عظمة الله جل جلاله.
عاصم بن محمد الغامدي
1437/12/22 - 2016/09/23 04:45AM
[align=justify]عظمة الله جل جلاله.
الخطبة الأولى:
الحَمْد لله ذي العظَمة والجَلال، الذي تفرَّد بِكُلِّ جمالٍ وكمالٍ، وأشْهد أنْ لا إله إلا الله، وحْده لا شريك له، ولا نِدَّ ولا مِثال، له الأسْماء الحُسْنى والصِّفات العُلى، وهو الكبير المُتَعال، وأشْهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبْده ورسوله، كريم الأخْلاق، وطَيِّب الخصال، وخيْرُ منْ تقرَّب إلى الله بالإعْظام والإكْبار والإجْلال، صلَّى الله وسلَّم عليْه وعلى آله وصحْبه خيْر صحْبٍ وآل، وعلى مَنْ تَبِعهم بإحْسانٍ ما تجدَّدت البُكور والآصال.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، فاتقوه حق التقوى، اتقوا من بيده ملكوتُ كلِّ شيءٍ وهوَ يجيرُ ولا يجارُ عليه، واتقوا من رفع السماواتِ بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبث فيها من كل دابة، اتقوا من {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
عباد الله:
انبهر فئامٌ من الخلق، بما وصلت إليه الحضارة الماديةُ من تطور هائل، وتقدم كبير، وحريٌ بالمؤمن، إذا رأى عظمة الخلق، أن يتذكرَ عظمة الخالق، ويستحضرَ ما يدل عليها من آياته الكونية والشرعية، والتعظيمُ أثر للمعرفة، فكلما زاد العبد معرفة لربه، زاد تعظيمه له.
هؤلاء ملائكتُه الكرام، لم ينقطع تسبيحهم له عز وجل، ليلاً ولا نهارًا، {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}، ومع شدة طاعتهم له جل في علاه، والتزامهم أمره في كل حال، إلا أنهم وجلون ومشفقون، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}.
روى ابن كثير في تفسيره بسند لا بأس به، عن رجل من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تعالى ملائكةً ترعُدُ فرائصهم من خيفته، ما منهم ملكٌ تقطر دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض، لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السماواتِ والأرض، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل، وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك".
فماذا يقول ابن آدم المقصر، وهو يتقلب في نعم الله منذ خرج إلى الأرض حتى يعود إليها.
وقد عرف رسل الله -عليهم الصلاة والسلام-عظمته، فعظموه في نفوسهم، ودعوا أقوامهم إلى تعظيمه، وأولهم نوح عليه السلام: قال لقومه: {ما لكم لا ترجون لله وقارًا وقد خلقكم أطوارًا}، وإبراهيم عليه السلام رأى ملكوت السماوات والأرض، فقال لقومه: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين}.
وخاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، كان يكثر من تعظيم ربه عز وجل وتسبيحه في ركوعه وسجوده، وفي كل أحيانه ويقول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"، وكان يعلم أصحابه تعظيم ربه جل جلاله، فلما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم}، قال لأصحابه: "اجعلوها في ركوعكم".
وقال لهم مرة: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام"، [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة، والعرش على منكبه وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون". [أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي].
عباد الله:
هذا خلق واحد من خلق الله العلي العظيم، فكيف إذا بمخلوقاته الأخرى، فسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنّا نجد أنّ الله يجعل السماواتِ على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجَر على إصبع، والماءَ والثرى على إصبع، وسائرَ الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر ثم قرأ عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال وهلكت الأنعام، فاستسق لنا فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. فقال عليه الصلاة والسلام: "ويحك، أتدري ما تقول؟!" وما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال عليه الصلاة والسلام:" ويحك، إنه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب". [رواه أبو داود وغيره وهو حديث حسن].
وهكذا العبد كلما ازداد معرفة بربه، زادت خشيته وتعظيمه له، {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}.
سئل بعض السلف عن عظمة الله تعالى فقال للسائل: (ما تقول فيمن له عبد واحد يسمى جبريل له ست مئة جناح، لو نشر منها جناحين لستر الخافقين)، فسبحان الله وبحمده عدد كل شيء.
أيها المسلمون:
من أراد تعظيم الله في نفسه، فليتأمل آياته من حوله، فقد دلت دلائل الوجود على عظمته جل في علاه، خضعت له المخلوقات، وبهذا الخضوع انتظم العالم، وصلحت أحوال الخلق، {وقالوا اتخذ الله ولدًا * سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون}.
ولما أشرك به بعض خلقه فزعت السماوات والأرض، وأوشك الكون أن يضطرب لولا أن قدر الله له الانتظام، قال تعالى ذكره بعد أن ذكر قول المشركين: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}.
عبد الله:
إذا طاف عقلك في الكائنات، ونظرك في الأرض والسماوات، رأيتَ على صفحاتها قدرةَ الله، وامتلأ قلبك بالإيمان بالله، وانطلقَ لسانك بـ"لا إله إلا الله"، وخضعت مشاعرُك لسلطانِ الله.
انظر إلى الشمس والقمر يدوران، والليل والنهار يتقلبان، ماذا نفعَل لو لم تطلعِ الشمس؟! أو غابَ القمَر ولم يظهر؟! كيفَ يكون طعم الحياة؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ}.
تأمل أيها المبارك في نفسك، دقةِ خلقها، وعجيب صنعها، روحك بين جنبيك وما تدري ما كنهها.
قلبك ينبض فمن حركه؟
دمك يجري فمن أجراه؟
أحاسيسك ومشاعرك، ما تحب وما تكره، كيف تشكل ذلك كله؟
{وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم، أفلا تبصرون}.
عباد الله:
عظمة الله وجلاله أجلّ من أن يحيطَ بها عقل، وفيما يمكن تصوره منها كفاية للبيب العاقل، جعلنا الله ممن يعظمونه حق التعظيم، ويوقرونه حق التوقير، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إن هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد الله حمدا يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه؛ أحمده حمدا كثيرا، وأشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وعظموا قدره في النفوس، واستغفروه وتوبوا إليه، فالكرامة كرامة التقوى، والعز عز الطاعة، والوحشة وحشة الذنوب، والأنس أنس الإيمان والعمل الصالح.
من لم يعتز بطاعة الله لم يزل ذليلاً، ومن لم يستشف بكتاب الله لم يزل عليلاً، ومن لم يستغن بالله ظل طول دهره فقيرًا.
عباد الله:
من ثمار تعظيم الله في النفوس، فرح القلب وسروره وطمأنينته؛ لأنه صرف التعظيم لمن يستحق التعظيم، وتلك هي جنة الدنيا التي من دخلها دخل جنة الآخرة.
ومن عظم الله تعالى؛ خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولم يرض بدونه عوضا، ولم ينازع له اختيارا، ولم يرد عليه أمرًا، وتحمل في طاعته كل مقدور، وبذل في مرضاته كل ميسور.
وكلما قوي تعظيم الله تعالى في قلب العبد استصغر العبد نفسه، واستقل عمله؛ لأن الله عز وجل إذا تجلى لشيء خشع له.
ومن عظم الله تعالى عظم شريعته، وأجل أهلها وحملتها والعاملين بها؛ إذ إن إجلالهم من إجلال الله تعالى وتعظيمه.
ومن عظم الله تعالى وقف عند حدوده، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، وعظم شعائره (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ).
ومن عظم الله تعالى أكثر من ذكره؛ فإن البشر لا يزالون يمدحون من يعظمون، فكيف يزعم زاعم أنه معظم لله تعالى وذكره لا يجري على لسانه إلا لمما.
ومن عظم الله تعالى توكل عليه، واعتصم به، ولم يخف عظماء الخلق؛ فما في قلبه من تعظيم الله عز وجل أقوى وأمكن من المخلوقين مهما بلغت قوتهم وكثرتهم.
ومن عظم الله تعالى لم يقدم على كلامه أي كلام، بل هو مستديم النظر في كتابه العظيم، تلاوة وحفظا وتدبرا وعملا، يتأمل بقراءته صفات العلي العظيم، ويستخرج حِكَمه من أحكامه، ورحمته وعدله في أفعاله، واضعا نصب عينيه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات:1] ومهما عمل الخلق من تعظيم لله تعالى، فإنهم عاجزون عن قدر الله تعالى حق قدره، وتعظيمه كما ينبغي له أن يعظم؛ فحقه عز وجل أعظم، وقدره أكبر، ولكن المؤمنين يسعون في ذلك جهدهم، ويبذلون وسعهم؛ والعظيم لا يخيب سعيهم، ولا يضيع عملهم، ويجزيهم على قليل سعيهم أعظم الجزاء، وأجزل المثوبة، وهو الجواد الكريم (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر:67].
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.
[/align]
الخطبة الأولى:
الحَمْد لله ذي العظَمة والجَلال، الذي تفرَّد بِكُلِّ جمالٍ وكمالٍ، وأشْهد أنْ لا إله إلا الله، وحْده لا شريك له، ولا نِدَّ ولا مِثال، له الأسْماء الحُسْنى والصِّفات العُلى، وهو الكبير المُتَعال، وأشْهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبْده ورسوله، كريم الأخْلاق، وطَيِّب الخصال، وخيْرُ منْ تقرَّب إلى الله بالإعْظام والإكْبار والإجْلال، صلَّى الله وسلَّم عليْه وعلى آله وصحْبه خيْر صحْبٍ وآل، وعلى مَنْ تَبِعهم بإحْسانٍ ما تجدَّدت البُكور والآصال.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، فاتقوه حق التقوى، اتقوا من بيده ملكوتُ كلِّ شيءٍ وهوَ يجيرُ ولا يجارُ عليه، واتقوا من رفع السماواتِ بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم، وبث فيها من كل دابة، اتقوا من {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}.
عباد الله:
انبهر فئامٌ من الخلق، بما وصلت إليه الحضارة الماديةُ من تطور هائل، وتقدم كبير، وحريٌ بالمؤمن، إذا رأى عظمة الخلق، أن يتذكرَ عظمة الخالق، ويستحضرَ ما يدل عليها من آياته الكونية والشرعية، والتعظيمُ أثر للمعرفة، فكلما زاد العبد معرفة لربه، زاد تعظيمه له.
هؤلاء ملائكتُه الكرام، لم ينقطع تسبيحهم له عز وجل، ليلاً ولا نهارًا، {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}، ومع شدة طاعتهم له جل في علاه، والتزامهم أمره في كل حال، إلا أنهم وجلون ومشفقون، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}.
روى ابن كثير في تفسيره بسند لا بأس به، عن رجل من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تعالى ملائكةً ترعُدُ فرائصهم من خيفته، ما منهم ملكٌ تقطر دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض، لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السماواتِ والأرض، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عز وجل، وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك".
فماذا يقول ابن آدم المقصر، وهو يتقلب في نعم الله منذ خرج إلى الأرض حتى يعود إليها.
وقد عرف رسل الله -عليهم الصلاة والسلام-عظمته، فعظموه في نفوسهم، ودعوا أقوامهم إلى تعظيمه، وأولهم نوح عليه السلام: قال لقومه: {ما لكم لا ترجون لله وقارًا وقد خلقكم أطوارًا}، وإبراهيم عليه السلام رأى ملكوت السماوات والأرض، فقال لقومه: {إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين}.
وخاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه عليه، كان يكثر من تعظيم ربه عز وجل وتسبيحه في ركوعه وسجوده، وفي كل أحيانه ويقول: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"، وكان يعلم أصحابه تعظيم ربه جل جلاله، فلما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم}، قال لأصحابه: "اجعلوها في ركوعكم".
وقال لهم مرة: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام"، [رواه أبو داود وصححه الألباني]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة، والعرش على منكبه وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون". [أخرجه الحاكم وصححه، ووافقه الذهبي].
عباد الله:
هذا خلق واحد من خلق الله العلي العظيم، فكيف إذا بمخلوقاته الأخرى، فسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنّا نجد أنّ الله يجعل السماواتِ على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجَر على إصبع، والماءَ والثرى على إصبع، وسائرَ الخلق على إصبع فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقًا لقول الحبر ثم قرأ عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال وهلكت الأنعام، فاستسق لنا فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك. فقال عليه الصلاة والسلام: "ويحك، أتدري ما تقول؟!" وما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال عليه الصلاة والسلام:" ويحك، إنه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا، وقال بأصابعه مثل القبة عليه، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب". [رواه أبو داود وغيره وهو حديث حسن].
وهكذا العبد كلما ازداد معرفة بربه، زادت خشيته وتعظيمه له، {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}.
سئل بعض السلف عن عظمة الله تعالى فقال للسائل: (ما تقول فيمن له عبد واحد يسمى جبريل له ست مئة جناح، لو نشر منها جناحين لستر الخافقين)، فسبحان الله وبحمده عدد كل شيء.
أيها المسلمون:
من أراد تعظيم الله في نفسه، فليتأمل آياته من حوله، فقد دلت دلائل الوجود على عظمته جل في علاه، خضعت له المخلوقات، وبهذا الخضوع انتظم العالم، وصلحت أحوال الخلق، {وقالوا اتخذ الله ولدًا * سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون}.
ولما أشرك به بعض خلقه فزعت السماوات والأرض، وأوشك الكون أن يضطرب لولا أن قدر الله له الانتظام، قال تعالى ذكره بعد أن ذكر قول المشركين: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}.
عبد الله:
إذا طاف عقلك في الكائنات، ونظرك في الأرض والسماوات، رأيتَ على صفحاتها قدرةَ الله، وامتلأ قلبك بالإيمان بالله، وانطلقَ لسانك بـ"لا إله إلا الله"، وخضعت مشاعرُك لسلطانِ الله.
انظر إلى الشمس والقمر يدوران، والليل والنهار يتقلبان، ماذا نفعَل لو لم تطلعِ الشمس؟! أو غابَ القمَر ولم يظهر؟! كيفَ يكون طعم الحياة؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ}.
تأمل أيها المبارك في نفسك، دقةِ خلقها، وعجيب صنعها، روحك بين جنبيك وما تدري ما كنهها.
قلبك ينبض فمن حركه؟
دمك يجري فمن أجراه؟
أحاسيسك ومشاعرك، ما تحب وما تكره، كيف تشكل ذلك كله؟
{وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم، أفلا تبصرون}.
عباد الله:
عظمة الله وجلاله أجلّ من أن يحيطَ بها عقل، وفيما يمكن تصوره منها كفاية للبيب العاقل، جعلنا الله ممن يعظمونه حق التعظيم، ويوقرونه حق التوقير، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إن هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد الله حمدا يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه؛ أحمده حمدا كثيرا، وأشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى، وعظموا قدره في النفوس، واستغفروه وتوبوا إليه، فالكرامة كرامة التقوى، والعز عز الطاعة، والوحشة وحشة الذنوب، والأنس أنس الإيمان والعمل الصالح.
من لم يعتز بطاعة الله لم يزل ذليلاً، ومن لم يستشف بكتاب الله لم يزل عليلاً، ومن لم يستغن بالله ظل طول دهره فقيرًا.
عباد الله:
من ثمار تعظيم الله في النفوس، فرح القلب وسروره وطمأنينته؛ لأنه صرف التعظيم لمن يستحق التعظيم، وتلك هي جنة الدنيا التي من دخلها دخل جنة الآخرة.
ومن عظم الله تعالى؛ خضع لهيبته، ورضي بقسمته، ولم يرض بدونه عوضا، ولم ينازع له اختيارا، ولم يرد عليه أمرًا، وتحمل في طاعته كل مقدور، وبذل في مرضاته كل ميسور.
وكلما قوي تعظيم الله تعالى في قلب العبد استصغر العبد نفسه، واستقل عمله؛ لأن الله عز وجل إذا تجلى لشيء خشع له.
ومن عظم الله تعالى عظم شريعته، وأجل أهلها وحملتها والعاملين بها؛ إذ إن إجلالهم من إجلال الله تعالى وتعظيمه.
ومن عظم الله تعالى وقف عند حدوده، وامتثل أوامره، واجتنب نواهيه، وعظم شعائره (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ).
ومن عظم الله تعالى أكثر من ذكره؛ فإن البشر لا يزالون يمدحون من يعظمون، فكيف يزعم زاعم أنه معظم لله تعالى وذكره لا يجري على لسانه إلا لمما.
ومن عظم الله تعالى توكل عليه، واعتصم به، ولم يخف عظماء الخلق؛ فما في قلبه من تعظيم الله عز وجل أقوى وأمكن من المخلوقين مهما بلغت قوتهم وكثرتهم.
ومن عظم الله تعالى لم يقدم على كلامه أي كلام، بل هو مستديم النظر في كتابه العظيم، تلاوة وحفظا وتدبرا وعملا، يتأمل بقراءته صفات العلي العظيم، ويستخرج حِكَمه من أحكامه، ورحمته وعدله في أفعاله، واضعا نصب عينيه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الحجرات:1] ومهما عمل الخلق من تعظيم لله تعالى، فإنهم عاجزون عن قدر الله تعالى حق قدره، وتعظيمه كما ينبغي له أن يعظم؛ فحقه عز وجل أعظم، وقدره أكبر، ولكن المؤمنين يسعون في ذلك جهدهم، ويبذلون وسعهم؛ والعظيم لا يخيب سعيهم، ولا يضيع عملهم، ويجزيهم على قليل سعيهم أعظم الجزاء، وأجزل المثوبة، وهو الجواد الكريم (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر:67].
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال عز من قائل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.
[/align]