عِفَّةُ جُرَيْجٍ
محمد بن مصطفى بن الحسن كركدان
الحمد لله الذي مَنَّ على البشريَّةِ بالإسلام، فهدى من شاء إلى سُبُلِ السَّلام، أحمدُه سبحانه وأشكرُه على نعمه العِظَام، وأستعينُه وأستغفرُه من جميع الخطايا والآثام، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهدُ أن نبيَّنا وإمامنا وقُرَّة عيوننا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أشهدُ بأنَّه قد بلَّغَ الرِّسَالةَ، وأدَّ الأمانةَ، ونصحَ الأُمَّةَ، وكشفَ اللهُ به الغُمَّةَ، تركنا على الـمَحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهُمَّ صَلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمدٍ نبي الرحمة والسلام، وعلى آله وصحبه الكرام.
عباد الله، أُوصيكُم ونفسي الـمُقَصِّرة بتقوى الله -عزَّ وجلَّ-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[1].
أما بعد، القصصُ والأخبارُ لها أثرٌ كبيرٌ في حياة الناس، فقد تُذَكِّرُ غافلًا، وتُعَلِّمُ جاهلًا، قال -سبحانه-: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[2].
إخوة الإيمان، أطرحُ على مسامعكم اليوم قصَّةً عجيبةً، وحادثةً غريبةً، هذه القِصَّةُ لطفلٍ تكلَّمَ في الـمَهْدِ بعد ولادته، ونطق بكلمة الحقِّ أمام الناس رغم صغر سِنِّه، ومعلومٌ عباد الله أن الطِّفْلَ الرَّضيعَ لا يُعبِّرُ عن حاله وحاجته إلا بالدموع والبكاء، غير أن الطِّفْلَ الذي نَقُصُّ خَبَرَهُ، ونحكي حكايَتَهُ قد أنطقه اللهُ الذي أنطق كُلَّ شيء! فسبحان من أنطقه! وسبحان من عَلَّمه!
أيها المسلمون، لن أُحَدِّثكم اليوم عن نبيِّ اللهِ عيسى -عليه السلام-، وإنما أُحَدِّثكم عن الطِّفْلِ الذي أنقذ العابدَ من ضيقه وبلائه الذي نزل به!
فهل سمعتم بقصة الطَّفْلِ مع العابد؟! وهل عرفتم كيف أنقذه من العار الذي لحقه؟! لعلَّ بعضكم قد سَمِعَ بقِصَّتهما العجيبة، وثبتت في قلبه، وصارت له موعظةً يعظُ بها نفسَهُ، وأهلَ بيتِهِ، ولعلَّ بعضكم لم يسمع بالخبر.
فإليكم عباد الله هذه القصة التي قَصَّها رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، وأخرجها الشيخانُ البخاريُّ ومُسْلِمٌ في صحيحهما عن الصحابيِّ الجليل أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، قال: قال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ)[3].
فجُرَيْجٌ عباد الله هو: العابدُ، وصاحبُهُ: الطَّفْلُ الذي أنقذه.
فما قصَّةُ جُرَيْجٍ؟ وما قصَّةُ الطَّفْلِ معه؟
إخوة الإيمان، جُرَيْجٌ رَجَلٌ من بني إسرائيل، إنسانٌ عابدٌ كثيرُ العبادة في صَوْمَعَتِهِ، وبين هو مشغولٌ في عبادته إذ أتته أُمُّهُ يومًا وهو يصلِّي، ونادته: يا جُرَيْجُ.
سمع الابنُ نداءَ أُمِّهِ، وبقي في حَيْرَةٍ من أمره! هل يقطع عبادَهُ ويجيب أُمَّهُ، أم يواصل عبادته ويترك إجابةَ أُمِّه؟!
اختار جُرَيْجٌ العبادةَ؛ لما وجد في قلبه من لذَّتِها، وهجر أُمَّهُ ولم يُجِبْهَا، فتركته أُمُّهُ وانصرفت، ثم جاءته من الغَدِ للمرَّةِ الثانية، ونادته، وتردَّدَ جُرَيْجٌ في إجابتها كما حصل في المرة الأولى، وقدَّم العبادةَ على تلبية نداء أُمِّهِ، فتركته الأُمُّ وانصرفت، ثم عادت من الغَدِ ونادته الثالثة، فلم يُجبها، وهنا كانت الكارثة!
الأمُّ تنادي ابْنَها، والابنُ مشغولٌ بعبادته التي مَلَكَتْ عليه قلبه، فما كان منها إلا أن دعت عليه وقَالَتْ: (اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ!).
أي: لا تُمِتْهُ حتى يَرى وجوهَ النِّسَاءَ الزَّوَانِيَ نسألُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ!
وقد أجاب اللهُ دعاءها، وتعرَّضَ جُرَيْجٌ للفتنة من امرأةٍ بَغِيٍّ تحدَّتتْ قومها على فتنته، وتَعَرَّضَتْ له في ذات يومٍ، فرأى ما رأى من جمالها! غير أنَّه أعرض عنها، ولم يَلْتَفِتْ إليها، واستعلى عليها بما يحمله في قلبه من إيمانٍ بربِّهِ، وصِلَةٍ قويَّةٍ بخالقِهِ، فخاب ظَنُّ البَغِيِّ، بعدما حسبت أن جمالها سيوقعه في شباكها كما أوقعت من قبل ضعاف النفوس.
لم يقف المشهد عند هذا الحد، ولم تترك البَغِيُّ جُرَيْجًا دون إيقاعه، ففكَّرتْ في حِيلةٍ تُرْدِيهِ، ومصيبةٍ تُشْقيهِ، فأملى عليها شيطانُها أن تَفْجُرَ مع راعٍ كان يأوي في صومعته؛ لتحمل منه، وتُلْصق الحمل بجُرَيْجٍ!
وهذا ما حدث، وهذا ما كان؛ حيث مكَّنت البَغِيُّ نفسها من الراعي، ففوقع عليها فحملت منه؛ فلما ولدت، ألحقت الولدَ بجُرَيْجٍ!
انتشر الخبرُ، وعلمَ النَّاسُ بما حصل، وأسرعوا إلى صومعة جُرَيْجٍ، وهدموها، وضربوه وهو لا يدري سبب ضربه، فلمَّا سألهم وقال لهم: (ما شأنُكُم؟!).
قالوا: (زنيت بهذه البَغِيِّ فولدت منك!).
فسأل جُرَيْجٌ مباشرة وقال: (أين الصَّبِيُّ؟!).
فأدخلوه عليه، فلمَّا رآه قال: (دعوني حتى أُصَلِّيَ).
قضى جُرَيْجٌ صلاتَه، وانصرف إلى الصَّبِيِّ، ووقف عنده وسأله قائلًا: (يا غُلَامُ، من أبوك؟!).
سبحان الله! يسألُ الطَّفْلَ الرَّضيعَ أمام الملأ عن أبيه! وهل من المعقول أن يتحدَّثَ الرَّضيعُ! لا يُعْقل ولا يُصَدَّق! ولكن حدثت الكرامةُ له، وكان ما كان، وأنطق اللهُ الطِّفْلَ الرَّضيعَ بكلمة الحَقِّ أمام الملأ وقال: (فلانٌ الراعي!).
صُدِمَ النَّاسُ بكلامه! وشعروا بالحرج من جُرَيْجٍ! فأقبلوا عليه يقبِّلونه بعدما ضربوه، وهدموا صومعته، وأخبروه بإعادة بنائها من ذهبٍ؛ غير أنَّ جُرَيْجًا رفض، وقال لهم: أعيدوها من طِينٍ كما كانت، ففعلوا.
هذه عباد الله قصَّةُ الطَّفْلِ مع جُرَيْجٍ، وهذا ما حدث وكان، والله أسأله الحفظ لقلوبنا، وأهلنا، وأولادنا من كل سوء.
بارك اللهُ لنا في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر اللهَ العظيمَ من كُلِّ ذَنْبٍ فاستغفروه، وقد أفلح المستغفرون.
الخطبة الثانية.
الحمدُ للهِ حَقَّ حَمْدِهِ، والشكرُ لله حَقَّ شُكْرِهِ، أحمدُهُ سبحانه وأشكرُهُ، وأستعينُهُ وأستغفرُهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ نَبِيَّنَا وإمامنا وقُرَّةَ عيوننا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، وصفيُّه من خَلْقه ومختارُه وخليلُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسَلَّم تسليمًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه إلى يوم الدين.
أما بعد، عِفَّةُ جُرَيْجٍ، فائدةٌ عظيمةٌ نستفيدُها من هذه القصِّةِ التي قَصَّها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-.
عِفَّةُ جُرَيْجٍ، موعظةٌ جليلةٌ نعظُ بها قلوبَنا، وأهلَنا، وأولادَنا.
عِفَّةُ جُرَيْجٍ، نحتاجها سلوكًا عند مخالطتنا للناس في طريقنا، وعملنا، وعند قضاء حوائجنا.
عِفَّةُ جُرَيْجٍ، نحتاجها أدبًا وحياءً من الله عند تقليب الشاشات في جوالاتنا، وغيرها من الشاشات الـمَرْئية.
عِفَّةُ جُرَيْجٍ، ثَمَرَةٌ من ثمرات الإيمان، ونِعْمَةٌ من قُوَّةِ الصِّلَةِ بالرحمن -جلَّ جلاله-.
يا عبد الله، قوَّةُ إيمانِكَ بربِّكَ، وعظيمُ صِلَتِكَ بخالِقَكَ سببٌ -بإذن الله- لنجاتِكَ من الوقوع في أوحال الرَّذِيلة بعدما استنار قَلْبُكَ بأنوار الفضيلة، قال اللهُ -عزَّ وجلَّ-: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[4].
وجاء في حديث ابن عَبَّاسٍ -رضي اللهُ عنهما- حين عَلَّمَه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- وقال له: (يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ)[5].
فحفظُكَ لحقوق الله يا عبد الله في سرِّكَ وعلانِيَّتِكَ، وعملُك الصَّالح: يحفظك من الآثام، ويقيك من الأخطار الجِسَام.
قال الإمامُ النَّوويُّ -رحمه الله-: "قد نَصَّ اللهُ -تعالى- في كتابه أن العملَ الصَّالحَ ينفع في الشِّدَّةِ، ويُنَجِّي فاعلَهُ، وأنَّ عمل المصائب يؤدي بصاحبه إلي الشِّدَّةِ، قال اللهُ -تعالى- حكايةً عن يُونُسَ -عليه السلام-: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[6]، ولـمَّا قال فِرْعَونُ: (آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، قال له الـمَلَكُ: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[7]"[8].
فاحفظ حُقوقَ اللهِ يا عبد الله، احفظ حقوقه في السِّرِّ والعَلَنِ، وكن عفيفًا في حياتك ومعاشك، وخالف هواك إذا دعتك لمعصية خالِقكَ، وتذكَّر حالك في القيامة إذا قامت أين مكانك ومقامك؟! قال -جلَّ جلاله-: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)[9].
خالــــــــــف هـــــــــــواكَ إذا دعاكَ لرِيبةٍ .. فَـلَـــرُبَّ خَيْرٍ في مخالفـــــةِ الـــهَوَى
عَلَــــمُ الـمَحَجَّةِ بَيِّـــنٌ لـمُرِيــــدِهِ .. وأرى القــلــوبَ عن الـمَحَجَّــةِ في عَمَـى
اللهمَّ نَوَّر قلوبنا بالإيمانِ، واجعلنا من أهل طريق الإحسان، وأكرمنا الفوز بالجنان يا كريم يا رحمن، صلوا وسلموا عباد الله على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه فقال عزَّ من قائلٍ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[10].
[3] ينظر القصة بتمامها في صحيح البخاري رقم (3436)، وصحيح مسلم رقم (2550).
[5] رواه أحمد في مسنده رقم (2763)، والترمذيُّ في جامعه واللفظ له رقم (2516)، وقال: "هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ".
المرفقات
جُرَيْجٍ
جُرَيْجٍ
جُرَيْجٍ