عَشرُ وَقَفاتٍ مَعَ التَعَلُّمِ ( الجمعة 1442/1/9هـ) مناسبة لتعميم الوزارة
يوسف العوض
1442/01/08 - 2020/08/27 16:12PM
الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : الْقِصَّةُ هِيَ إحْدَى وَسَائِلِ التَّرْبِيَةِ ، تَتَمَيَّزُ بتوظيفِ كَثِيرٍ مِنْ المهاراتِ وَالْفُنُونِ وَالْأَفْكَارِ مِثْلَ سَرْدِ الْأَحْدَاثِ وَأَسَالِيبِ الحِوَار وَفُنُونِ الْأَسْئِلَة وَإِثَارَةِ الْعَاطِفَة وتعصيفِ الذِّهْن وتشكيلِ الْمَوَاقِف واكتشافِ الشَّخْصِيَّات وَالْقُدْرَةِ عَلَى غَرْسِ الْقَيِّم وَالْمَفَاهِيم و تَنْمِيَةِ الْخَيَالِ وَالْإِلْهَام ، لِذَلِك اِسْتَخْدَمَها المُرَبُّون وَالْأُدَبَاءُ مُنْذُ فَجْرِ التَّارِيخِ فِي شَكْلِ أَسَاطِيرَ وَقَصَصٍ وَاقِعِيَّةٍ لِمُعَالَجَةِ الْقَضَايَا الاجْتِمَاعِيَّةِ والسِّياسيِّةِ و التربويِّةِ ، واستخدم الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فِي أَغْلَبِ التَّعَالِيمِ أُسْلُوبَ الْقِصَّةِ بِكُلِّ عَنَاصِرِهَا الأدَبِيَّةِ وَأَسَالِيبِهِا الْبَلَاغِيَّةِ مَعَ بَعْضِ الْفُرُوقِ الَّتِي تُمَيِّزُهَا عَنْ قَصَصِ الْأُدَبَاء ، وَمَنْ بَيْنَ تِلْكَ الْقَصَصِ قِصّةُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْخَضِرِ الَّتِي شَمَلَت دروساً تَرْبَوِيَّةً بَلِيغَةً تَحَدُّدُ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ وَأَخْلَاقِ التَّعَلُّمِ وَمَنْهَجِ الْعَمَلِيَّةِ التربويةِ وَقَوَاعِدَ فِقْهِيَّةً وأخلاقيةً فِي السُّلُوكِ و الْمُعَامَلَةِ ، فَهَذِه وقفاتٌ تُنَاسِبُ بِدَايَةَ الْعَامِّ الدَّراسِيّ الْجَدِيدِ وَاَلَّتِي يَنْهَجُ منهجاً جَدِيدًا مِنْ حَيْثُ الدِّرَاسَةُ عَنْ بُعْدٍ عبرَ وسائلَ حَدِيثِةٍ وَعَالِمٍ اِفْتِراضِي يُسْخِّرُ التَقنيةَ لِلارْتقَاءِ بِالْإِنْسَانِ لِيَرْفَعَ الجهلَ عَنْ نَفْسِهِ وَيَصْعَدَ بِوَطَنِه وَأُمَّتِه للمعالي واللهُ المُستعانُ .
• الوقفةُ الأولى : التضحيةُ فِي سَبِيلِ التعلُّمِ ذلك أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تَرَكَ أهلَهُ وأصحابَه وبلدَه ، وخرَجَ طالباً لِلْعِلْمِ إلَى وَجْهِةٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا علَّامُ الْغُيُوبِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مستعدًّا لِضَرْبِ أَكْبَادِ الْإِبِلِ ، وتحمُّلِ جميعِ أَنْوَاعِ الْمَشَاقِّ فِي سَبِيلِ التعلُّمِ بَعْد عِتابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ، فِيمَا أَخْرَجَه الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ ، عَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَال : خَطَبنا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ (إنَّ مُوسَى قَام خطيبًا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ ، فسُئِل : أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمَ ؟ فَقَال : أَنَا ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يردْ الْعِلْمَ إلَيْهِ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ : إنَّ لِي عبدًا بمَجْمَع الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْك ، قَالَ مُوسَى : يَا رَبِّ ، فَكَيْفَ لِي بِهِ ؟ قَال : تَأْخُذُ مَعَك حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مكتلٍ ، فَحَيْثُمَا فَقَدتَ الْحُوتَ فَهُو ثَمَّ ) وَهِي التَّضْحِيَةُ والمشقَّةُ الَّتِي دلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ : ( قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ) .
• الوقفةُ الثانيةُ : الحاجةُ إلَى الْمُعَيَّنِ ذلك أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ اخْتَار فَتًى ليرافقَه يُقَال : أَنَّه يُوشعُ بْنُ نُونٍ ، وَاَلَّذِي كَانَت وظيفتُه حَمْلَ الزَّاد ، وَإِعْدَادَ الْأَكْلِ ، وَمَا إلَى ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي إذَا مَا قَامَ بِهَا طالبُ الْعِلْم بِنَفْسِه رُبَّمَا فوَّتت عَلَيْه أوقاتًا ثمينةً للتعلُّم .
• الوقفةُ الثالثةُ : الرغبةُ الجامحةُ فِي التعلُّمِ ذلك أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رُغمَ مَكَانَتِه الْعَالِيَةِ وَعِلْمِه وَتَأْيِيدِه بِالْوَحْي مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ فَإِنَّه امْتَثَل لِتَوْجِيه ربِّه تَعَالَى ، وَخَرَج باحثًا عَنْ الرَّجُلِ (الخضر) الَّذِي سيتعلَّم عَلَى يَدَيْهِ وَكَّلُه لَهْفَةٌ وَشَوْقٌ للعثور ِعَلَيْه ، وَهُوَ مَا تحقَّق عِنْد الصّخْرَةِ ؛ حَيْث فَقَد الحوتَ ليُبادر بمجرَّدِ الْعُثُورُ عَلَيْهِ إلَى تَقْدِيمِ طَلَبِه قائلًا : ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ) مؤكدًا عَلَى رَغْبَتِه ولهفتِه : ( قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ).
• الوقفةُ الرابعةُ : التواضع فموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا الْتَقَى بِالخُضَرِ لَمْ يَقُلْ لَهُ بِعِبَارَةٍ فجَّةٍ : أَنَا مُوسَى نبيٌّ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ وَقَدْ بَعَثَنِي اللَّهُ إلَيْك لتعلِّمني فعلِّمْني ! كلَّا ، لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا طَلَبَ ذَلِكَ بلطفٍ وَلَينٍ فِي تواضعٍ تامٍّ قائلًا : ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ).
• الوقفةُ الخامسةُ : التعاقد ذلك أنَّ التعلُّمَ النَّاجِحَ هُوَ الَّذِي يُفْتَتحُ بِالِاتِّفَاقِ بَيْنَ الْمُعَلِّمِ ومتعلِّميه حَوْلَ شُرُوطِ التعلُّمِ وآلياتِه لِيَعْرِفَ كلُّ طرفٍ مَا لَه وَمَا عَلَيْهِ ، بِلَا إفْرَاطٍ أَو تَفْرِيط ؛ ( قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ) وَقَبْلَ ذَلِكَ قَالَ مُوسَى : ( سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ) فتمَّ الِاتِّفَاقُ ، وانطَلَقَت الرِّحْلَةُ التعليميَّة .
• الوقفةُ السادسةُ : المزاوَجة بَيْنَ مَا هُوَ نظريٌّ وَمَا هُوَ عمليٌّ ذلك أنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُقعِد مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وعلَّمه مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُعلمه ، وَإِنَّمَا انْطَلَقَ بِهِ إلَى الْمَيْدَان ؛ لِيُرِيَه بَعْد التَّجَارِب (خرق السَّفِينَة ، وقَتْل الْغُلَام ، وَبِنَاء الجدار) ، وَذَلِك إيمانًا مِنْه أنَّ مَا سيسمعه مُوسَى وَمَا سيراه لَا مَحَالَةَ سيرسخُ فِي ذِهْنِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَلْقَى عَلَيْهِ الْمَعْرِفَةَ إلقاءً جافًّا .
• الوقفةُ السابعةُ : التأنِّي والتريُّث وَعَدَمُ التسرُّع فِي الْإِنْكَارِ أَوْ مقاطَعةِ الْمُعَلِّم مَا لَمْ يُنْهِ كَلَامَه ، ذلك أنَّ أيََّ كلامٍ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَعْنًى ظاهرٌ وآخَرَ باطنٌ ، والمتعلِّمُ اللَّبِيبُ هُو مَن يتأنَّى وَلَا يَسْتَعْجِلُ حَتَّى تتبيَّنَ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةُ وَالْإِسْرَارُ وَالنُّكَتُ الْكَامِنَةُ وَرَاءَ كلِّ ظَاهِرٍ وقديمًا قِيل : "مَن تأنَّ نَالَ مَا تمنَّى" .
• الوقفةُ الثامنةُ : إمهالُ المتعلِّمِ وَإِعْطَاؤُه فِرْصَةً للتعلُّم ذلك أنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَمَا أَنْكَر خَرْقَ السَّفِينَةِ ناسيًا ؛ فإنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُقْصِه مباشرةً مِن التعلُّم ، وَإِنَّمَا أَعْطَاه فرصةً أُخْرَى ، ليعاودَ مُوسَى الكرَّةَ منكرًا مَا هُوَ أفْظَعُ مِن الخَرْق وَهُو قَتْلُ الْغُلَام بِلَا عذرٍ ظاهرٍ ، وَذَلِك نسيانًا مِنْه مرَّة أُخْرَى لِيَحْصُل عَلَى فرصةٍ أَخِيرَةٍ بَعْد اعْتِذَارِه وَطَلَبِه الْعَفْوَ مِن معلِّمه عَلَيْهِ السَّلَامُ ﴿ قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا ﴾ .
الخطبة الثانية
• الوقفةُ التاسعةُ : احترامُ الْمُعَلِّم وَتَقْدِيرُه ذلك أنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَقِيَ معاملةً راقيةً مِن طَرَفِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بِدَايَةِ الرِّحْلَةِ التعليميَّةِ إلَى نِهَايَتِهَا ؛ حَيْثُ وجَدْنا مُوسَى فِي الْبِدَايَةِ يَطْلَب اتِّبَاعَ معلِّمِه كَمَا سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ بلطفٍ ولينٍ ، دُون فرضٍ أَوْ اسْتِغْلَالٍ لِمَنْصِب نبوَّته ، ثُمّ بمُجرَّدِ مَا نَسِيَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أُنْكِرَ بادَر إلَى الِاعْتِذَارِ بتواضعٍ تامٍّ دُون تأفُّفٍ أوْ ضَجَرٍ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرِ وَالاحْتِرامِ لِلْخَضِر عَلَيْهِ السَّلَامُ الشَّيْءُ الكَثِيرُ .
• الوقفةُ العاشرةُ : إشباعُ رَغْبَة المتعلِّم وَوَضعُ حَدٍّ لحيرته ذلك أنَّ الْخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النِّهَايَةِ لَمْ يُفَارِقْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَّا وَقَدْ بيَّن لَه كلَّ مَا غَمُضَ عَلَيْهِ ، واضعًا بِذَلِك حدًّا لكلِّ التساؤلات الَّتِي جالتْ فِي خَاطِرِ تِلْمِيذِه وأَرْهَقَت ذهنَه ليقدِّمَ لَنَا بِذَلِكَ نموذجًا للمعلِّمِ النَّاجِحِ ، وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يكونَ عَلَيْه مِن تفانٍ فِي أداءِ وَاجِبِهِ شرحًا وتوضيحًا دُونَ كللٍ أَو مللٍ ، وَلَوْ فِي أَصْعَبِ الظُّروف.