عشر مباركات

عاصم بن محمد الغامدي
1437/09/16 - 2016/06/21 20:00PM
[align=justify]عشر مباركات.
الخطبة الأولى:
الحمدُ لله مجيبِ الدَّعوات، جزيلِ العطايا والهِبات، إليه وحدَه تُرفعُ الأيدي بالحاجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ الأرضِ والسمواتِ، وأشهد أنَّ نبينا محمداً عبدُه ورسوله المُرسلُ بالآياتِ البَيِّناتِ، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه، وعلى آله الهداةِ، وأصحابِه الثِّقاتِ، والتابعين لهم بإحسان ٍوإيمانٍ إلى يومِ الممات.
أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، كل مطالب الدنيا وإن طال المدى تُسلَب، فلا يُستعذبْ غير طعم الإيمان، فما عذبٌ سواه إلا وهو منه أعذب، وعليكم بالهدى والتقى، فبالهدى استقام السالكون على الطريق، وبالتقى خلَص الصالحون من سوء المنقلب.
من تدرع بدروع التقى، وسلك مسالك الهدى، جدَّ في فعل المأمورات، وتركِ المنهيّات، وتحبب لربه بفعل الصالحات، حينئذٍ يُقَرِّبُه ربه من جنابه، ويسلك به مسالك أحبابه، إذا سأله أعطاه، وإذا دعاه لباه، وإذا استنصره نصره، وإن اعتذر إليه عذره.
فاتقوا الله رحمكم الله، وكونوا ممن بادر الأعمالَ واستدركها، وجاهد النفس حتى ملكها، وعرف سبيل التقوى فسلكها، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون* ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}.
عباد الله:
هذه أيام شهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، شاهدةً بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة، تدعون يوم القيامة: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ) [آل عمران:30]، ينادي ربكم: "يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
فإن كان في النفوس زاجر، وفي القلوب واعظ، فقد بقي من الشهر بقيةٌ وأي بقية، بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-أيما احتفاء، ففي العشرين قبلها كان يخلط صلاة بنوم، فإذا دخلت العشر شمر وجد وشد المئزر، وهجر فراشه، وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي -رضي الله عنهما- قائلاً: "ألا تقومان فتصليان"، يطرق الباب وهو يتلو: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]، ويتجه إلى حجرات نسائه آمرًا: "أيقظوا صواحب الحجر؛ فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة".
إنها أيام معدودات توشك على الانقضاء، ومن أحسن فيما بقي، غفر الله له ما مضى، والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية، والمؤمن يرجو حديث: "ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"، فيا ترى هل زفت أسماؤنا إلى السماء مع قائمة العتقاء؟ أم سترفع في الليالي القادمة؟
يا من قصر فيما مضى، لا تفوّت ما بقي، فما بقي عظيم، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: "لما بقي ثلاث من الشهر جمع النبي صلى الله عليه وسلم أهله ونساءه، وقام بنا حتى تخوفنا أن يفوتنا السحور".
فاعرفوا رحمكم الله شرف زمانكم، واقدروا أفضل أوقاتكم، وقدموا لأنفسكم، ولا تضيعوا فرصة في غير قربة.
إحسان الظن ليس بالتمني، ولكنه بحسن العمل، والرجاء في رحمة مع العصيان، ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع، ولكنه بترك ما تُخشى منه العقوبة.
أيها الصائمون:
قدموا لأنفسكم وجدوا وتضرعوا، تقول عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-: يا رسول الله: أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟! قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
نعم -أيها الإخوة-عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء، فقد قال ربكم -عز شأنه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
إن للدعاء شأنًا عجيبًا، وأثرًا عظيمًا في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل، والتوفيق في الأعمال، والبركة في الأرزاق، والنصر للأمة، وربط القلوب بخالقها.
ومن لم يذق حلاوة المناجاة، واستنكف عن عبادة ربه ودعاء مولاه، فهو محروم سدَّ على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحجب الغفلة.
والذي رفع سبعًا بلا عمد، إن نزع حلاوة المناجاة من القلب من أشد ألوان العقوبات والحرمان، كيف لا! والنبي –صلى الله عليه وسلم- قد استعاذ بالله من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع؟!
وفي هذه العشر تجتمع أوقات فاضلة، وأحوال شريفة، العشر الأخيرة، جوف الليل والأسحار من رمضان، دبُر الأذان والمكتوبات، أحوالُ السجود وتلاوةِ القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في هذه الأيام.
فألح على ربك بالدعاء -يا عبد الله-، ولا تستبطئ الإجابة؛ فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقداره، رضا بلا قنوط، وقد يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال–صلى الله عليه وسلم-: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي".
ويعظم الرجاء في الدعاء حين يقترن بالاعتكاف، فالمعتكفون انقطعوا عن دنياهم، واتصلوا بخالقهم، واستنوا بسنة نبيهم، فقد اعتكف–صلى الله عليه وسلم-هذه الأيام حتى توفاه الله.
فاغتنموا ما هيأه الحق عز وجل لكم من هذه الأزمنة الفاضلة والمواسم المباركة، وسارعوا إلى طاعة الله ومرضاته، والتعرض لألطافه ونفحاته، فربما أدركت العبد نفحةٌ من نفحات ربه، فارتقى بسببها إلى درجات المقربين، وكان في عداد أولياء الله المتقين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبيه ورسوله الداعي لرضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، ومن اهتدى بهداه واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
أيها المسلمون:
أيامكم هذه أعظم الأيام فضلاً وأكثرها أجرًا، تصفو فيها لذيذ المناجاة، وتسكب فيها غزير العبرات، كم لله فيها من عتيق من النار؟! وكم فيها من منقطع قد وصلته توبته؟!
وإن من أعظم ما يرجى فيها ويتحرى ليلةَ القدر: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر:2]، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
ليلة خير من ألف شهر، خفي تعينها اختبارًا وابتلاءً، ليتبين العاملون وينكشف المقصرون، فمن حرص على شيء جد في طلبه، وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه.
إنها ليلة تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، ولا يهلك على الله إلا هالك.
تتنزل فيها الملائكة، فهي في الأرض أكثر من عدد الحصى، على رأسهم الروح الأمين جبريل عليه السلام.
وَهِيَ فِي الْحِسَابِ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، فَيَا لَفَضْلِ اللهِ تَعَالَى وَكَرَمِهِ: أَنْ يُعْطِيَنَا لَيْلَةً وَاحِدَةً بِمَا يَقْرُبُ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ لَيْلَةٍ، وَالْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ الْمَوَاسِمَ الْفَاضِلَةَ، والمغبون من انصرف عن طاعة الله، وحرم رحمة الله، والمأسوف عليه من فاتته فرص الشهر، وفرط في فضل العشر، وخاب رجاؤه في ليلة القدر، مغبون من لم يرفع يديه بدعوة، ولم تذرف عينه بدمعة، ولم يخشع قلبه لله لحظة، ويحه ثم ويحه، أدرك الشهر ألم يحظ بمغفرة؟! ألم ينل رحمة؟! يا بؤسه، ألم تقل له عثرة؟!
ومرحى لمن اقتدى بالمصطفى صلى الله عليه وسلم فأيقظ أهله، وشدّ مئزره، وطوبى لمن تفرغ لطاعة مولاه، فاعتكف في بيت من بيوت الله، هاجرًا للملذات والملهيات، قاطعًا لنفسه عن الجلبة في الأسواق والتعرض للفتن، حسنت سيرته، وزانت خليقته، قطع شهره في العبادة، وكأنه لم يبق للدنيا في قلبه موضع، وأمضى وقته في الطاعة حتى كأنه لا ينزع.
فكونوا أيها الكرام من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واتقوا الله -رحمكم الله-، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة؛ فإن الشقي من حرم رحمة الله، عياذًا بالله، ثم صلوا وسلموا على خير البرايا، فقد أمركم الله تعالى بذلك فقال عز من قائل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.[/align]
المشاهدات 1603 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا خطبة مباركة