عشر ذي الحجة وفضل الأعمال فيها.
عبد الله بن علي الطريف
1435/11/24 - 2014/09/19 08:32AM
عشر ذي الحجة وفضل الأعمال فيها. 24/11/1435هـ
الحمد لله ذِي الفضلِ والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك العلاّم، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبدُه ورسولُه سيّدُ الأنام، اللهمَّ صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الليالي والأيام.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الأحبة: نظرت ألفاظ حديثِ فضل العمل في عشر ذي الحجة، ومنها حديثُ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "ما مِن أيّامٍ العملُ الصّالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ من هذهِ الأيامِ"، يعني أيّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟! قال: "ولا الجهادُ في سبيل الله، إلاّ رجلٌ خرج بنفسِه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء" رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضلُ أيّامِ الدّنيا العشرُ"، يعني عشرَ ذي الحجّة، قيل: ولا مثلُهن في سبيل الله؟ قال: "ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجلٌ عَفَرَ وجهَهُ بالتراب" رواه البزّار في مسنده بسند حسن.
وعند البيهقيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ وَلا أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي الْعَشْرِ الأَضْحَى" قِيلَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ". وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ. أيها الإخوة: لقد دلت هذه الأحاديث على أن أيام العشر أفضل أيام الدنيا، وأن العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من العمل الصالح فيما سواها.!.. وأزكى عند الله، وأعظم أجراً، ثم استثنت الأحاديثُ عملاً صالحاً واحداً عظيماً أفضل منها..! وهذا العمل لا يتهيأ لكل أحد ولا يستطيعه كلُ أحد، وذلك لندرته في هذا الزمان، وصعوبته وعدم قدرة كثير من الناس عليه إن وجد، وهو أن يخرجَ الرجلُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مجاهداً في سبيلِ الله فيقتل وتدمر آلته التي معه ويسلب كل ما معه من زاد ومتاع وما عليه من لباس وغيره، ويرمى في العراء والتراب الذي فيتعفرَ وجهه بالتراب أي يمرغ بالتراب حتى لا يعرف وجهه مما علقه من تراب ويكون خبراً بعد عين..
عجباً لنا أين نحن من هذا العرضِ الرباني الضخم، والعطاءِ الإلَهي الجزل، هل فكرنا فيه وتأملناه، هل خططنا لاغتنامه وشمرنا لاهتباله، أقول: نعم نحن المشمرون إن شاء الله.
أيها الإخوة: انظروا كيف ينظر سلف الأمة لهذه الفرصة، وما عملهم فيها؟ لقد كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رحمه الله إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وُروي عنه رحمه الله أنه كان يقول: لا تُطفئوا سُرجَكم ليالَي العشر، يشير إلى قيام الليل.
وقال مجاهدٌ رحمه الله: العمل في العشر يضاعف. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: دل هذا الحديثُ على أن العملَ في أيامِه أحبُ إلى الله من العملِ في أيامِ الدنيا من غيرِ استثناءِ شيءٍ منها، وإذا كان العمل أحبَ إلى الله فهو أفضلُ عنده. وقال: جميعُ الأعمالِ الصالحةِ مضاعفةٌ في العشر من غيرِ استثناءِ شيءٍ منها، وقال: إن العملَ في هذه الأيامِ العشرِ أفضلُ من العملِ في أيامِ عشرٍ غيرِها، وقال: ويستثنى جهادًا واحدًا هو أفضلُ الجهادِ، وهو أن يُعقرَ جوادُه ويُهراقَ دمُه. اهـ.
وقال ابن حجر: "والذي يظهَرُ أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادةِ فيها، وهي الصّلاةُ والصّيامُ والصّدقةُ والحجُّ وغيرُها، ولا يتأتّى ذلك في غيرِها". اهـ.
أيها الإخوة: أعظم عمل في أيّامِ العشر: الحجّ، وكثير منا لن يتيسرَ له الحج لأي سبب من الأسباب وبديل الحج بالنفس أن تجهز حاجاً بالمال ليحج وهذا باب مفتوح وموجود لمن أراده، أو تخلف حاجاً في أهله برعايتهم فلك بذلك مثل أجورهم، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. (رواه ابن خزيمة وصححه الألباني).
معاشرَ الإخوة: وهذه الأيّامُ الفاضلةُ يُشرعُ صومُها، ويتأكّدُ فضلُه فيها، فعَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ. رواه النسائي وصححه الألباني.
قال النوويّ: عن صيامِ هذه التسعة: إنه مستحبٌّ استحبابًا شديدًا، ومن لم يصم العشر فلا يغلبنَّ على صيام ثلاثة أيام منه، ومن غُلِبَ فلا يغلبنَّ على صيام يوم عرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ" رواه مسلم.
أيّها الإخوة: المغبونُ من انصرَف عن طاعة الله، لاسيّما في هذه الأيام، والمحروم من حُرم رحمةَ الله جلّ وعلا، والمأسوفُ عليه من فاتت عليه هذه الفُرَص وفرَّط في هذا الفضل، فيا ويحَ مَن أمضى هذه الأيام في سيِّئ الأخلاق وقطعَها في المعاصي والآثام.! ويا خسارةَ مَن دعَته دواعي الخير فأعرض عنها!.
ألا فاغتنِموا -رحمكم الله- هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعِها، والأعمالِ الصالحةِ بمختلف صُوَرِها، من الصلاةِ والصيام وحضور الجنائز وقراءةِ القرآن والذكرِ والدعاءِ والصدقةِ والإنفاقِ في سُبلِ الخيرِ وإعانة الحجاج بالمال، و خلافتهم في أهلهم، والشفقةِ على الضعفاءِ ورحمةِ الفقراء، وبرِ الوالدين وصلةِ الأرحام، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والدعوةِ إلى الله، وغيرِ ذلك من طرقِ الخيرِ وسبلِ الطاعة.
فنبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- يروي عن ربِّه -عز وجل- أنه يحصي الأعمال كبيرها وصغيرها ثم يوفيها لكم كاملة يوم القيامة قولَه: "يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ" رواه مسلم.
وينبغي للمسلم في هذه الأيام أن يعتني بتجديد التوبة النصوح، فلها في هذه الأيام شأنٌ عظيم، وأجرُها مضاعفٌ، وإذا اجتمع للمسلم توبةٌ نصوحٌ مع أعمالٍ فاضلة، في أزمنةٍ فاضلة، فهذا عنوان الفلاح، قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) [القصص:67]. أي: لا نجاة إلا لمن اتصف بالتوبة من الشرك والمعاصي، وآمن باللّه فعبده، وآمن برسله فصدقهم، وعمل صالحا متبعا فيه للرسل، (فَعَسَى أَنْ يَكُونَ) من جمع هذه الخصال (مِنَ الْمُفْلِحِينَ) الناجحين بالمطلوب، الناجين من المرهوب، فلا سبيل إلى الفلاح بدون هذه الأمور.. بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41،42] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن توحيدا له وتبجيلاً، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أسبق المفردين وأكثرهم ذكراً لله وتعظيماً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ ما اتصلت عين بنظر وإذن بخبر وسلم تسليماً كثيراً..
أيها الإخوة: من خصائِص هذه العشر فضيلةُ الإكثار فيها من الذكر من التهليل والتكبيرِ والتحميد، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ" رواه أحمد و إسناده صحيح.
الذكر الذي قال عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مُعَاذٌ رضي الله عنه: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ..؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ.. قَالُوا: بَلَى. يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ذِكْرُ اللهِ عز وجل. رواه أحمد وهو صحيح. والذكر الذي هو أيسر الأعمال على من وفقه الله تعالى، لأنه حركة لسان يدفعها رغبة جنان.
الذكر الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله بقوله: مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. رواه البخاري، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الفوائد: وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلبُ اللسانَ وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانَيه ومقاصده.. والذكر الذي هو مشروع كل وقت أكد عليه رسول الله صلى الله عليه سلم في هذه العشر فتسابق أصحابه رضي الله عنهم عليه فقد قال البخاريُّ في صحيحه: كان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوقِ في أيّامِ العشرِ يكبِّران، ويكبِّرُ الناسُ بتكبيرهما.
وعن يزيدَ بنِ أبي زياد قال: "رأيت فقهاء الناس يقولون في أيام العشرِ: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد".
وعن ميمون بن مهران قال: أدركت الناسَ وإنهم ليكبرون في العشرِ حتى كُنْت أشبهُهُ بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبيرَ.
وقال ابن القيم: "يستحب في العشر الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد".
أيّها الإخوة: اعلموا أن مِن أعظمِ القُرُبات التي يتقرَّبُ بها المسلمون إلى ربِّهم في خِتام هذه الأيام الأضاحي، وذبح الأضاحي شعيرةٌ من شعائر الإسلام، مقصودُها الأعظمُ التقربُ إلى اللهِ تعالى بالذبح، وليس المقصودُ منها الصدقةَ بلحمها على الفقراء فقط، لكنه من بعض ما يقصد منها وسيكون لها بيان إن شاء الله.. وصلوا وسلموا...
[/size][/font]
الحمد لله ذِي الفضلِ والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملِك العلاّم، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبدُه ورسولُه سيّدُ الأنام، اللهمَّ صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ما تعاقبتِ الليالي والأيام.
أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الأحبة: نظرت ألفاظ حديثِ فضل العمل في عشر ذي الحجة، ومنها حديثُ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "ما مِن أيّامٍ العملُ الصّالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ من هذهِ الأيامِ"، يعني أيّامَ العشر، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيلِ الله؟! قال: "ولا الجهادُ في سبيل الله، إلاّ رجلٌ خرج بنفسِه ومالِه ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء" رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضلُ أيّامِ الدّنيا العشرُ"، يعني عشرَ ذي الحجّة، قيل: ولا مثلُهن في سبيل الله؟ قال: "ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجلٌ عَفَرَ وجهَهُ بالتراب" رواه البزّار في مسنده بسند حسن.
وعند البيهقيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللهِ وَلا أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي الْعَشْرِ الأَضْحَى" قِيلَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: "وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ". وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ. أيها الإخوة: لقد دلت هذه الأحاديث على أن أيام العشر أفضل أيام الدنيا، وأن العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من العمل الصالح فيما سواها.!.. وأزكى عند الله، وأعظم أجراً، ثم استثنت الأحاديثُ عملاً صالحاً واحداً عظيماً أفضل منها..! وهذا العمل لا يتهيأ لكل أحد ولا يستطيعه كلُ أحد، وذلك لندرته في هذا الزمان، وصعوبته وعدم قدرة كثير من الناس عليه إن وجد، وهو أن يخرجَ الرجلُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ مجاهداً في سبيلِ الله فيقتل وتدمر آلته التي معه ويسلب كل ما معه من زاد ومتاع وما عليه من لباس وغيره، ويرمى في العراء والتراب الذي فيتعفرَ وجهه بالتراب أي يمرغ بالتراب حتى لا يعرف وجهه مما علقه من تراب ويكون خبراً بعد عين..
عجباً لنا أين نحن من هذا العرضِ الرباني الضخم، والعطاءِ الإلَهي الجزل، هل فكرنا فيه وتأملناه، هل خططنا لاغتنامه وشمرنا لاهتباله، أقول: نعم نحن المشمرون إن شاء الله.
أيها الإخوة: انظروا كيف ينظر سلف الأمة لهذه الفرصة، وما عملهم فيها؟ لقد كَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رحمه الله إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وُروي عنه رحمه الله أنه كان يقول: لا تُطفئوا سُرجَكم ليالَي العشر، يشير إلى قيام الليل.
وقال مجاهدٌ رحمه الله: العمل في العشر يضاعف. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: دل هذا الحديثُ على أن العملَ في أيامِه أحبُ إلى الله من العملِ في أيامِ الدنيا من غيرِ استثناءِ شيءٍ منها، وإذا كان العمل أحبَ إلى الله فهو أفضلُ عنده. وقال: جميعُ الأعمالِ الصالحةِ مضاعفةٌ في العشر من غيرِ استثناءِ شيءٍ منها، وقال: إن العملَ في هذه الأيامِ العشرِ أفضلُ من العملِ في أيامِ عشرٍ غيرِها، وقال: ويستثنى جهادًا واحدًا هو أفضلُ الجهادِ، وهو أن يُعقرَ جوادُه ويُهراقَ دمُه. اهـ.
وقال ابن حجر: "والذي يظهَرُ أنّ السببَ في امتياز عشر ذي الحجة بهذه الامتيازاتِ لِمَكان اجتماع أمّهات العبادةِ فيها، وهي الصّلاةُ والصّيامُ والصّدقةُ والحجُّ وغيرُها، ولا يتأتّى ذلك في غيرِها". اهـ.
أيها الإخوة: أعظم عمل في أيّامِ العشر: الحجّ، وكثير منا لن يتيسرَ له الحج لأي سبب من الأسباب وبديل الحج بالنفس أن تجهز حاجاً بالمال ليحج وهذا باب مفتوح وموجود لمن أراده، أو تخلف حاجاً في أهله برعايتهم فلك بذلك مثل أجورهم، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. (رواه ابن خزيمة وصححه الألباني).
معاشرَ الإخوة: وهذه الأيّامُ الفاضلةُ يُشرعُ صومُها، ويتأكّدُ فضلُه فيها، فعَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ. رواه النسائي وصححه الألباني.
قال النوويّ: عن صيامِ هذه التسعة: إنه مستحبٌّ استحبابًا شديدًا، ومن لم يصم العشر فلا يغلبنَّ على صيام ثلاثة أيام منه، ومن غُلِبَ فلا يغلبنَّ على صيام يوم عرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ" رواه مسلم.
أيّها الإخوة: المغبونُ من انصرَف عن طاعة الله، لاسيّما في هذه الأيام، والمحروم من حُرم رحمةَ الله جلّ وعلا، والمأسوفُ عليه من فاتت عليه هذه الفُرَص وفرَّط في هذا الفضل، فيا ويحَ مَن أمضى هذه الأيام في سيِّئ الأخلاق وقطعَها في المعاصي والآثام.! ويا خسارةَ مَن دعَته دواعي الخير فأعرض عنها!.
ألا فاغتنِموا -رحمكم الله- هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعِها، والأعمالِ الصالحةِ بمختلف صُوَرِها، من الصلاةِ والصيام وحضور الجنائز وقراءةِ القرآن والذكرِ والدعاءِ والصدقةِ والإنفاقِ في سُبلِ الخيرِ وإعانة الحجاج بالمال، و خلافتهم في أهلهم، والشفقةِ على الضعفاءِ ورحمةِ الفقراء، وبرِ الوالدين وصلةِ الأرحام، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والدعوةِ إلى الله، وغيرِ ذلك من طرقِ الخيرِ وسبلِ الطاعة.
فنبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- يروي عن ربِّه -عز وجل- أنه يحصي الأعمال كبيرها وصغيرها ثم يوفيها لكم كاملة يوم القيامة قولَه: "يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ" رواه مسلم.
وينبغي للمسلم في هذه الأيام أن يعتني بتجديد التوبة النصوح، فلها في هذه الأيام شأنٌ عظيم، وأجرُها مضاعفٌ، وإذا اجتمع للمسلم توبةٌ نصوحٌ مع أعمالٍ فاضلة، في أزمنةٍ فاضلة، فهذا عنوان الفلاح، قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) [القصص:67]. أي: لا نجاة إلا لمن اتصف بالتوبة من الشرك والمعاصي، وآمن باللّه فعبده، وآمن برسله فصدقهم، وعمل صالحا متبعا فيه للرسل، (فَعَسَى أَنْ يَكُونَ) من جمع هذه الخصال (مِنَ الْمُفْلِحِينَ) الناجحين بالمطلوب، الناجين من المرهوب، فلا سبيل إلى الفلاح بدون هذه الأمور.. بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) [الأحزاب:41،42] وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن توحيدا له وتبجيلاً، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أسبق المفردين وأكثرهم ذكراً لله وتعظيماً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسانٍ ما اتصلت عين بنظر وإذن بخبر وسلم تسليماً كثيراً..
أيها الإخوة: من خصائِص هذه العشر فضيلةُ الإكثار فيها من الذكر من التهليل والتكبيرِ والتحميد، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ، وَلا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنْ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ" رواه أحمد و إسناده صحيح.
الذكر الذي قال عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مُعَاذٌ رضي الله عنه: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ..؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ غَدًا فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ.. قَالُوا: بَلَى. يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ذِكْرُ اللهِ عز وجل. رواه أحمد وهو صحيح. والذكر الذي هو أيسر الأعمال على من وفقه الله تعالى، لأنه حركة لسان يدفعها رغبة جنان.
الذكر الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله بقوله: مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. رواه البخاري، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الفوائد: وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلبُ اللسانَ وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانَيه ومقاصده.. والذكر الذي هو مشروع كل وقت أكد عليه رسول الله صلى الله عليه سلم في هذه العشر فتسابق أصحابه رضي الله عنهم عليه فقد قال البخاريُّ في صحيحه: كان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ رضي الله عنهما يخرجان إلى السّوقِ في أيّامِ العشرِ يكبِّران، ويكبِّرُ الناسُ بتكبيرهما.
وعن يزيدَ بنِ أبي زياد قال: "رأيت فقهاء الناس يقولون في أيام العشرِ: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد".
وعن ميمون بن مهران قال: أدركت الناسَ وإنهم ليكبرون في العشرِ حتى كُنْت أشبهُهُ بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبيرَ.
وقال ابن القيم: "يستحب في العشر الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد".
أيّها الإخوة: اعلموا أن مِن أعظمِ القُرُبات التي يتقرَّبُ بها المسلمون إلى ربِّهم في خِتام هذه الأيام الأضاحي، وذبح الأضاحي شعيرةٌ من شعائر الإسلام، مقصودُها الأعظمُ التقربُ إلى اللهِ تعالى بالذبح، وليس المقصودُ منها الصدقةَ بلحمها على الفقراء فقط، لكنه من بعض ما يقصد منها وسيكون لها بيان إن شاء الله.. وصلوا وسلموا...
[/size][/font]
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق