عقيدة المسلمين فيما يقع في الكون من خير وشر ..الدكتور هيثم بن جواد الحدَّاد
الفريق العلمي
الحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نَبيِّنا مُحمدٍ وآلِه وصَحبِه أجمَعينَ، وبَعدُ:
فهذه رِسالةٌ مُختَصَرةٌ فيما يَجبُ على المُسلِمينَ اعتِقادُه فيما يَجري في الكَونِ مِن خَيرٍ وشَرٍّ، وكَوارِثَ، ونِعَمٍ.
أولًا: اللهُ سُبحانَه هو رَبُّ العالَمينَ، وهو خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، ومالِكُ كُلِّ شَيءٍ، والمتَصَرِّفُ في كُلِّ شَيءٍ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، وهو بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ، وهو الحَكيمُ الخَبيرُ.
ثانيًا: كُلُّ ما سِوى اللهِ -مِن حَيَوانٍ، وجَمادٍ، وصَغيرٍ، وكَبيرٍ، ومِن مُشاهَدٍ وغَيرِ مُشاهَدٍ، حتى أفعالُ العِبادِ مَخلوقةٌ للهِ جَلَّ وعَلا- مَخلوقٌ؛ قال اللهُ جَلَّ وعَلا: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)[الزمر:62]، وقال سُبحانَه: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)[الصافات: 96].
ثالثًا: كُلُّ مَخلوقٍ فهو بقَدَرِ اللهِ؛ قال اللهُ تَعالَى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[القمر:49]، ومَعنى بقَدَرِ اللهِ : أنَّ اللهَ أرادَه أنْ يَقَعَ على صِفَتِه، وقَدْرِه، في ذلك الزَّمانِ، والمَكانِ، مِن قِبَلِ ذلك الفاعِلِ، لذلك السَّبَبِ، واللهُ مُحيطٌ بعِلْمِ ذلك كُلِّه، وقد كَتَبَ ذلك في اللَّوحِ المَحفوظِ، كما ثبَتَ في صَحيحِ مُسلِمٍ عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقُولُ: "كَتَبَ اللهُ مَقادِيرَ الخَلائِقِ قَبلَ أنْ يَخلُقَ السَّمَواتِ والأرضَ بِخَمسينَ ألْفَ سَنةٍ"(رواه مسلمٌ:2653)، وقد خَلَقَه اللهُ وأوجَدَه كما أرادَ وقَدَّرَ.
رابعًا: أقدارُ اللهِ في كلِّ ما يَقَعُ في الكَون لها حِكمةٌ بالِغةٌ، ولم يَخلُقِ اللهُ شَيئًا عَبَثًا؛ قال تَعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)[الأنبياء: 16]، وقال سبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)[المؤمنون: 115-116].
خامِسًا: أقدارُ اللهِ جَلَّ وعَلا قِسمانِ:
القِسمُ الأوَّلُ: ما يَقَعُ بكَسْبٍ مِنَ الإنسانِ وفِعْلِه، بصُورةٍ مُباشِرةٍ، فيُحاسَبُ عليه، ويُجزَى عليه في الدُّنيا، أو في الآخِرةِ، أو فيهما معًا، إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ؛ قال اللهُ جَلَّ وعَلا: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)[الزلزلة: 7، 8]، وقال سُبحانَه: (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الصافات: 39]. ومِن ذلك قِيامُ الإنسانِ بأسبابِ جَلْبِ المَصالِحِ، ودَفْعِ المَضارِّ، ومِنَ الجَزاءِ الدُّنيَويِّ حُصولُ ما رَتَّبَ اللهُ على هذه الأفعالِ مِن نَتائِجَ.
وتَعَلُّقُ هذه النَّتائِجُ بأسبابِها دَرَجاتٌ؛ فأعلاها عَلاقةً الشَّرطيَّةُ، وهي كَونُ السَّبَبِ شَرطًا في حُصولِ النَّتيجةِ، لا تَحصُلُ النَّتيجةُ إلَّا به، مع جَوازِ تَخَلُّفِ النَّتيجةِ، لِحِكمةٍ أرادَها اللهُ، مِثلَ أنَّ النِّكاحَ سَبَبٌ وشَرطٌ لِحُصولِ الوَلَدِ، والأكْلَ سَبَبٌ وشَرطٌ لِلشِّبَعِ، وبَعضَ الأدويةِ -وليس كُلَّها- أسبابٌ وشَرائِطُ لِحُصولِ الشِّفاءِ، والغِذاءَ الضَّارَّ سَبَبٌ لِلأمراضِ، والغِذاءَ الجَيِّدَ مع الرِّياضةِ وزَوالِ المَوانِعِ سَبَبٌ لِلصِّحَّةِ والقُوَّةِ، والاجتِهادَ سَبَبٌ لِلفَلاحِ على وَجْهِ العُمومِ.
وقد لا تَتَخلَّفُ النَّتيجةُ عنه؛ لِعَهدٍ أخَذَه اللهُ على نَفْسِه، مِثلَ دُخولِ الإسلامِ، جَعَلَه سَبَبًا وشَرطًا لِدُخولِ الجَنَّةِ، ومِثلَ الكُفرِ، جَعَلَه سَبَبًا وشَرطًا لِلتَّخليدِ في النارِ.
قال تَعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)[الانفطار:13-14].
وأدْنى هذه الدَّرَجاتِ العَلاقةُ المُتوهَّمةُ بَينَ السَّبَبِ والنَّتيجةِ، وهي ما لا دَليلَ عليها مِنَ الشَّارِعِ، وجَزَمَ الحِسُّ بضَعفِها، كبَعضِ الأدويةِ لِبَعضِ الأمراضِ.
وبَينَهما دَرَجاتٌ، كالسَّعيِ لِطَلَبِ الرِّزقِ، والأخْذِ ببَعضِ أسبابِ السَّلامةِ.
وكُلُّ ذلك بقَدَرِ اللهِ وحِكمتِه، كما تَقَدَّمَ.
فيَجِبُ على المُسلِمِ العَملُ على جَلْبِ المَنافعِ، ودَفْعِ المَضارِّ الدُّنيويَّةِ، والأُخرويَّةِ، ويَجِبُ عليه الأخْذُ بالأسبابِ التي جَعَلَها اللهُ شَرائِطَ لِلنَّتائِجِ؛ حِسًّا، وشَرعًا، مع اعتِقادِه أنَّها لا تُؤثِّرُ إلَّا بقَدَرِ اللهِ، ولو شاءَ اللهُ لَسَلَبَ عنها نَتائِجَها، في غَيرِ ما أخَذَ اللهُ العَهدَ فيه على نَفْسِه؛ فالالتِفاتُ إلى الأسبابِ شِركٌ في التَّوحيدِ، والإعراضُ عنِ الأسبابِ بالكُلِّيَّةِ قَدْحٌ في الشَّرعِ، ومَحوُ الأسبابِ أنْ تَكونَ أسبابًا نَقصٌ في العَقلِ؛ قال تَعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الأنفال: 60].
وقد قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "احْرِصْ على ما يَنفَعُكَ، واستَعِنْ باللهِ، ولا تَعجِزْ، وإنْ أصابَكَ شَيءٌ فلا تَقُلْ: لو أنِّي فَعَلتُ كان كذا وكذا؟ ولكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ "لو" تَفتَحُ عَمَلَ الشَّيطانِ"(رَواهُ مُسلِمٌ:2664).
وهذه سُنَّةُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وصَحْبِه وسلَّمَ، والنَّبيِّينَ مِن قَبْلِه.
وعلى الإنسانِ أنْ يَعتَمِدَ على اللهِ جَلَّ وعَلا، ويَتوَكَّلَ عليه في أنْ يَنفَعَ جَلَّ وعَلا بما يأخُذُ الإنسانُ مِن أسبابٍ، ويُبارِكَ فيه، قال تَعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق: 3]؛ فلا تَنافيَ بَينَ الأخْذِ بالأسبابِ والتَّوكُّلِ، بلِ التَّوكُّلُ مِن أعظَمِ أسبابِ حُصولِ النَّتائِجِ؛ فعَن عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّي اللهُ عليه وسلَّمَ يَقولُ: "لو أنَّكم كُنتُم تَوكَّلونَ على اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِه لَرُزِقْتُم كما يُرزَقُ الطَّيرُ، تَغْدو خِماصًا وتَرُوحُ بِطانًا"(رَواه التِّرمِذيُّ:2344، وقال: حَديثٌ حَسَنٌ]؛ فأثبَتَ الحَديثُ لِلطَّيرِ أسبابًا، هي غايةُ ما في وُسْعِها، وهي الغُدُوُّ والرَّواحُ.
القِسمُ الثاني: ما يَقَعُ بغَيرِ فِعلِ الإنسانِ، مِن مَنافِعَ تَحصُلُ له، ومَضارَّ تَقَعُ عليه، كأنْ يُولَدَ في هذا المَكانِ والزَّمانِ، وكأنْ يَموتَ في ذلك المَكانِ والزَّمانِ، وما يَجري عليه مِن مَصائِبَ مُتنَوِّعةٍ بَعدَ أخْذِه بالأسبابِ الحِسِّيَّةِ المَشروعةِ، كأنْ يُصيبَه ما يُؤذيه في جَسَدِه، أو مالِه.
ومِن ذلك تَصريفُ الكَونِ: الرِّياحِ، والأمطارِ، وأمواجِ البِحارِ، وكذلك الزَّلازِلُ، والبَراكينُ، والفَيَضاناتُ، وكَثيرٌ مِنَ الأمراضِ، والأوبِئةِ التي لم يَصنَعْ مادَّتَها بَشَرٌ، وكذلك نُزولُ الأمطارِ، وكَثرةُ الخَيرِ والنِّعَمِ.
وهذا القِسمُ يُوقِعُه اللهُ جَلَّ وعَلا إمَّا لأسبابٍ حِسِّيَّةٍ، وإمَّا لِأسبابٍ مَعنَويَّةٍ، وإمَّا لِكِلتَيْهما معًا، وهو الأغلبُ.
فأمَّا الأسبابُ الحِسِّيَّةُ فأمثِلَتُها: قَوانينُ الفِيزياءِ، والكِيمياءِ، والأحياءِ، مِثلَ تَبَخُّرِ الماءِ عِندَ حَرارةٍ مُعَيَّنةٍ، وحُصولِ بَعضِ الأمراضِ بسَبَبِ بَعضِ الأوبِئةِ، وحُصولِ الصِّحةِ بالغِذاءِ الجيِّدِ، وببعضِ الأدويةِ، وكذلك حُصولُ الكُسوفِ والخُسوفِ لأسبابٍ عِلميَّةٍ، والأغلَبُ أنَّ اللهَ سُبحانَه يُجريها مَقرونةً بأسبابٍ مَعنَويَّةٍ، كما تَقدَّمَ.
وأمَّا الأسبابُ المَعنويَّةُ، فهي ما جعَلَه اللهُ أسبابًا لإنزالِ نِعَمِه، أو إرسالِ نِقَمِه؛ فأعظَمُ ما يَجلِبُ النِّعمَ هو توحيدُ اللهِ وعِبادَتُه، والتَّوكُّلُ عليه، ودُعاؤُه، والتَّوبةُ إليه واستِغفارُه، وصَنائِعُ المَعروفِ، والإحسانُ إلى الخَلقِ.
قال تَعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
وعَن أبي أُمامةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "صَنائِعُ المَعرُوفِ تَقي مَصارِعَ السُّوءِ، وصَدَقةُ السِّرِّ تُطفئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وصِلةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ في العُمُرِ"(رَواه الطَّبَرانيُّ في المعجم الكبير:8014، وإسنادُه حَسَنٌ).
وأمَّا أعظَمُ ما يَجلِبُ النِّقَمَ، فهو الكُفرُ المَصحوبُ باستِكبارٍ، والفَواحِشُ، وظُلمُ العِبادِ.
وقال سُبحانَه: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشوري: 30 ].
عَن أبي بَكْرةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما مِن ذَنبٍ أجْدَرُ أنْ يُعَجِّلَ اللهُ لِصاحِبِه العُقوبةَ في الدُّنيا مع ما يَدَّخِرُ له في الآخِرةِ، مِنَ البَغيِ وقَطيعةِ الرَّحِمِ"(رَواه أحمدُ في المُسنَدِ:20398، والتِّرمِذيُّ:2511).
قال تَعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[آل عمران: 165].
سادِسًا: الذي يَقَعُ بغَيرِ فِعلِ الإنسانِ، مِن خَيرٍ وشَرٍّ، هو ابتِلاءٌ لِلنَّاسِ كُلِّهم، لِلمُسلِمِ والكافِرِ، والبَرِّ والفاجِرِ؛ قال اللهُ جَلَّ وعَلا: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[الأنبياء: 35]، وقال سُبحانَه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ)[الملك: 2]، وقال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)[الكهف: 7].
وكُلُّ هذه الأقدارِ التي تَقَعُ بغَيرِ فِعلِ الإنسانِ، هي خَيرٌ وشَرٌّ بحَسَبِ ما يَرَى الإنسانُ، لا بحَسَب المآلِ، كما أرادَ اللهُ جَلَّ وعَلا، لكِنَّها كُلَّها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم رَحمةٌ مِنَ اللهِ للعباد، وفيها حِكَمٌ كَثيرةٌ غَيرُ ما فيها مِنَ ابتِلاءٍ، قدْ يُظهِرُ اللهُ بعضَها لبَعضِ الخَلقِ، ولا يُظهِرُ بعضُها الآخَرُ؛ لِأنَّها مِنَ الغَيبِ، لكِنْ قد يَغلِبُ على الظَّنِّ بَعضُها، في بَعضِ الأحوالِ.
ومِن أهَمِّ هذه الحِكَمِ: إظهارُ رُبوبيَّةِ الرَّبِّ، وعَظَمَتِه، وقُدرَتِه، وقَهرِه، وآثارِ أسمائِه، وصِفاتِه جَلَّ وعَلا، وهذا أيضًا له حِكَمٌ كَثيرةٌ.
ومنها: تَنغيصُ الدُّنيا وتَكديرُها حتى يُدرِكَ الناسُ حَقيقَتَها؛ فلا يَركَنوا إليها؛ قال اللهُ تَعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[يونس: 24].
ومنها: تَكفيرُ السَّيِّئاتِ لِلمُسلِمينَ، وهذا مِن أكبَرِ النِّعَمِ، وقد دَلَّ على ذلك أدِلَّةٌ كَثيرةٌ مِنَ القُرآنِ والسُّنَّةِ؛ منها:
عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "ما يَزالُ البَلاءُ بالمُؤمِنِ والمُؤمِنةِ في نَفْسِه، ووَلَدِه، ومالِه، حتى يَلْقى اللهَ وما عليه خَطيئةٌ"(رَواه التِّرمِذيُّ:2399، وقال: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ).
وعن أنَسٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: "إذا أرادَ اللَّهُ بعَبدِه الخَيرَ عَجَّلَ له العُقوبةَ في الدُّنيا، وإذا أرادَ اللَّهُ بعَبدِه الشَّرَّ أمسَكَ عنه بذَنبِه حتى يُوَافيَ به يَومَ القِيامةِ"(رَواه التِّرمِذيُّ:2396، وقال: هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ مِن هذا الوَجْهِ).
ومنها: حُصولُ الأجْرِ، ورِفعةُ الدَّرَجاتِ، ولا يَكونُ ذلك إلَّا لِلمُؤمِنينَ، والأغلَبُ أنَّه مَشروطٌ بما يَصدُرُ منهم مِن صَبرٍ، ورِضًا، وشُكرٍ.
عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قالتْ: قال رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: "ما يُصيبُ المُؤمِنَ مِن شَوكةٍ فما فَوقَها، إلَّا رَفَعَه اللَّهُ بها دَرَجةً، أو حَطَّ عنه بها خَطيئةً"(رَواه مُسلِمٌ:2572).
ومنها: وَعظُ الناسِ، مُسلِمِهم وكافِرِهم، بَرِّهم وفاجِرِهم، وإنْ كان الأغلَبُ أنَّها تَحصُلُ لِلظَّلَمةِ والمتكَبِّرينَ، سواءٌ كانوا مُسلِمينَ أو كُفَّارًا؛ قال تَعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)[الإسراء: 59]، وقال تعالَى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96].
ومنها: حِكَمٌ أُخرى لا نَعلَمُها؛ لِتَدبيرِ الكَونِ، وتَصريفِ الأرزاقِ، واللهُ هو الحَكيمُ الخَبيرُ، وقد تَجتَمِعُ الحِكَمُ كُلُّها في بَعضِ أقدارِ اللهِ جَلَّ وعَلا.
سابِعًا: الواجِبُ عِندَ حُدوثِ النِّعَمِ لِلمُسلِم والكافِرِ، والبَرِّ والفاجِرِ:
1) تَوحيدُ اللهِ، بأنْ يَنسُبَ هذه النِّعَمَ للهِ، تَقديرًا، وإيجادًا، وخَلْقًا، وتَفَضُّلًا، وكَرَمًا، وأنَّه لو شاءَ لَمَنَعَها؛ قال تَعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)[النحل: 53]، وقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قال اللهُ جَلَّ وعَلا: "أصبَحَ مِن عِبادي مُؤمِنٌ بي، وكافِرٌ، فأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنا بفَضلِ اللهِ وبرَحمَتِه؛ فذلك مُؤمِنٌ بي، كافِرٌ بالكَوكَبِ، وأمَّا مَن قال: مُطِرْنا بنَوْءِ كذا وكذا؛ فذلك كافِرٌ بي، مُؤمِنٌ بالكَوكَبِ"(رَواه البُخاريُّ:3850، ومُسلِمٌ:71).
2) شُكرُ اللهِ -جَلَّ وعَلا- عليها باطِنًا وظاهِرًا، ثم استِعمالُها في مَرضاتِه، قال تَعالى: (وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)[النحل: 114].
3) قد يَنسُبُها لِكَسْبِه، بَعدَ تَوفيقِ اللهِ، دُونَ جَزمٍ، إنِ اجتَهَدَ في تَحصيلِ أسبابِها الحِسِّيَّةِ والمَعنَويَّةِ التي جَزَمَ الحِسُّ أوِ الشَّرعُ بها، دُونَ أنْ يُحدِثَ له ذلك غُرورًا وكِبْرًا؛ قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لوِ اجتَمَعتْ على أنْ يَنفَعوكَ بشَيءٍ، لم يَنفَعوكَ إلَّا بشَيءٍ قد كَتَبَه اللهُ لكَ، رُفِعتِ الأقلامُ، وجَفَّتِ الصُّحُفُ"(رواه الترمذيُّ:2516، وقال: هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ). وأنْ يَتذَكَّرَ أنْ لو شاءَ اللهُ ما وَقَعتْ.
4) ويُستَحَبُّ له الخَشيةُ مِن أنْ تَكونَ هذه النِّعَمُ استِدراجًا له، وعلى هذا كُلِّه كان فِعلُ السَّلَفِ رَضيَ اللهُ عنهم.
ثامِنًا: والواجِبُ عِندَ حُدوثِ المَصائِبِ التي ليس لِلإنسانِ فيها كَسبٌ مُباشِرٌ، مِثلَ الزَّلازِلِ، والبَراكينِ، والأوبِئةِ، والخُسوفِ، والكُسوفِ، وحَبسِ المَطَرِ:
1) تَوحيدُ اللهِ جَلَّ وعَلا، بأنْ يَنسُبَها إلى اللهِ تَقديرًا، وإيجادًا، وخَلْقًا، وعَدلًا، ورَحمةً، وأنَّه لو شاءَ صَرَفَها، وقد تَقَدَّمتْ أدِلَّةُ ذلك.
2) الصَّبرُ عليها باطِنًا، وظاهِرًا، والعَمَلُ على رَفْعِها؛ قال تَعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آل عمران: 200].
3) قد يَنسُبُها الإنسانُ لِنَفْسِه اكتِسابًا غَيرَ مُباشِرٍ، بدُونِ جَزمٍ، إنْ كانت ممَّا أخبَرَ الشَّرع بوُقوعِها بسَبَبِ عِصيانِه، وفُجورِه، مِثلَ حَبسِ المَطَرِ، وذَهابِ البَرَكةِ.
4) ولِذلك عليه أنْ يَتَّعِظَ بها؛ فقد تَكونُ عُقوبةً لِلعاصينَ، أو تَذكيرًا لهم، قال تَعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم: 41]؛ فيَتوبَ ويَستَغفِرَ ويُكثِرَ مِنَ الصَّالِحاتِ، ولِهذا كان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَفزَعُ إلى الصَّلاةِ عِندَ حُدوثِ المَصائِبِ، وشَرَعَ لنا صَلاتَيِ الخُسوفِ والكُسوفِ.
تاسِعًا: إنْ قامَ الناسُ بما شُرِعَ لهم عِندَ النِّعَمِ، وعِندَ النِّقَمِ، ظَهَرتْ رَحمةُ اللهِ جَليَّةً، وكانتِ العاقِبةُ خَيرًا لهم في الدُّنيا والآخِرةِ، فيَتوبَ الكافِرُ والعاصي، ويَزدادَ المُسلِمُ مِنَ الخَيرِ. فإنْ لم يَقوموا بما شَرَعَ اللهُ لهمُ، انقَلَبتِ النِّعَمُ نِقَمًا، وازدادَتِ النِّقَمُ أثَرًا، في الدُّنيا والآخِرةِ.
والخُلاصةُ: أنَّ جَميعَ ما يَجري في الكَونِ مِن خَيرٍ وشَرٍّ هو مِن أقدارِ اللهِ جَلَّ وعَلا، وخَلْقِه، فإنْ لم يَكُنْ لِلإنسانِ فيه كَسبٌ مُباشِرٌ، فهو بعدل الله، ومِن رَحمتهِ، وأرادَ اللهُ به خَيرًا له، وإنْ قامَ الإنسانُ بما أوجَبَ اللهُ عليه عِندَ السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، جَعَلَ اللهُ عاقِبةَ ذلك خَيرًا له في الدُّنيا والآخِرةِ، وإنْ لم يَقُمِ الإنسانُ بما شَرَعَ اللهُ له، انقَلَبتْ تلك النِّعَمُ نِقَمًا، وازدادتِ النِّقَمُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، وعليه أنْ يأخُذَ بالأسبابِ التي نَصَبَها اللهُ مُسَبِّباتٍ لِلنَّتائِجِ، مع تَوَكُّلِه على اللهِ جَلَّ وعَلا.
نَسألُ اللهَ جَلَّ وعَلا بمَنِّه وكَرَمِه أنْ يَلطُفَ بنا، وأنْ يُبَصِّرَنا بدينِنا؛ إنَّه وَليُّ ذلك والقادِرُ عليه.
تَمَّتِ الخُلاصةُ والحَمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خاتَمِ الأنبياءِ والمُرسَلينَ نَبيِّنا مُحمدٍ وآلِه وصَحْبِه أجمَعينَ.