عقبات في طريق العفة
محمد ابراهيم السبر
عقبات في طريق العفة
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علماً، وجعل لكل شيء قدراً، خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً، وكان ربك قديراً، أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، (خلق الزوجين الذكرَ والأنثى من نطفة إذا تمنى)، وأشهد أن محمداً عبده المجتبى ونبيه المرتضى ورسوله المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فاتقوا الله عباد الله:(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
عباد الله، إن من السنن الكونية التي فطر الله الناس عليها الزواج، وهو فطرة قبل أن يكون شرعة قال تعالى: (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون). ومن رغب عنه؛ فقد خالف السنة قال r:" أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" متفق عليه.
الزواج آية من آيات الله العظيمة قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودةً ورحمةً إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) فوصف الله المرأة بالسكن، لأن السكن يأوي إليه صاحبه ليجد الطمأنينة والراحة، سكنٌ يغض بصره ويُحصن فرجه ويَنشر شمله ويُبقى ذِكره.
والإسلام رغب في الزواج وحثّ عليه قال تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)، وفي الصحيحين أنه e قال: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء ".
وها هو الإسلام يأتي مطمئناً لقلوب الهاربين من تحمل أعباء الزواج ومسؤولياته فيقول تعالى: (إن يكونوا فقرَاء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة حق على الله عونهم، وذكر منهم: الناكح يريد العفاف ". أخرجه الترمذي. قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: " أطيعوا الله فيما أمركم به من الزواج ينجز لكم ما وعدكم من الغنى"، وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: التمسوا الغنى في النكاح.
وللزواج فوائد ومنافع عظيمة منها: إعفافُ المتزوجَين، وحصولُ النسل الذي يكثر به عدد الأمة وتقوى به جماعتها، قال صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) [رواه أبو داود والنسائي].
من أجل هذه المصالح وغيرها رغب الشرع في الزواج، وحث على تيسيره وتعبيد طريقه ونهى عن كل ما يقف عقبةً في طريقه أو يعكر صفوه.
بيد أن هناك مشكلة خطيرة في المجتمع تؤذن بخراب البيوت وفساد الأخلاق، ويئنّ من لأوائها فئام من الشباب والفتيات وهي العنوسة، فيتأخر الزواج بسبب أو بدون سبب، عقبات وضعها بعض الناس بتصرفاتهم السيئة، وبما تمليه عليهم أهواؤهم حتى أصبح الزواج من أصعب الأمور بل هو أصعبها، ومن هذه العقبات:
العضلُ وهو منع المرأة وحرمانها من الزواج بكفئها، وهذا من أعظم أسباب تفشي العنوسة خطراً، فإذا تقدم شاب كفء يخطب الفتاة منعها وليها من الزواج إما طمعاً في مالها، أو لأنه يريد زوجاً آخر يفوقه مالاً أوجاهاً، وقد تعضل الفتاة بسبب تدخل قُصار النظر بحجج واهية، ويوم أن يتولى السفهاء الزمام تضيع المسؤولية وتفسد الأمور قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) [رواه الترمذي].
إن عضل المرأة أمرٌ نهى عنه الشرع بل وحذر الأولياء من ظلم مولّياتهم، بمنعهن من التزوج أو الحجر عليهن فقال تعالى: (وإذا طلّقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن)، فمن يرد الخُطاب بحجج واهية جنى على المرأة حين منعها من كفئها وفوَّتَّ عليها فرصة الزواج الذي هو عين مصلحتها، وقد تحجر المرأة لابن عمها أو قريبها الذي لا يفكر فيها أبداً، وقد يكون غيرَ صالح في دينه ولا مرضي في سيرته!
ومن السلوكيات الخاطئة شدةُ الولي مع الخُطاب فيتشدد في الشروط، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن صور العضل أن يمتنع الخطاب من خطبة المرأة لشدّة وليِّها".
وسببٌ آخر من أسباب العنوسة لا يقل أهمية عن سابقه، ألا وهو مشكلة غلاء المهور فبلغت في بعض الأوساط، حدًا خياليًا، لا يطاق إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهل الزوج.
إن المهر-حفظكم الله- وسيلة لا غاية، وإن المغالاة فيه لها آثار سيئة على الأفراد والمجتمعات لا تخفى على العقلاء، وسهولة المهر ويسره مما يجلب البركة، واليمن، والمحبة بين الزوجين؛ قال صلى الله عليه وسلم: " إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة " رواه أحمد والبيهقي.
وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على المغالين في المهور، فلما جاءه رجل يسأله فقال: إني تزوجت امرأة على أربع أواق من الفضة، فقال: " على أربع أواق؟! كأنما تنحتون الفضة من عُرض هذا الجبل، ما عندنا ما نعطيك". رواه مسلم.
وقال عمر رضي الله عنه: " ألا لا تُغالوا في صَدُقات النساء، فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوىً في الآخرة لكان أولاكُم بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه، ولا أُصدقت امرأةٌ من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية". [رواه أحمد وأهل السنن]، والاثنتا عشرةَ أوقية تساوي مائةً وعشرينَ ريالاً سعودياً بريال الفضة.
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: " فمن دعته نفسه إلى أن يزيد صداق ابنته على صداق بنات رسول الله اللواتي هن خير خلق الله في كل فضيلة وهن أفضل نساء العالمين فهو جاهل أحمق ".
وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بما معه من القرآن، فقال: "هل عندك من شيء تصدقها؟" قال: ما أجد شيئًا، فقال صلى الله عليه وسلم:" التمس ولو خاتمًا من حديد "، فلم يجد، فقال:" أمعك من القرآن شيء؟"، قال: نعم سورة كذا وكذا وسورة كذا، لسور سمّاها، فقال: " قد زوجناكها بما معك من القرآن " رواه البخاري.
وزوج النبي صلى الله عليه وسلم جليبياً وكان من أفقر الصحابة، من إحدى بنات الأنصار، وتزوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على وزن نواة من ذهب، وهو من أغنى أهل المدينة.
وبعض الفتيات يرفضن الزواج بحج واهية، فيمضي بهنَّ قطار العمر، فلا يشعرن إلا حين يقف بهنَّ في محطة العُنُوسة، ناهيكم عن غرور بعضهن واعتقادهن أن فارس أحلامهن لم يولد بَعْدُ، مع تفضيل الدراسة والوظيفة على الزواج، واختيار العنوسة اختياراً؛ وذلك من خلال بحثهن عما يسمى الحرية الزائفة، والتهرب من الالتزامات فيتركن الحجاب، وينسقن وراء التيارات الفكرية المنحرفة.
فاتقوا الله معاشر الأولياء، ويسروا أمر الزواج ولا تعسروه، واحرصوا على من ترضون دينه وخلقه، وإياكم من الرغبة في المال دون الدين، فالمال عرض زائل وعارية مستردة، والبقاء للدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الذكر والحكمة، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وإن المشروع للأولياء التوسط في المهور ما أمكن، وترك التكلف والمباهاة في توابعها من الحفلات والولائم، والاعتدال في النفقة بما فيه ليس إجحاف بالزوج، ولا مضرة على المرأة، وتيسير طريق الحلال، فهذا ما شرعه الإسلام، وهذا ما رضيه لأبنائه، وابتعدوا عن البطر والخيلاء والإسراف وغيرها من العادات الجاهلية، التي لا تأتي بخير، ولا تقر بها إلا عين الشيطان.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحب وترضى، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.