علم الإسناد مفخرة الأمة، وعظمة البخاري وكتابه

عبد الله العلي
1442/04/05 - 2020/11/20 09:57AM

الحمد لله، الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، الذي جعل الإسلام هو المهيمن على كل الأديان وكفى بالله حسيبا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله ربه بالهدى بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه النجباء، والتابعين الأماجد الفضلاء، من حفظوا سنة نبيهم وبلغو إلينا دين ربهم.

 

أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، فإن تقوى الله هي النجاح والفلاح.

معشر الكرام:

إن دين محمد ﷺ هو الدين المهيمن على الأديان قبله، وهو الناسخ لكل ما سبقه (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)

فالله سبحانه قد قضى أن يكون هذا الدين باقيا دائمًا إلى يوم القيامة، فتكفل الله سبحانه بحفظه، وقمع كل رائمٍ لهدمه  (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)

وقد تعرض الإسلام على مر الأزمان لمحاولات من قبل الأعداء المتربصين، من كفار ومنافقين حاقدين، للنيل من هذا الدين أو تحريفه أو تشويهه، فانقبلوا خائبين مخسوئين.

كناطح صخرة يوما ليوهنها     فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

معشر الكرام:

لما أراد الله سبحانه لهذا الدين أن يكون هو الباقي، هيأ لذلك أسبابًا وسبلا.

ومن هذه الأسباب سببٌ عظيمٌ لا زال ولا يزال مفخرة لهذه الأمة لم يشاركها فيه أحد من الأمم.. ألا وهو علم الإسناد.

علم الإسناد، وهو سلسلة الرواة المتصلة، كل راو يروي عمن قبله ممن سمعه أو كتب إليه حتى ينتهي إلى النبي ﷺ، في سلسلة منتظمة، ليس فيها تخبيط ولا تخريص.

فكل حديث لابد أن يكون له إسناد متصل، بدأ من الرواي الأخير ثم فوقه ثم من فوقه حتى يصل إلى النبي ﷺ، فإن لم يكن إسناده متصلا هكذا، فهو حديث مردود.

فإذا جاء حديث متصل تناوله علماء الحديث الجهابذ النقاد، فوضعوه على طاولة الفحص والاختبار:

فيفحصون إسناده:

  • هل ثبت إدراك أو سماع كل راوي عمن روى عنه؟
  • ثم يفحصون كل راو في هذا الإسناد وهذه السلسة، كيف قوة حفظه؟ كيف أمانته؟ كيف تدينه؟ كيف صلاته؟ كيف عبادته؟ كيف صدقه في أمور حياته كلها؟ فإن تجاوز الاختبار فهو ثقة يقبل حديثه، وإلا فهو ضعيف، وهكذا يفعلون مع كل راو.
  • ثم ينظرون في كل راو هل تفرد بهذا الحديث الذي رواه أم شاركه غيره؟

ثم ينتقلون إلى فحص متنه:

  • فيفحصون حروفه وكلماته.
  • ويفحصون معناه هل هو مخالف لغيره من الأحاديث أم لا؟ فإن كان متعارضا وضعوا اللوم على الراوي.
  • ثم يدققون فيه هل متوافق مع أصول الشريعة العامة أم لا؟ فإن كان غير متوافق علموا أن الراوي قد وهم فيه.

فإذا تجاوز الأحاديث أدوات الفحص هذه وغيرها، وهذا الاختبار الشديد فإنه حديث صحيح، وإلا فهو ضعيف.

نعم أيها الكرام، هل رأيتم أمة من الأمم تفعل هكذا؟

ولذلك قال الحافظ أبو علي الغساني:

خص الله هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها : الإسناد، والأنساب، والإعراب.

وهذا من تجليات قول المولى عز وجل:

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)

أيها الكرام:

لقد ضرب علماء الحديث أروع الأمثال وأغربها وأعجبها في التضحية بالنفس والمال لأجل حفظ سنة النبي ﷺ وكتابتها وتدوينها وتمييز الصحيح والسقيم منها.

فبعضهم يسافر يقطع آلاف الأميال، لأجل سماع حديث واحد، وبعضهم يضرب أكباد الإبل فيرحل المسافات البعيدة لأجل امتحان وفحص راو من الرواة والتأكد من حفظه وثقته، وبعضهم يرث من أبيه الآلاف فينفها كلها في سبيل طلب الحديث فيعود فقيرا لا يجد ما يشبعه، وبعضهم يفارق بلده وأهله وأحبابه لأجل لقيا الشيوخ وتلقي العلم والحديث منهم، وبعضهم يبيع أبوه أو أمه أغلى ما يملكون من بيوت أو حلي لأجل تجهيز ابنهم الصغير للسفر والرحلة في طلب العلم.

ومن هؤلاء الإعلام الإمام الجبل أبو عبد الله، محمد بن إسماعيل البخاري: نشأ يتيما فتولته أمه، وحبب الله إليه طلب العلم والحديث وهو صغير، فحفظ آلاف الأحاديث وهو لا يزال غلاما، ولقد صحح لشيخه غلطا وعمره إحدى عشرة سنة، ثم لما بلغ عمره ست عشرة سنة سافر إلى لطلب العلم والحديث.

ثم لما استوى عوده بدأ يصنف كتابه الجليل: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ﷺ وسننه وأيامه، وهو ما يسمى ب صحيح البخاري.

واستغرق في تصنيف هذا الكتاب العظيم وجمع أحاديث النبي ﷺ ومكث في هذا العمل الشاق ست عشرة سنة، يقول رحمه الله: ما أدخلت في كتابي الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته.

وبعد يا كرام:

فالمؤمن لا يرتاب ولا يخامره شك بأن هذا الدين محفوظ، ولكن هذه الأخبار تزيدُه غبطة وفخرا بهذا التراث العظيم وهذه الحضارة العلمية الفريدة.

فرحم الله -تعالى- أولئك الأئمة الأعلام الذين سخرهم الله -تعالى- لحفظ السنة النبوية، وتنقيتها مما أدخل فيها، وجمعنا بهم في جنات النعيم.






الخطبة الثانية:

الحمد لله الوليد الحميد، والصلاة والسلام على خير الورى وأشرف العبيد، أما بعد: فيا معشر الكرام:

فإن أصح الكتب بعد كتاب الله -تعالى- صحيح البخاري، وقد أجمع العلماء على ذلك.

عباد الله:

لم ينل صحيح البخاري هذه المنزلة اعتباطا أو مجاملة للبخاري.

بل وضع العلماء عبر الأجيال المتعاقبة صحيح البخاري على مشرحة النقد، وشرحوه حديثًا حديثًا، وجملة جملة، وكلمة كلمة، وإسنادا إسنادا، وراويا راويا، وما تركوا شاردة ولا واردة ينتقد فيها البخاري إلا فحصوها ودرسوها حتى وصلوا لحكمهم بأنه أصح الكتب بعد القرآن.

كما أن البخاري -رحمه الله تعالى- وضع من معايير قبول الحديث وشروطه ما لو طبق على العلوم الإنسانية المعاصرة لما احتملتها، وانهارت أمام شدتها.

معشر الكرام:

لقد أدرك الأعداء والمنافقون أن الطريق إلى هدم الإسلام هو التشكيك بناقليه، والطعن في الكتب التي جمعت أحكام الدين.

ولكن هيهات، فدين الله محفوظ، وأمره غالب.

قبض الخليفة هارون الرشيد على زنديق كان يضع الأحاديث ويكذب على النبي ﷺ،  فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي يا أمير المؤمنين؟ قال: أريح العباد منك. قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله ﷺ كلها ما فيها حرف نطق به رسول الله ﷺ؟

قال: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفًا حرفًا.

 

اللهم عليك بكل كائد للدين، افضحه وانتقم منه، ومن كل من أيده وناصره وحماه.

اللهم أعزنا بالدين، واجعلنا من أنصاره.

 

 

 

 

المشاهدات 516 | التعليقات 0