عشر ممطرات

راكان المغربي
1445/11/28 - 2024/06/05 15:06PM

 

الخطبة الأولى

أما بعد:

أيُّ أيامٍ هذه؟ وأيُّ موسمٍ هذا؟

إنها أيامُ الفضلِ والخيراتِ، وإنه لموسمُ الغيثِ والبركاتِ.

قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أفضلُ أيامِ الدنيا أيامُ العشْرِ).

أيامٌ أقسمَ اللهُ بها في كتابِه، والله عظيمٌ ولا يقسم إلا بعظيم؛ (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ).

العملُ الصالحُ في هذه الأيامِ أعظمُ أجراً، وأرفعُ درجةً، وأشدُّ مضاعفةً. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها، أحبُّ إلى اللَّهِ من هذِهِ الأيَّام)، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ! ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؟ قالَ: (ولا الجِهادُ في سبيلِ اللَّهِ؛ إلَّا رَجلٌ خرجَ بنفسِهِ ومالِهِ، فلم يرجِعْ من ذلِكَ بشيءٍ).

عشرةُ أيامٍ تَهُبُّ فيها نسائمُ الرحمةِ من الرحمن، وسحائبُ الكرمِ من الكريم.

فهل من مستمطرٍ للخيراتِ، وهل من مرتوٍ برِواءِ المَكْرُماتِ، وهل من مُشَمِّرٍ ليملأَ ميزانَه بأغياثِ الحسنات؟

فإلى من يشكو القحطَ في إيمانِه، والجدبَ في قلبِه، وضعفَ الحصادِ في عملِه:

ها قد أقبلَ وابلُ المطرِ غزيراً نافعاً مريعاً، فالموفقُ كلَّ التوفيقِ من استقبلَ الغيثَ حق الاستقبالِ وهيأَ القلبَ لتحفظَ أرضُه الماءَ وتُنبِتَ الكلأَ، والمخذولُ كلَّ الخذلانِ من كانت أرضُه جدباءَ لا تُمسكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فيخرجُ من العشرِ كما دخلَ محروما مخذولاً.

عباد الله

إن في العشر أعمالاً صالحةً من عملها فسيجدُ أثرَها رواءً لقلبه، وسقياً لفؤادِه، وذخراً لميزانِ حسناتِه.

فأعظمُ أعمالِ العشرِ وغيرِ العشرِ الصلاةُ، التي هي فريضةُ اللهِ على عبادِه في كلِّ يومٍ وليلةٍ، وقد قال الله سبحانه في الحديثِ القدسيِّ: (وما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه). الصلاةُ هي العمادُ الذي يقومُ عليه الدّين (فإن صلُحَت صلُحَ سائرُ عملِهِ، وإن فسَدت فسدَ سائرُ عملِهِ).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استَقيموا ولَن تُحصوا ، واعلَموا أنَّ خيرَ أعمالِكُمُ الصَّلاةَ).

الصلاةُ أعظمُ رِواء، وخيرُ سقيا، قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟) قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ، قالَ: (فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا).

ومن أعمال العشر الجليلة ذكرُ الله الذي يجلي صدأَ القلبِ، ويغسلُ أمراضَه، فبه ينشرح الصدرُ ويرتوي (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)

قالَ النبُّي صلى الله عليه وسلم مبيناً عظيمَ فضلِ الذكرِ: (ألا أنبِّئُكُم بخيرِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مليكِكُم، وأرفعِها في درجاتِكُم، وخيرٌ لَكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والورِقِ، وخيرٌ لَكُم من أن تلقَوا عدوَّكُم فتضرِبوا أعناقَهُم ويضربوا أعناقَكُم؟) قالوا: بلَى يا رسول الله. قالَ: (ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى).

ذكرُ اللهِ هو شعارُ العشرِ، فمعَ دخولِ أولِ ليالي ذي الحِجّة وإلى غروبِ شمسِ الثالثِ عشر من الشهرِ، تشرعُ سنةُ التكبيرِ المطلقِ، بأن يكبرَ المسلمون في كلِّ وقتٍ دون التقيدِ بزمن ٍمحدد. ومع فجر اليومِ التاسعِ وإلى غروبِ شمسِ الثالثِ عشر من الشهرِ تشرعُ سنّةُ التكبيرِ المقيدِ، بأن يكبرَ المسلمون دُبُرَ الصلواتِ المكتوبةِ، فيكونُ التكبيرُ جزءاً من أذكارِ ما بعدَ الصلاة.

فكبّروا -معاشر المسلمين- وأحيوا سنةَ التكبير، واجْهَرُوا بذكرِ اللهِ في بيوتِكم ومساجدِكم، وأسواقِكم وطرقاتِكم، ومدارسِكم وأماكنَ أعمالِكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أيَّامٍ أعظَمُ عندَ اللهِ ولا أحَبُّ إليه العَمَلُ فيهِنَّ من هذه الأيَّامِ العَشْرِ، فأكْثِروا فيهِنَّ من التَّهْليلِ والتَّكْبيرِ والتَّحْميدِ).

وقد رُوي عن ابنَ عمر وأبي هريرةَ رضي الله عنهما: أنهما كانَا يخرجانِ إلى السوقِ أيامَ العشرِ فيكبرانِ ويكبرُ الناسُ بتكبيرِهما.

وإن أفضلَ أنواعِ الذكرِ تلاوةُ القرآنِ، فإنه غذاءُ الأرواحِ، وحياةُ القلوبِ، فليكن له نصيبٌ وفيرٌ من يومِكم وليلتِكم، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اقرؤوا القرآنَ، فإنَّكم تُؤجرونَ عليه ، أما إني لا أقولُ (آلم) حرفٌ، و لكنْ ألفٌ عشرٌ، ولامٌ عشرٌ ، وميمٌ عشرٌ، فتلك ثلاثونَ)

ومن أعمال العشر العظيمة الصيامُ، فحين تصومُ الجوارح ويَحرمُ الإنسان نفسَه من بارد الشرابِ ولذيذِ الطعامِ طاعةً لله، فإن اللهَ سبحانه يعوضُه برداً في الروح، وانشراحاً في القلبِ، فيكون الصائمُ مسارعاً إلى الطاعات، مسابقاً في الخيرات. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كانَ (كان يصومُ تِسْعَ ذي الحِجَّةِ). وآكدُ هذه الأيامِ هو يومُ عرفة، الذي قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (صِيامُ يومِ عَرَفَةَ ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ ، و السنَةَ التي بَعدَهُ).

ومن أعمال العشر إنفاقُ المالِ وبذلُه خالصا لله، فالصدقةُ تطفئُ نارَ الذنوبِ والمعاصي، وتغسلُ أدواءَ القلبِ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (الصَّدقةُ تُطْفِئُ الخطيئةَ كما يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ). وفي العشرِ ينفقُ الحاجُّ من مالِه فينقِّ نفسَه من الفقرِ والذنوبِ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (تابِعوا بينَ الحجِّ والعُمرةِ، فإنَّهُما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ).

ومما يدخلُ في هذا ما ينفقُه الحاجُّ وغيرُ الحاجِّ في النحرِ لله، وذبحِ الهدْيِ أو الأضحيةِ، فهذه العبادةُ الماليةُ الجليلةُ من أجلِّ العبادات، وبها ينالُ المسلمُ درجاتِ التقوى، ويحققُ منازلَ الشكر، قال الله جل وعلا: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).

ومن أعمال العشرِ الدعاءُ، فبه تُستمطر الرحمات، وتُنال الهبات، ويُكرم العبدُ من خزائنِ رب الأرض والسمواتِ. وفي العشرِ أفضلُ أوقاتِ الدعاء، وأقربُ ساعاتِ الإجابة، وذلك في يومِ عرفةَ الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ). فادخرُوا دعواتكم لذلك اليومِ، وأروا الله فقركم، وأظهروا له حاجتكم، عسى أن تكونوا من المعتقين، فإنه (ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

تلك هي بعض أعمالُ العشرِ التي تُغتنم بها ساعاتِها ولحظاتِها، وأبوابُ العمل الصالحِ كثيرةٌ لا حصر لها، فكلُّ طاعةٍ أجرُها في هذه الأيام مضاعفٌ، وبركتُها ممتدةٌ، فكن شحيحاً بوقتِك ألا يذهبَ إلا في قربةٍ إلى الله، عسى أن تكونَ من الفائزين.

 

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

أخي المسلم

إنما هي عشرةُ أيام، قليلةُ العدد، كثيرةُ البركة، لا مثيلَ لها في العام، هو أعظمُ موسمٍ تستزيدُ فيه من العملِ الصالحِ، ولتكونَ من الفائزينَ في هذا الموسم، فأنتَ محتاجٌ إلى توفيقِ من اللهِ تستجلبُه بالانطراحِ بين يديه، وسؤالِ العونِ والمددِ من لدنْه، والتبرؤِ من الحولِ والقوةِ إلا به.

وتحتاجُ أن تجلسَ جلسةً معَ نفسِك تفكرُ فيها: ما هي الأعمالُ الصالحةُ التي أريدُ أن أثقِّلَ بها ميزاني في هذه الأيام؟؛ من تكبيرٍ وتهليلٍ وصلاةٍ، وصيامٍ وصدقةٍ وقراءةِ قرآنٍ، ومكثٍ في المسجد، وحجٍّ وأضحيةٍ وهديٍ، وبرٍ وصلةٍ وحسنِ خلقٍ، وزيارةِ مريضٍ واتباعِ جنازةٍ، وغيرِ ذلك من أبوابِ العملِ الصالحِ التي لا تُحصى، فاجلسْ وخططْ لأرباحِك ومكتسباتِك الأخروية؛ كما تخططُ لأرباحِك ومكتسباتُك الدنيوية.

أخي: اطرحِ الكسلَ، واحملْ نفسَك على الجدِّ والاجتهادِ، والصبرِ والمصابرةِ على الطاعة، وحينها أبشر بالخير العظيم والكرم من الكريم.

اللهم وفقنا لما تحبُّ وترضى، وخذ بناصيتِنا للبرِّ والتقوى، اللهم وفقنا لطاعتِك وجنبنا معصيتَك، اللهم أعنا على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتك، اللهم إنا نسألك الغنيمةَ من كلِّ برٍّ، والسلامةَ من كل إثمٍ، والفوزَ بالجنة، والنجاةَ من النار.

 

المرفقات

1717589135_عشر ممطرات.docx

1717589137_عشر ممطرات.pdf

المشاهدات 884 | التعليقات 0