فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ".
النقصان في الدين أن يزيدَ الإنسانُ عملا لم يأذن به الله، ولم يشرعه رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام:«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» متفق عليه.
الدينُ ليس بحاجةِ إلى إكماله بإحداثِ بدعِ وضلالاتِ مهما استحسنتها العقول، وحسنتها النيات.. في مسند الإمام أحمد أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ t، أَتَى النَّبِيَّ r بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيُّ r فَغَضِبَ وَقَالَ:«أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي»
الدين ليس مسمى يردد، أو شعارات وطقوس ترفع .. الدين عقيدةُ واعتقاد، وإسلامُ وانقياد، واتباع ومتابعة {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
في الصحيحين أن ثَلاَثَةَ رَهْطٍ أتوا بُيُوتَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ r، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ r، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ r؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ r فَقَامَ وَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي».
إن المسلم ليعجب حين يلحظ فئآماً من المسلمين كلفوا أنفسهم مالم يأذن به الله، واتبعوا شرائع وطرائق لم يعملها صفوة الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته الأخيار، فابتدعوا في الدين ماليس منه، وفي الدين أحكامُ وشرائعُ قد أضاعوها.. وهذا من أعظم الدلائل على أنها من تلبيس ابليس ليضل الناس بغير علم {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ }.
قال الإمام مالك رحمة الله: من أحدث في هذه الأمةِ شيئاً لم يكن عليه سلفُها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الدين، لأن الله تعالى يقول اليوم أكملت لكم دينكم فما لم يكن يومئذ دينً لا يكون اليوم ديناً.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها..
ويرحم الله الإمام الشافعي حين قال : لأن يلقى الله العبدُ بكل ذنب خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الهوى .
لقد أمضت أمةُ الإسلامِ قرونَها الثلاثةِ الأولى التي زكاها النبي r لم تعرف تخصيص يومٍ لذكرى مولده عليه الصلاة والسلام ، وإنما أول من أظهر هذه البدعة بنو عُبَيد، في القرن الرابع المتسمون زورًا بالفاطميين؛ وهم من خرجوا على الخلافة العباسية ، ولما خافوا من ثورة الناس عليهم، استمالوا قلوب الناس وكسب عواطفهم بإحداث ذكرا مولد النبي صلى الله عليه وسلم وموالد لفاطمة وعلي والحسن والحسين ولجماعة من سلالة آل البيت رضي الله عنهم وأرضاهم .
وبنو عبُيد من ذرية عبد الله بن ميمون القداح المعروف بالكفر والنفاق والضلال، والمشهور بعداوتهِ لأهل الإيمان، ومعاونتهِ لأهل الكفر والعدوان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم: "وهؤلاء القومِ تشهد عليهم الأمة وأئمتها أنهم كانوا ملحدين زنادقة ، يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر".
أفبعد هذا ُيترك الميراث النبوي العذب الزلال، ويُتبع خزعبلات الزنادقة الضلال؟ ..
ألا فاتقوا الله ربكم، واحفظوا بيوتكم وأولادكم من وسائل الشبهات، والشهوات، وأسباب الضلال والفساد ..
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ، و صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ }.
اتباع النبي r أخذُ لسنته باستسلام وطواعيةٍ بلا تردد أو بحثٍ لتأويل ..
سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ اسْتِلاَمِ الحَجَرِ، فَقَالَ ابن عمر: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ» قَالَ الرجل: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ، قَالَ: «اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِاليَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ».. متفق عليه.
ليس أحد أشد حباً للنبي r من أصحابه، ولا أشد تمسكا بمنهجه وسنته منهم
في الصحيحين أن ابْنَ جُرَيْجٍ، رأى ابن عمر متمسكاً بأعمالٍ لا يخالفها فسأله عنها فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ: «أَمَّا الْأَرْكَانُ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ r يَمَسُّ إِلَّا الْيَمَانِيَيْنِ، وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا، وَأَمَّا الصُّفْرَةُ، فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وَأَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ r يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ»
وهل في الأمة أحد أشدُ حباً ووفاءً واتباعاً للنبي r من أبي بكر ، وهو الذي لم يترك أمر رسول الله r في أدهى الخطوبِ وأحلك الضروف ، مهما كان دفع الثمن .. أخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: والذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استُخلِف ما عُبد الله، فقيل له: مه يا أبا هريرة فقال: نعم إن رسول r وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فقبض النبيr وارتدت العرب حول المدينة، واجتمع إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فقالوا: تُوجِه هؤلاءِ إلى الروم وقد ارتدت العرب ؟ فقال أبوبكر: والذي لا إله إلا هو لو ظننت أن الطير تخطفني، وأن السباع جرت بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشاً وجهه رسول الله، وما حللت لواءً عقده رسول الله، والله لو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.
من ذا يناسقهُم من ذا يطابقهُم ** من ذا يسابقهُم في العزِ الكرمِ
فهل احتفلوا أو ترنموا لذكراه عليه الصلاة والسلام؟ ولو كان خيراً لسبقونا إليه..
وفي المقابل فإن من أبناء الأمة من يعيش جفاءً مع النبي r ، حين لا يؤخذ من سنته إلى ما وافق الهوى، وحين يرد البعض أحاديثَه الصحيحة لأنها في نظرهم لاتساير الواقع، أو لأنها تعارض شهواتهم وأهواءهم.
نقع في الجفاءٍ حينما يُعدل عن سيرته وسنته إلى رموز معاصرة أبرزتها وسائل الإعلام فكانت هي القدوات.
وقعنا في الجفاء حينما لانرى هيبة لكلامه عليه الصلاة والسلام، وتوقيراً للحديث النبوي .. كان عبدالرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله أمر الحاضرين بالسكوت فلايتحدث أحد ولايبري قلم ولايبتسم أحد، كأنهم في صلاة.
نقع في الجفاء حين تُترك الصلاة عليه لفظا أوخطا وأبخل الناس من بخل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقعنا في الجفاء حينما قل الحديث عن آل بيته ومديحهم وذكر فضائلهم..
ما اجمل الاعتدال فلا غلو ولاجفاء وما اجمل الاتباع والسير على هدي من سلف أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.. {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد..
اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا..
المرفقات
1726141429_«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي».docx
1726141430_«عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي».pdf