عطاء رب الأرض والسماء لجبر خواطر أهل البلاء

الشيخ السيد مراد سلامة
1440/02/14 - 2018/10/23 09:44AM
عطاء رب الأرض والسماء لجبر خواطر أهل البلاء
للشيخ
السيد مراد سلامة

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب...

أظهر الحق بالحق وأخزى الأحزاب... وأتمَّ نوره، وجعل كيد الكافرين في تباب...

أرسل الرياح بشرًى بين يدي رحمته وأجرى بفضله السحاب... وأنزل من السماء ماء، فمنه شجر، ومنه شراب...

جعل الليل والنهار خلفة فتذكر أولو الألباب... نحمَده تبارك وتعالى على المسببات والأسباب... ونعوذ بنور وجهه الكريم من المؤاخذة والعتاب... ونسأله السلامة من العذاب وسوء الحساب...

وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الوهاب... الملك فوق كل الملوك ورب الأرباب...

الحكم العدل يوم يُكشف عن ساق وتوضع الأنساب... غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب...

خلق الناس من آدم وخلق آدم من تراب... خلق الموت والحياة ليبلونا وإليه المآب...

فمن عمل صالحًا فلنفسه، والله عنده حسن الثواب... ومن أساء فعليها، وما متاع الدنيا إلا سراب...

وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المستغفِر التواب... المعصوم صلى الله عليه وسلم في الشيبة والشباب...

خُلُقه الكتاب، ورأيه الصواب، وقوله فصل الخطاب... قدوة الأمم، وقمة الهِمَم، ودرة المقربين والأحباب...

عُرضت عليه الدنيا بكنوزها، فكان بلاغه منها كزاد الركاب... ركب البعير، ونام على الحصير، وخصف نعله ورتق الثياب...

أضاء الدنيا بسنته، وأنقذ الأمة بشفاعته، وملأ للمؤمنين براحته من حوضه الأكواب...

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب... ما هبت الرياح بالبشرى وجرى بالخير السحاب...

وكلما نبت من الأرض زرع، أو أينع ثمر وطاب...

إخوة الإيمان أتباع النبي العدنان-صلى الله عليه وسلم-حديثنا في هذا اللقاء عن عطاء رب الأرض والسماء لجبر خواطر أهل البلاء فالله تعالى هو الرحمن الرحيم ما يبتلي عبده المؤمن إلا ليطهره و يقربه منه سبحانه و تعالى هو مع ذلك يجبر خواطرهم و يجزل لهم العطاء فيها لنرى جبر الخواطر

الله هو الجبار –جل جلاله

 (الْجَبَّارُ) بمعنى القَّهارِ وهو الذي دانَ لهُ كلُّ شيءٍ، وخَضعَ له كلُّ شيءٍ، ولا يقعُ في هذا الكونِ شيءٌ إلا بمشيئتِه -سبحانه-؛ فما شَاءَ كانَ، وما لم يَشأْ لم يكنْ، فهو -أيضاً-بمعنى الرَّؤوفِ الجابرِ للقلوبِ المنكسرةِ؛ فيجبرُ الكسيرَ، ويغني الفقيرَ، ويُيِّسرُ على المعسرِ كلَّ عسيرٍ، ويُعيذُ من لاذَ بهِ ولجأَ إليهِ، ويُجيبُ دعوةَ الدَّاعِ إذا رفعَ يديهِ، كما ذكرَ ابنُ القيِّمِ -رحمَه اللهُ-في نونيتِه:

كَذلكَ الجَبَّارُ في أَوْصافِهِ *** والجَبْرُ في أَوْصَافِه نَوْعَانِ
جَبْرُ الضَّعِيفِ وكُلُّ قَلْبٍ قد غَدَاَ *** ذَا كَسْرَةٍ فَالجَبْرُ مِنْهُ دَانِ
والثَّاني جَبْرُ القَهْرِ بِالعِزِّ الَّذي *** لا يَنْبَغِي لِسِوَاهُ مِنْ إِنْسَانِ
أولا: جبر خواطرهم في الدنيا

الحياة الدنيا هي ميدان للاختبار والامتحان قال الله تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2] ومع هذا القضاء الذي قضاه الله تعالى على خلقه فقد جبر خواطر أهل المصائب والبلايا  في الدنيا و الأخرة

قال وهب بن منبه: لا يكون الرجل فقيها كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء وصاحب الرخاء ينتظر البلاء

وعطاءات الله تعالى لا يقدرها أحد لأن الذي يمنحها هو الغني الحميد وهاك بيانها

أولا: خفف عنهم الطاعات والعبادات

ومن جبر خواطر أهل البلاء أن خفف الله تعالى عليهم التكاليف الشرعية و ذلك لأن الإسلام دين يسر لا مشقة فالمشقة تجلب التيسير قال الله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]

وقال تعالى {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]

و جبر لخواطر أهل البلاء و تخفيفا ورحمة بهم خفف عليهم العبادات فوضع عنهم الصوم فقال { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]

المريض الذي يضره الصيام: فهذا يجب عليه الفطر حفاظًا على نفسه بأن كان الصيام يؤدي مثلًا إلى هلكته، أو تلف شيء من أعضائه، فإن هذا قد رخَّص له الله عز وجل، والآيات الأخرى التي تدل على وجوب محافظته على نفسه، توجب عليه الفطر، والله عز وجل يقول: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، ويقول: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح: (لا ضرر ولا ضرار)؛ حديث رواه ابن ماجه والدارقطني، والإمام مالك، وله طرق كما يقول الإمام النووي: وله طرق يقوي بعضها بعضًا.

وفي باب الصلاة خففها عنهم فأباح له أن يؤديها حسب طاقته وقدرته على أي هيئة، وقد زار النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه وكان مريضاً فرآه يسجد على وسادة فأخذها منه فرمى بها.

عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ مَرِيضًا فَرَآهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ فَأَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا، فَأَخَذَ عُودًا لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ فَرَمَى بِهِ فَقَالَ:  «صَلِّ عَلَى الْأَرْضِ إِنِ اسْتَطَعْتَ وَإِلَّا فَأَوْمِ إِيمَاءً وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِكَ»)([1]) .

وفي باب الطهارة أباح لهم التيمم عند المشقة والخوف من شدة المرض فقال سبحانه { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } [النساء: 43]

وفي باب الجهاد عذرهم و رفع عنهم الحرج فقال سبحانه { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17]

أي: ليس على هؤلاء إثم في التخلف عن الجهاد، لما بهم من الأعذار والعاهات المرخصة لهم فى التخلف عنه

ثانيا منحهم الأجر كاملا دون نقص

وجبر الله تعالى خواطر أهل البلاء فمنحهم الأجر كاملا في حال عدم الاستطاعة على القيام بالعمل

ففي البخاري ومسند أحمد وسنن البيهقي وغيرهم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم: إِنَّ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إِذَا مَرِضَ، أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا. ([2])

إذا كان الإنسان من عادته أن يصلي تطوعاً، ولكنه منعه منه مانع، ولم يتمكن منه؛ فإنه يكتب له أجره كاملاً، وكذلك إن كان من عادته أن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ثم عجز عن ذلك، ومنعه مانع، فإنه يكتب له الأجر كاملاً.

وغيره من الأمثلة الكثيرة.

ثالثا : أوجب على المسلم زيارته وعيادته:

ومن جبر خواطر أهل البلاء أن شرع الله تعالى زيارتهم و جعلها من حق المسلم على المسلم و ذلك للتخفيف عنهم و تسليتهم وشحذ هممه حتى لا يصيبهم اليأس و القنوط عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:خَمْسٌ مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ : رَدُّ التَّحِيَّةِ ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَشُهُودُ الْجِنَازَةِ ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ إِذَا حَمِدَ اللهَ ، عَزَّ وَجَلَّ.([3])

وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْعٍ ، وَنَهَى عَنْ سَبْعٍ .... وَأَمَرَ بِسَبْعٍ : عِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، وإتباع الْجَنَائِزِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ، وَرَدِّ السَّلاَمِ ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي.([4])

لذلك عدة حكم لا تخفى على المتأمل، منها: إيناسه، والوقوف إلى جانبه في وقت الضعف والمرض، ومنها: تقوية الروابط بين أفراد المجتمع المسلم، ومنها: تذكير الزائر والمزور بنعم الله عليهما من الصحة وغيرها، فقد قيل: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.

رابعا: منحه معيته جل جلاله

ومن جبر خواطر أهل البلاء قرب رب الأرض والسماء منهم فهو قريب برحمته وذلك حتى لا يستشعروا الخوف اليأس

قال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) }سورة البقرة , وقوله تعالي :{ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }(146)آل عمران.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ ، عَزَّ وَجَلَّ ، يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : يَا ابْنَ آدَمَ ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ، يَا ابْنَ آدَمَ ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ ، وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ، يَا ابْنَ آدَمَ ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ ، كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، قَالَ : اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَمْ تَسْقِهِ ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي.([5])

قال النووي: " قَالَ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا أَضَافَ الْمَرَض إِلَيْهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَالْمُرَاد الْعَبْد تَشْرِيفًا لِلْعَبْدِ وَتَقْرِيبًا لَهُ . قَالُوا: وَمَعْنَى (وَجَدْتنِي عِنْده) أَيْ وَجَدْت ثَوَابِي وَكَرَامَتِي " ([6])

وقال المناوي: " قال في العيادة لوجدتني عنده وفي الإطعام وكذا السقي لوجدت ذلك عندي إرشادا إلى أن الزيارة والعيادة أكثر ثوابا منهما وقال السبكي رضي الله عنه: سر ذلك أن المريض لا يروح إلى أحد بل يأتي الناس إليه فناسب قوله لوجدتني عنده بخلاف ذينك فإنهما قد يأتيان لغيرهما من الناس" .([7])

خامسا: منحهم محبته

وجبر خواطر أهل البلاء وأخبرهم أن الابتلاء دليل على محبة الله تعالى لذلك العبد

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخَطَ فَلَهُ السَّخَطُ» ([8])

فالبلاء والأسقام إذا كانت فيمن أحسن ما بينه وبين ربه ورزقه صبرا عليها كانت علامة خير ومحبة

عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا، اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ، ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ»([9])

ومجمل الكلام أن البلاء علامة الولاء فإنه إما سبب لإعلاء الدرجات كما في الأنبياء وإما لإمحاء السيئات كما في الأولياء مع أن هذه الدار مشوبة بالأكدار سواء فيها الفجار والأبرار كما أشار إليه قوله سبحانه: {إنْ تَكُونُوا تَألمُونَ فَإنَّهُمْ يَأَلمُونَ كَمَا تَأَلمُونَ وتَرجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرجُونَ} النساء 104. ([10])

سادسا منحهم الصلوات والرحمة والهداية:

 {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 -157]

يقول الشيخ محمد رشيد رضا –رحمه الله- ذكر البلاء وبشر الصابرين عليه ، وذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة ، وختم القول ببيان الجزاء المبشر به بالإجمال فقال : (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) أي أولئك الصابرون المحتسبون عليهم من ربهم الرءوف الرحيم ما يحول دون تبريح المصائب بهم من أنواع صلواته العامة ورحمته الخاصة ، فأما الصلوات فالمراد بها أنواع التكريم والنجاح ، وإعلاء المنزلة عند الله والناس ، وعن ابن عباس : ((أنها المغفرة لذنوبهم)) وأما الرحمة فهي ما يكون لهم في نفس المصيبة من حسن العزاء ، وبرد الرضى والتسليم للقضاء ، فهي رحمة خاصة يحسد الملحدون عليها المؤمنين ، فإن الكافر المحروم من هذه الرحمة في المصيبة تضيق عليه الدنيا بما رحبت ، حتى إنه ليبخع نفسه إذا لم يعد له رجاء في الأسباب التي يعرفها وينتحر بيده ويكون من الهالكين

(وأولئك هم المهتدون) أي : إلى ما ينبغي عمله في أوقات المصائب والشدائد إذ لا يستحوذ الجزع على نفوسهم ، ولا يذهب البلاء بالأمل من قلوبهم ، فيكونون هم الفائزين بخير الدنيا والراحة فيها ، المستعدين لسعادة الآخرة بعلو النفس وتزكيتها بمكارم الأخلاق وصالح الأعمال ، دون أهل الجزع وضعف الإيمان ، كما تدل عليه الجملة الإسمية المعرفة الطرفين المؤكدة بضمير الفصل .([11])

ثانيا جبر خواطرهم في الأخرة

ومن ثمرات الابتلاء أن الله تعالى يجبر خواطرهم في الآخرة فلا ينشر لهم ديوان ولا وينصب  لهم ميزان و إنما يصب عليهم الأجر صبا

عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ لُحُومَهُمْ قَدْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ لِمَا يَرَوْنَهُ لِأَهْلِ الْبَلَاءِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ» ([12])

وروى الطبراني من حديث الحسن، (عن جده)، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة، فلا يرفع لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان، فيصب عليهم الأجر صبًّا" ثم قرأ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ([13]).

الصابرون هم أهل الفوز والنجاة:

قال تعالي عن المؤمنين الفائزين بالنعيم المقيم في الآخرة :{ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ (111)} سورة المؤمنون .

وكذلك بشرنا الله عز وجل بما يقال لأهل الجنة يوم القيامة { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) }سورة الرعد .

عَنْ أَبِي مُوسَى الأشْعَرِيِّ ، أًنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ ، قال الله ، لِمَلاَئِكَتِهِ : قَبَضْتُم وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ . فَيَقُولُ : قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ فَيَقُولَونَ : نعَمْ . فَيَقُولُ : مَاذَا قال عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَكَ وَاستَرْجَعَ . فَيَقُولُ الله : ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ . وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ. ([14])

(ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد) وفي هذا الأمر ببناء البيت نكتة شريفة هي الإشارة إلى أنه تعالى يجازيه بالمسكن والساكن وأن الولد متقدم إلى المنزل الذي قد أعد لأبيه الذي لا يخرب ولا يموت ساكنه ففي هذا النوع من الجزاء نكتة عظيمة

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمد لله .............. أما بعد

جبر النبي لخاطر أهل الابتلاء

جبر النبي -صلى الله عليه وسلم خاطر جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما

اسمعوا أيها الأحباب إلى جبر النبي لخاطر جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما- لما استشهد والده – رضي الله عنه-  فعن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ -رضيَ اللهُ عنهُما- وهو يذكرُ كيفَ جبرَ بقلبِه النَّبيُّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لمَّا لاحظَ عليه الحُزنَ والانكسارَ، يقولُ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ لِي: “يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟”، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: “أَفَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟”، قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: “مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً، قَالَ الرَّبُّ -عزَّ وجلَّ-: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يُرْجَعُونَ“؛ فيا اللهَ، هل تتصوروا حالَ جابرٍ، بعدَ هذا الخبرِ الجَابرِ؟.

جبر النبي –صلى الله عليه وسلم-لخاطر المرأة التي كانت صرع –رضي الله عنها-

وها هي امرأة من نساء الصحابة –رضي الله عنها –كانت مريضة بمرض الصرع وجاءت إلى النبي –صلى الله عليه وسلم – تسأله الدعاء فكيف جبر النبي –صلى الله عليه وسلم خاطرها

عن عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ قَالَ :قَالَ لي ابْنُ عَبَّاسٍ أَلاَ أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى. قَالَ:هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ إني أُصْرَعُ وإني أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ لي. قَالَ إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ. قَالَتْ أَصْبِرُ. قَالَتْ فإني أَتَكَشَّفُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ لاَ أَتَكَشَّفَ. فَدَعَا لَهَا. ([15])

الدعاء .................................................

 

 

[1] - البيهقي في سننه الكبرى ج2/ص306 ح3484

[2] - أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة، (4/57)، رقم: (2996).

[3] - أخرجه و"أحمد" 2/332و"البخاري" في "الأَدب المفرد" 519 و"ابن ماجة" 1435 .

[4] - أخرجه أحمد 4/284(18698) و"البُخَارِي" 2/90(1239).

[5] - أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" 517 و"مسلم" 6648 و"ابن حِبَّان" 269 و944.

[6] -. شرح صحيح مسلم 8/371.

[7] - فيض القدير 2/312.

[8] - أخرجه الترمذي (4/601 ، رقم 2396) وقال : حسن غريب . وابن ماجه (2/1338 ، رقم 4031) . وأخرجه أيضًا : البيهقي في شعب الإيمان (7/144 ، رقم 9782) ، والقضاعى (2/170 ، رقم 1121) .

[9] - أخرجه الطيالسى (ص 29، رقم 215) ، وأحمد (1/172، رقم 1481) ، وعبد بن حميد (ص 78، رقم 146) ، والدارمي (2/412 ، رقم 2783) ، والترمذي (4/601، رقم 2398) وقال : حسن صحيح . وابن ماجه (2

[10] - شرح مسند أبي حنيفة (1/ 13)

[11] - تفسير المنار (2/ 34)

[12] -  أخرجه الترمذي (4/603 ، رقم 2402) وقال : غريب . والبيهقي (3/375 ، رقم 6345) قال الشيخ الألباني : ( حسن ) انظر حديث رقم : 8177 في صحيح الجامع

[13] - "المعجم الكبير" 3/ 92 - 93 (2760)؛ قال الهيثمي في "المجمع" 2/ 305: فيه سعد بن طريف؛ وهو ضعيف جدًّا.

[14] - أخرجه أحمد 4/415 والترمذي (1021 الألباني في \" السلسلة الصحيحة \" 3 / 398.

[15] - أخرجه أحمد 1/346(3240) و\"البُخَارِي\" 7/150 و\"مسلم\" 8/16(6663).

المرفقات

رب-الأرض-والسماء-لجبر-خواطر-أهل-البلاء

رب-الأرض-والسماء-لجبر-خواطر-أهل-البلاء

المشاهدات 4058 | التعليقات 0