عظمة الله في ذاته وصفاته
سامي بن محمد العمر
1438/02/11 - 2016/11/11 15:52PM
عظمة الله في ذاته وصفاته
1438/2/11
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: هلموا بنا نبحث في هذا الخبر عن مفتاحٍ... إن منَّ الله عليك فوجدته، ثم أحسنت الأخذ به واستعماله، انفتحت لك أبواب السعادة الدنيوية والأخروية.
أما الخبر:
فعنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ:
لَمَّا بَلَغَنِي خُرُوجُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَرِهْتُ خُرُوجَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً , فَخَرَجْتُ حَتَّى وَقَعْتُ نَاحِيَةَ الرُّومِ, حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى قَيْصَرَ , فَكَرِهْتُ مَكَانِي ذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ كَرَاهِيَتِي لِخُرُوجِهِ , فَقُلْتُ: وَاللهِ لَوْلا أَتَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ, فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَضُرَّنِي, وَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَلِمْتُ, فَقَدِمْتُ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلا كِتَابٍ , فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا رَآنِي النَّاسُ قَالُوا: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ , عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ , فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ , إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ.
ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي فَقَامَ - وَقَدْ كَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللهُ يَدَهُ فِي يَدِي)) - فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَصَبِيٌّ مَعَهَا , فَقَالا: إِنَّ لَنَا إِلَيْكَ حَاجَةً, فَقَامَ مَعَهُمَا حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُمَا, ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي حَتَّى أَتَى بِي دَارَهُ؛ فَأَلْقَتْ لَهُ الْوَلِيدَةُ وِسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَ, وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ , فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ, ثُمَّ قَالَ:
((مَا يُفِرُّكَ - أَيْ: مَا يَحْمِلُك عَلَى الْفِرَارِ - ؟ , أَنْ تَقُولَ لا إِلَهَ إِلا اللهُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى اللهِ؟ )) , قُلْتُ: لا , ثُمَّ تَكَلَّمَ سَاعَةً, ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّمَا تَفِرُّ أَنْ تَقُولَ اللهُ أَكْبَرُ؟ , فَهَلْ تَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا أَكْبَرُ مِنْ اللهِ؟)) قُلْتُ: لا, قَالَ: ((فَإِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ, وَإِنَّ النَّصَارَى ضُلَّالٌ ، يَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ , أَسْلِمْ تَسْلَمْ - ثلاثاً -)).
فَقُلْتُ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ، قَالَ : (( أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ )) , فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟, قَالَ: (( نَعَمْ ؛ أَلَسْتَ رَكُوسِيًّا؟ ))- والرَّكُوسِيَّة: ديانة مأخوذة من دين النصارى والصابئة - , قُلْتُ: بَلَى, قَالَ: ((أَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَكَ؟)) , قُلْتُ: بَلَى , قَالَ: ((أَلَسْتَ تَأْخُذُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟)) - أي : رُبُعُ الْغَنِيمَةِ, كَانَ رَئِيسُ الْقَوْمِ يَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- , قُلْتُ: بَلَى , قَالَ: ((فَإِنَّ هَذَا لا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكِ)).
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ تَوَاضَعَتْ مِنِّي نَفْسِي.
فَقَالَ: ((أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنْ الإِسْلامِ, تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ, وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ, وَقَدْ رَمَتْهُمْ الْعَرَبُ !! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمْرَ, أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟)) - مدينة تبعد ثلاثة أميال عن الكوفة، ويقال هي النجف -, قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا, وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا.
قَالَ: ((فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ - أي المرأة في الهودج - تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ , حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ , لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللهُ)) ، فَقُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي: فَأَيْنَ لُصُوصُ طَيءٍ الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلادَ؟ - أي ملؤا الأرض شراً وفساداً - .
قَالَ: ((وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى)) فَقُلْتُ: كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟
قَالَ: ((نَعَمْ، كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ , وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطُوفَ بِصَدَقَتِهِ , فلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ)).
فَقُلْتُ: إِنِّي جِئْتُ مُسْلِمًا, قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ تَبَسَّطَ فَرَحًا, ثُمَّ أَمَرَ بِي فَأُنْزِلْتُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ, فَجَعَلْتُ آتِيهِ طَرَفَيْ النَّهَارِ.
قَالَ عَدِيٌّ: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنْ الْحِيرَةِ , فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارٍ , وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ , وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ , لأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَهَا.
عباد الله: هل وجدتم المفتاح الذي نبحث عنه؟ وهل شدَّ انتباهكم خلال هذا الحوار؟
أهو تواضعه صلى الله عليه وسلم، أم حسن حِواره، أم علمه بأديان أهل الأرض، أم وعد الله له بنصرة هذا الدين، أم دلائل نبوته التي تحققت، أم ... و... أم؟
لقد شدني انتباهي أمرٌ آخر.
لقد استوقفني قوله صلى الله عليه وسلم : ((فَهَلْ تَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا أَكْبَرُ مِنْ اللهِ؟))
نعم... ذلك هو مفتاح باب الخشية والخوف والمراقبة.
ذلك مفتاح باب التوبة والإقبال والإنابة
ذلك مفتاح باب الهداية والتوفيق والصلاح.
الله العظيم... وهل أحدٌ أعظم من الله؟ .
الله الكبير... وهل أحدٌ أكبر من الله؟
"يدبر أمر الممالك، ويأمر وينهى، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويعز ويذل، ويقلب الليل والنهار، ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الدول فيذهب بدولة ويأتي بأخرى، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وما تحتها، وفي البحار والجو، قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً ..
وسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه، ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على تفنن حاجاتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تُغلِطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات، وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة والسر عنده علانية .. ﴿ يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن﴾.
يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويستر عورة، ويؤمن روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين ...
لو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وآخرَهم، وإنسهم وجنهم، كانوا على أتقى قلب رجل منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئاً ولو أن أول خلقه وأخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً،
ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وأخرهم، وإنسهم وجنهم، وحيهم وميتهم، ورطبَهم ويابسَهم، قاموا على صعيد واحد فسألوه فأعطى كلاً منهم ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة ..
هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، وهو أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأولى من شُكر، وأرأف من ملك، وأجود من سئل ...
هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والصمد فلا ولد له، والعلي فلا شبيه له، كل شيء هالك إلا وجهه، وكل شيء زائل إلا ملكه ..
لن يطاع إلا بأذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، أخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، عطاؤه كلام وعذابه كلام ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ " ا.هـ من كلام ابن القيم بتصرف.
فيا عباد الله : ﴿ما لكم لا ترجون لله وقارا﴾
قال ابن عباس في تفسيرها: "أي لا تعرفون عظمة الله تعالى" ، وقال الحسن: "أي: مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرونه" ، وقال مجاهد: "لا تبالون عظمة ربكم".
الله تبارك وتعالى هو العظيم في ذاته .. العظيم في أسمائه .. العظيم في صفاته .. العظيم في أفعاله .. العظيم في ملكه وسلطانه .. العظيم في خلقه وأمره .. العظيم في دينه وشرعه .. ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد :
فإليكم جانباً يسيراً من دلائل عظمة ربنا في ذاته العلية - تعالى ربنا وتقدس - .
ومن ذلك أن العالم كلَّه؛ علويَّه وسفليَّه بالنسبة إليه سبحانه في نهاية الصغر، قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أخرجاه وفي رواية لمسلم: " والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الله ".
وروى ابن جرير في تفسيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرس)).
وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض)).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".
ومع كل ذلك البعد، فقد أحاط بهم رؤية وسمعاً وعلماً وتصرفاً...
﴿ ولايحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير﴾
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾.
ومنْ عظمته تعالى في ذاته... ما حصَل لموسى عليه السلام حين طلب رؤْية ربه العظيم، فكان الجواب:
﴿ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
قال ابْن عباسٍ - رضي الله عنْهما -: "ما تجلَّى منْه إلاَّ قَدْر الخِنْصر".
وعنْ أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... حِجابُه النُّور لوْ كشَفَه لأحْرقَتْ سبُحاتُ وجْهِه ما انْتهى إليْه بصَرُه مِنْ خَلْقه))؛ أخْرجه مسْلم.
فسُبْحانك ربَّنا ما عظَّمْناك حقَّ تعْظيمك، وما أطعْناك حقَّ طاعتك.
إن القلب الممتلئ بتعظيم الله ليورث صاحبه رضًا وصبْرًا، ويدْعوه إلى العمل الصالح طاعةً وشكْرًا، ويجنبه محارم الله خوفاً وفَرَقاً.
والمعظم لربه... لديْه من الثقةٌ بالله، ما يجعله هادِئَ البال، ساكِنَ النَّفْس، مستشعراً معية الله سبحانه له، بالحفظ والنصر والتأييد.
أمَا والله لوْ علم العباد ما لله من العظمة ما عصَوْه، ولوْ علم المُحبُّون ما لَه من الجمال والكمال ما أحبُّوا غيْره، ولوْ عرف الفقراء غِنَى الربِّ ما رجَوْا سواه، فسبْحانه وتعالى هو سلْوان الطائعين، وملاذ الهاربين، وملْجأ الخائفين.
اللَّهم امْلأْ قلوبَنا إعْظامًا وإجْلالاً لك، واجْعلْنا من الرَّاغبين الرَّاهبين الخاشعين.
اللهم اجعلنا لك شكّارين، لك ذكّارين، لك رهاّبين، ، لك مطيعين، إليك مخبتين، لك خاشعين، لك ذليلين ... إليك أوّاهين منيبين.
ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم..
1438/2/11
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: هلموا بنا نبحث في هذا الخبر عن مفتاحٍ... إن منَّ الله عليك فوجدته، ثم أحسنت الأخذ به واستعماله، انفتحت لك أبواب السعادة الدنيوية والأخروية.
أما الخبر:
فعنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ:
لَمَّا بَلَغَنِي خُرُوجُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَرِهْتُ خُرُوجَهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً , فَخَرَجْتُ حَتَّى وَقَعْتُ نَاحِيَةَ الرُّومِ, حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى قَيْصَرَ , فَكَرِهْتُ مَكَانِي ذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ كَرَاهِيَتِي لِخُرُوجِهِ , فَقُلْتُ: وَاللهِ لَوْلا أَتَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ, فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا لَمْ يَضُرَّنِي, وَإِنْ كَانَ صَادِقًا عَلِمْتُ, فَقَدِمْتُ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلا كِتَابٍ , فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا رَآنِي النَّاسُ قَالُوا: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ , عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ , فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ , إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إِلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ.
ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِي فَقَامَ - وَقَدْ كَانَ قَالَ قَبْلَ ذَلِكَ: ((إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَ اللهُ يَدَهُ فِي يَدِي)) - فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَصَبِيٌّ مَعَهَا , فَقَالا: إِنَّ لَنَا إِلَيْكَ حَاجَةً, فَقَامَ مَعَهُمَا حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُمَا, ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي حَتَّى أَتَى بِي دَارَهُ؛ فَأَلْقَتْ لَهُ الْوَلِيدَةُ وِسَادَةً فَجَلَسَ عَلَيْهَ, وَجَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ , فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ, ثُمَّ قَالَ:
((مَا يُفِرُّكَ - أَيْ: مَا يَحْمِلُك عَلَى الْفِرَارِ - ؟ , أَنْ تَقُولَ لا إِلَهَ إِلا اللهُ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ مِنْ إِلَهٍ سِوَى اللهِ؟ )) , قُلْتُ: لا , ثُمَّ تَكَلَّمَ سَاعَةً, ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّمَا تَفِرُّ أَنْ تَقُولَ اللهُ أَكْبَرُ؟ , فَهَلْ تَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا أَكْبَرُ مِنْ اللهِ؟)) قُلْتُ: لا, قَالَ: ((فَإِنَّ الْيَهُودَ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ, وَإِنَّ النَّصَارَى ضُلَّالٌ ، يَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ , أَسْلِمْ تَسْلَمْ - ثلاثاً -)).
فَقُلْتُ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ، قَالَ : (( أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ )) , فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟, قَالَ: (( نَعَمْ ؛ أَلَسْتَ رَكُوسِيًّا؟ ))- والرَّكُوسِيَّة: ديانة مأخوذة من دين النصارى والصابئة - , قُلْتُ: بَلَى, قَالَ: ((أَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَكَ؟)) , قُلْتُ: بَلَى , قَالَ: ((أَلَسْتَ تَأْخُذُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟)) - أي : رُبُعُ الْغَنِيمَةِ, كَانَ رَئِيسُ الْقَوْمِ يَأْخُذُهُ لِنَفْسِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ- , قُلْتُ: بَلَى , قَالَ: ((فَإِنَّ هَذَا لا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكِ)).
قَالَ: فَلَمَّا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ تَوَاضَعَتْ مِنِّي نَفْسِي.
فَقَالَ: ((أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنْ الإِسْلامِ, تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ, وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ, وَقَدْ رَمَتْهُمْ الْعَرَبُ !! فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ, لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمْرَ, أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟)) - مدينة تبعد ثلاثة أميال عن الكوفة، ويقال هي النجف -, قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا, وَقَدْ سَمِعْتُ بِهَا.
قَالَ: ((فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ - أي المرأة في الهودج - تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ , حَتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ , لَا تَخَافُ أَحَدًا إِلَّا اللهُ)) ، فَقُلْتُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي: فَأَيْنَ لُصُوصُ طَيءٍ الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلادَ؟ - أي ملؤا الأرض شراً وفساداً - .
قَالَ: ((وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى)) فَقُلْتُ: كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ؟
قَالَ: ((نَعَمْ، كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ , وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطُوفَ بِصَدَقَتِهِ , فلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ)).
فَقُلْتُ: إِنِّي جِئْتُ مُسْلِمًا, قَالَ: فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ تَبَسَّطَ فَرَحًا, ثُمَّ أَمَرَ بِي فَأُنْزِلْتُ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ, فَجَعَلْتُ آتِيهِ طَرَفَيْ النَّهَارِ.
قَالَ عَدِيٌّ: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنْ الْحِيرَةِ , فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ فِي غَيْرِ جِوَارٍ , وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ , وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ , لأَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَالَهَا.
عباد الله: هل وجدتم المفتاح الذي نبحث عنه؟ وهل شدَّ انتباهكم خلال هذا الحوار؟
أهو تواضعه صلى الله عليه وسلم، أم حسن حِواره، أم علمه بأديان أهل الأرض، أم وعد الله له بنصرة هذا الدين، أم دلائل نبوته التي تحققت، أم ... و... أم؟
لقد شدني انتباهي أمرٌ آخر.
لقد استوقفني قوله صلى الله عليه وسلم : ((فَهَلْ تَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا أَكْبَرُ مِنْ اللهِ؟))
نعم... ذلك هو مفتاح باب الخشية والخوف والمراقبة.
ذلك مفتاح باب التوبة والإقبال والإنابة
ذلك مفتاح باب الهداية والتوفيق والصلاح.
الله العظيم... وهل أحدٌ أعظم من الله؟ .
الله الكبير... وهل أحدٌ أكبر من الله؟
"يدبر أمر الممالك، ويأمر وينهى، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويعز ويذل، ويقلب الليل والنهار، ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الدول فيذهب بدولة ويأتي بأخرى، وأمره وسلطانه نافذ في السماوات وأقطارها، وفي الأرض وما عليها وما تحتها، وفي البحار والجو، قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً ..
وسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه، ولا تشتبه عليه، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على تفنن حاجاتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تُغلِطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات، وأحاط بصره بجميع المرئيات فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فالغيب عنده شهادة والسر عنده علانية .. ﴿ يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن﴾.
يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويستر عورة، ويؤمن روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين ...
لو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وآخرَهم، وإنسهم وجنهم، كانوا على أتقى قلب رجل منهم، ما زاد ذلك في ملكه شيئاً ولو أن أول خلقه وأخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما نقص ذلك من ملكه شيئاً،
ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه، وأول خلقه وأخرهم، وإنسهم وجنهم، وحيهم وميتهم، ورطبَهم ويابسَهم، قاموا على صعيد واحد فسألوه فأعطى كلاً منهم ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة ..
هو الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، وهو أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأولى من شُكر، وأرأف من ملك، وأجود من سئل ...
هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والصمد فلا ولد له، والعلي فلا شبيه له، كل شيء هالك إلا وجهه، وكل شيء زائل إلا ملكه ..
لن يطاع إلا بأذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمة منه عدل، وكل نعمة منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، أخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، عطاؤه كلام وعذابه كلام ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ " ا.هـ من كلام ابن القيم بتصرف.
فيا عباد الله : ﴿ما لكم لا ترجون لله وقارا﴾
قال ابن عباس في تفسيرها: "أي لا تعرفون عظمة الله تعالى" ، وقال الحسن: "أي: مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرونه" ، وقال مجاهد: "لا تبالون عظمة ربكم".
الله تبارك وتعالى هو العظيم في ذاته .. العظيم في أسمائه .. العظيم في صفاته .. العظيم في أفعاله .. العظيم في ملكه وسلطانه .. العظيم في خلقه وأمره .. العظيم في دينه وشرعه .. ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية:
أما بعد :
فإليكم جانباً يسيراً من دلائل عظمة ربنا في ذاته العلية - تعالى ربنا وتقدس - .
ومن ذلك أن العالم كلَّه؛ علويَّه وسفليَّه بالنسبة إليه سبحانه في نهاية الصغر، قال تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أخرجاه وفي رواية لمسلم: " والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الله ".
وروى ابن جرير في تفسيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرس)).
وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض)).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم".
ومع كل ذلك البعد، فقد أحاط بهم رؤية وسمعاً وعلماً وتصرفاً...
﴿ ولايحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ﴾ ﴿لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير﴾
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَقَدْ جَاءَتِ الْمُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، مَا أَسْمَعُ مَا تَقُولُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾.
ومنْ عظمته تعالى في ذاته... ما حصَل لموسى عليه السلام حين طلب رؤْية ربه العظيم، فكان الجواب:
﴿ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
قال ابْن عباسٍ - رضي الله عنْهما -: "ما تجلَّى منْه إلاَّ قَدْر الخِنْصر".
وعنْ أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... حِجابُه النُّور لوْ كشَفَه لأحْرقَتْ سبُحاتُ وجْهِه ما انْتهى إليْه بصَرُه مِنْ خَلْقه))؛ أخْرجه مسْلم.
فسُبْحانك ربَّنا ما عظَّمْناك حقَّ تعْظيمك، وما أطعْناك حقَّ طاعتك.
إن القلب الممتلئ بتعظيم الله ليورث صاحبه رضًا وصبْرًا، ويدْعوه إلى العمل الصالح طاعةً وشكْرًا، ويجنبه محارم الله خوفاً وفَرَقاً.
والمعظم لربه... لديْه من الثقةٌ بالله، ما يجعله هادِئَ البال، ساكِنَ النَّفْس، مستشعراً معية الله سبحانه له، بالحفظ والنصر والتأييد.
أمَا والله لوْ علم العباد ما لله من العظمة ما عصَوْه، ولوْ علم المُحبُّون ما لَه من الجمال والكمال ما أحبُّوا غيْره، ولوْ عرف الفقراء غِنَى الربِّ ما رجَوْا سواه، فسبْحانه وتعالى هو سلْوان الطائعين، وملاذ الهاربين، وملْجأ الخائفين.
اللَّهم امْلأْ قلوبَنا إعْظامًا وإجْلالاً لك، واجْعلْنا من الرَّاغبين الرَّاهبين الخاشعين.
اللهم اجعلنا لك شكّارين، لك ذكّارين، لك رهاّبين، ، لك مطيعين، إليك مخبتين، لك خاشعين، لك ذليلين ... إليك أوّاهين منيبين.
ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، واهد قلوبنا، وثبت حجتنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا.
اللهم..