عشر ذي الحجة قطوف وعزوف 28/11/ 1439هـ

عشر ذي الحجة قطوف وعزوف 28/11/ 1439هـ

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَيَّأَ لِعِبَادِهِ مَوَاسِمَ الطَّاعَاتِ، وَرَغَّبَ لَهُمْ فِعْلَ الصَّالِحَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ سَابِقِي الْفَضْلِ وَأُولِي الْمَكْرُمَاتِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْوُقُوفِ فِي الْعَرَصَاتِ.

 

ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الْحَجِّ: 1-2].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَرَاقِبُوهُ؛ فَإِنَّ تَقْوَاهُ الْمَسْلَكُ الْوَحِيدُ لِسَعَادَةِ الدُّنْيَا، وَالسَّبِيلُ الْمُخَلِّصُ مِنَ الْخِزْيِ فِي الْأُخْرَى، وَاعْلَمُوا -رَحِمَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ- أَنَّ مَكَانَةَ الْعَبْدِ عِنْدَ رَبِّهِ بِقَدْرِ تَعْظِيمِهِ فِي قَلْبِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ وَخَوْفِهِ مِنْهُ.

 

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى *** وَلَاقَيْتَ يَوْمَ الْعَرْضِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا

نَدِمَتْ عَلَى أَلَّا تَكُونَ كَمِثْلِهِ *** وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصُدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا

 

عِبَادَ اللَّهِ: أَوْقَاتٌ قَلَائِلُ تَقْطَعُنَا عَنْ عَشْرٍ فَاضِلَةٍ، أَيَّامُهَا نَفِيسَةٌ، وَسَاعَاتُهَا ثَمِينَةٌ؛ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ قَدْرًا، وَأَعْلَاهَا مَنْزِلَةً وَذِكْرًا؛ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ وَفَضْلًا؛ لِيُعَمِّرَهَا الْمُتَسَابِقُونَ بِمَا يُقَرِّبُهُمْ مِنْهُ، وَيَسْتَغِلَّهَا الْمُنَافِسُونَ بِمَا يُحَبِّبُهُمْ إِلَيْهِ، وَالْعَاقِلُ الْبَصِيرُ لَا يَقْبَلُ أَنْ تَمُرَّ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ الْمِنَحِ الرَّبَّانِيَّةِ وَالْهَدَايَا الْإِلَهِيَّةِ مُرُورًا عَابِرًا دُونَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ مِمَّا أَوْدَعَهُ الْمَنَّانُ الْكَرِيمُ فِيهَا، وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ.

 

إِنَّهَا أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَعَشْرُنَا هَذِهِ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- ذَاتُ أَهَمِّيَّةٍ عَظِيمَةٍ وَمَكَانَةٍ رَفِيعَةٍ، وَتَكْتَسِبُ شَرَفَهَا وَتَسْتَقِي مَكَانَتَهَا مِنْ أُمُورٍ:

 كَوْنُهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَتَأْتِي فِي آخِرِهَا، قَالَ تَعَالَى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[الْبَقَرَةِ: 197]، وَلِأَنَّهَا تَأْتِي فِي أَشْهُرِ الْحَرَمِ الَّتِي عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهَا؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التَّوْبَةِ: 36].

 

وَكَذَلِكَ لِمَا يَجْتَمِعُ فِيهَا مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ، وَقَلَّ أَنْ تَجْتَمِعَ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَامِ؛ حَيْثُ يَجْتَمِعُ فِيهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا؛ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَغَيْرِهَا... قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: "وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، لِمَكَانِ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، وَلَا يَأْتِي ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ".

 

وَلِأَنَّ أَيَّامَهَا أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا: "أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ" (الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ الْجَامِعِ: 1133). وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا الْعَشْرُ- يَعْنِي: عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ- قِيلَ: وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا مِثْلُهُنَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ عَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ" (فَتْحِ الْغَفَّارِ: 659/2، إِسْنَادُهُ حَسَنٌ).

 

وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْفَاضِلَاتُ الَّتِي حَثَّ الْقُرْآنُ عَلَى كَثْرَةِ ذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا؛ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)[الْحَجِّ: 28]، وَحَثَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اسْتِغْلَالِهَا فِي الصَّالِحَاتِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ.

 

وَفِيهَا يَوْمُ عَرَفَةَ الَّذِي أَكْمَلَ اللَّهُ فِيهِ الدِّينَ وَأَتَمَّ فِيهِ النِّعْمَةَ لِعِبَادِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَالْيَوْمُ الْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمْعَةِ، قَالَ: وَمَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى يَوْمٍ أَفْضَلَ مِنْهُ، فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْهُ" (الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ). وَسُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ" (مُسْلِمٌ: 1162).

 

وَلِأَنَّ مِنْ أَيَّامِهَا يَوْمَ النَّحْرِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَكْبَرُ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ أَعْظَمَ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَوْمُ النَّحْرِ" (الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ أَبِي دَاوُدَ: 1765).

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ أَيَّامًا تَحْظَى بِهَذِهِ الْمَكَانَةِ وَتَحْتَلُّ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ لَتَحْدُونَا إِلَى مَعْرِفَةِ فَضْلِ الْعَمَلِ وَثَوَابِ الطَّاعَةِ فِيهَا حَتَّى نُعْطِيَهَا مَزِيدَ وَقْتٍ، وَنَبْذُلَ لَهَا كَثِيرَ جُهْدٍ! فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ"(الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ أَبِي دَاوُدَ: 2438، مشكاة المصابيح (1/ 462) صحيح. تحقيق الألباني).

 

وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذُكِرَتِ الْأَعْمَالُ فَقَالَ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ فِيهِنَّ أَفْضَلُ مِنْ هَذِهِ الْعَشْرِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: فَأَكْبَرَهُ، قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ إِلَّا أَنْ يَخْرُجَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ تَكُونُ مُهْجَةُ نَفْسِهِ فِيهِ"(أَحْمَدُ شَاكِرٍ، مُسْنَدِ أَحْمَدَ 12/33، إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ).

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَرَائِمِ هَذِهِ الْعَشْرِ وَسُقْنَاهُ مِنْ فَضَائِلِهَا كَافٍ لِاقْتِنَاصِ غَنَائِمِهَا وَاسْتِغْلَالِ خَيْرِهَا بِكُلِّ مَا يُقَرِّبُ الْعَبْدَ إِلَى رَبِّهِ وَيُدْنِيهِ مِنْ خَالِقِهِ، وَالَّتِي لَنْ تَبْقَى إِلَّا أَيَّامًا مَعْلُومَاتٍ وَمَعْدُودَاتٍ؛ لِذَا كَانَ حَرِيٌّ بِالْعَبْدِ أَنْ يَسْتَغِلَّهَا بِمَا يُعَمِّرُ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ:

 

التَّوْبَةُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- وَالتَّخَلُّصُ مِنْ كُلِّ الْمَعَاصِي جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ؛ لِأَنَّ الذُّنُوبَ تَحْرِمُ الْعَبْدَ تَوْفِيقَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتَحْجُبُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ قَلْبَهُ؛ وَلِأَنَّ الْعَشْرَ هِيَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَالْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ فَتَتَأَكَّدُ فِيهَا التَّوْبَةُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)[التَّوْبَةِ: 36]، وَالنَّهْيُ عَنِ الظُّلْمِ هُنَا بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ لَا يَعْنِي جَوَازَهُ فِي غَيْرِهَا، بَلِ التَّأْكِيدُ عَلَى النَّهْيِ فِيهَا يَأْتِي مُتَنَاسِبًا مَعَ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ وَقَدْرِهَا.

 

الِاجْتِهَادُ الْعَامُّ فِي كُلِّ الطَّاعَاتِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالْمُسَارَعَةُ فِيهَا؛ لِعُمُومِ النُّصُوصِ الْحَاثَّةِ عَلَى ذَلِكَ؛ كَقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا)[الْبَقَرَةِ: 148]، وَمَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ فِي مَدْحِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُمْ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[الْمُؤْمِنُونَ: 61]. وَكَذَلِكَ لِلْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ الْمُرَغِّبَةِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ الْفَاضِلَةِ وَعِمَارَتِهَا بِالطَّاعَاتِ؛ كَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ؛ يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ".

 

وَمِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ صَوْمُهَا؛ فَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَامَهَا كُلَّهَا؛ فَعَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ" (الْأَلْبَانِيُّ، صَحِيحِ النَّسَائِيِّ 2416). وَصِيَامُ التِّسْعِ هَذِهِ سُنَّةٌ لِلْحَاجِّ وَغَيْرِهِ إِلَّا يَوْمَ عَرَفَةَ، فَلَا يَصُومُهُ الْحَاجُّ لِتَفَرُّغِهِ لِلدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي عَرَفَةَ.

 

وَمِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ -تَعَالَى- بِكُلِّ أَنْوَاعِهِ، وَالذِّكْرُ مِنْ أَيْسَرِ الطَّاعَاتِ وَأَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ، وَعَنِ اسْتِحْبَابِ الْإِكْثَارِ مِنْهُ وَآكَدِيَّتِهِ فِي الْعَشْرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)[الْحَجِّ: 28]، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ" (ابْنُ بَازٍ، حَدِيثِ الْمَسَاءِ: 248، إِسْنَادُهُ حَسَنٌ). وَكُلُّ هَذَا جَعَلَ الصَّحَابَةَ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- يَحْرِصُونَ عَلَى الذِّكْرِ عُمُومًا وَالتَّكْبِيرِ خُصُوصًا فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ، حَتَّى كَانَتْ أَصْوَاتُهُمْ تَرْتَجُّ بِهَا الْبُيُوتُ وَالْأَسْوَاقُ وَالْمَسَاجِدُ. (الْأَلْبَانِيُّ، إِرْوَاءِ الْغَلِيلِ: 651، صَحِيحٌ).

 

الْأُضْحِيَّةُ، وَهِيَ هَدْيُ الْخَلِيلَيْنِ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَهِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ وَأَجَلِّ الْعِبَادَاتِ؛ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدِّمَاءِ؛ إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنَ الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا"(مشكاة المصابيح (1/ 462) صحيح. تحقيق الألباني).

 

وَيُجْزِئُ مِنَ الْأُضْحِيَّةِ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ، وَهُوَ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَدَخَلَ فِي السَّابِعَةِ، وَلَا تُجزِئُ إِلَّا عَنِ الْوَاحِدِ، وَالثَّنِيُّ مِنَ الْمَعْزِ مَا لَهَا سَنَةٌ وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَمِنَ الْبَقَرِ مَا لَهَا سَنَتَانِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَمِنَ الْإِبِلِ مَا لَهَا خَمْسٌ وَدَخَلَتْ فِي السَّادِسَةِ، وَتُجْزِئُ الْبَقَرُ وَالْإِبِلُ عَنِ السَّبْعَةِ، وَيَنْوِي الْمُضَحِّي بِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَنْ شَاءَ مِنَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ.

 

 وَمِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ؛ فَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ" (الصَّحِيحَةِ: 1200، عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ).

 

وَلِأَنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- قَدْ لَا يَتَيَسَّرُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ؛ فَقَدْ جَعَلَ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ مَوْسِمَ الْعَشْرِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ السَّائِرِينَ وَالْقَاعِدِينَ وَالْمُعْسِرِينَ وَالْمُوسِرِينَ؛ فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْحَجِّ فَقَدْ شُرِعَ لَهُ فِي الْعَشْرِ مِنَ الْعَمَلِ مَا يُنَافِسُ بِهِ الْحَاجَّ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ بِذَلِكَ أَفْضَلُ أَجْرًا مِنَ الْحَاجِّ وَالْمُجَاهِدِ.

 

وَمِنْ أَعْمَالِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ الْبَذْلُ وَالصَّدَقَةُ، وَرُبَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الطَّاعَةُ أَفْضَلَ قُرْبَةٍ يُتَقَرَّبُ بِهَا فِي الْعَشْرِ خُصُوصًا فِي أَوْقَاتِ الشَّدَائِدِ وَالْمِحَنِ حِينَ يَكُونُ النَّاسُ فِي ضَائِقَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ؛ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَالْأَمْرُ حِينَ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِحَيَاةِ مُسْلِمِينَ وَمَوْتِهِمْ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ حِينَهَا تَحْتَلُّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الطَّاعَاتِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهَا مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ الطَّاعَاتِ الْمُقْتَصِرِ نَفْعُهَا عَلَى صَاحِبِهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ نَفْعُهُ مُتَعَدِّيًا أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَفْضَلُ ثَوَابًا -فِي الْغَالِبِ- مِنَ الَّذِي نَفْعُهُ مُقْتَصِرٌ.

 

قُلْتُ مَا سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ، وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ وَعِصْيَانٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اسْتَغِلُّوا أَيَّامَ عَشْرِكُمْ وَاعْمُرُوا أَوْقَاتَهَا بِطَاعَةِ رَبِّكُمْ، وَتَلَمَّسُوا فِيهَا رَحَمَاتِ الرَّحِيمِ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ الْكَرِيمِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَأَجْنَاسِهَا؛ فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَكْثُرُ ثَوَابُهُ وَيَعْظُمُ بِفَضْلِ الزَّمَنِ الَّذِي لَهُ مَزِيدُ فَضْلٍ؛ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ وَأَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْعَمَلِ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ كُلِّهَا صَارَ الْعَمَلُ فِيهَا -وَإِنْ كَانَ مَفْضُولًا- أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا".

 

وَالْمُتَأَمِّلُ فِي حَالِ نَبِيِّكُمْ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ يَجِدُ صِحَّةَ ذَلِكَ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا -رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى- يُعَظِّمُونَ ثَلَاثَ عَشَرَاتٍ: رَوَى الْأَصْبِهَانِيُّ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ أَنَّ أَبَا عُثْمَانَ النَّهْدِيَّ قَالَ: "كَانُوا يُعَظِّمُونَ ثَلَاثَ عَشَرَاتٍ: الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ مُحَرَّمٍ، وَالْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ".

 

وَالْغَرِيبُ -يَا مُسْلِمُونَ- أَنْ يَجْتَهِدَ الْبَعْضُ فِي رَمَضَانَ وَلَا يَجْتَهِدُ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، مَعَ أَنَّ أَفْضَلِيَّتَهَا أَعْظَمُ مِنْ رَمَضَانَ وَحَتَّى مِنْ عَشْرِهِ الْأَوَاخِرِ؛ لَوْلَا أَنَّ فِيهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِلَّا لَكَانَتْ لَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ أَفْضَلَ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ الْحِجَّةِ، وَقَدْ سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ -قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ- عَنْ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَالْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَأَجَابَ: "أَيَّامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاللَّيَالِي الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ لَيَالِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ"(مَجْمُوعِ فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ: 25/154).

 

وَبِاللَّهِ عَلَيْكُمْ كَيْفَ يُفَرِّطُ عَبْدٌ فِي أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ أَجْرِ مُجَاهِدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ وَخَلَّفَ وَرَاءَهُ كُلَّ مَا يَمْلِكُ وَمَا يُحِبُّ، ثُمَّ خَاضَ الْمَعْرَكَةَ فَاسْتُشْهِدَ وَسَلَّمَ رُوحَهُ وَعُدَّتَهُ وَعَتَادَهُ لِلَّهِ!!

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ! أَلَا هَلْ مِنْ قَاطِفٍ لِثِمَارِهَا وَكَمْ عَازِفٍ عَنْ فَضْلِهَا!!

 

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا إِلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبِّ الْمَسَاكِينِ. اللَّهُمَّ خُذْ بِأَيْدِينَا إِلَى كُلِّ خَيْرٍ وَاصْرِفْ عَنَّا كُلَّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِيمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ لِقَاكَ. اللَّهُمَّ بَلِّغْنَا زِيَارَةَ بَيْتِكَ الْحَرَامِ، وَاحْفَظْهُ وَاحْفَظْ أَهْلَهُ وَزُوَّارَهُ وَحُجَّاجَهُ وَمُعْتَمِرِيهِ. اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَأَنْعِمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

 

وَأَقِمِ الصَّلَاةَ...

 

المرفقات

ذي-الحجة-قطوف-وعزوف-2

ذي-الحجة-قطوف-وعزوف-2

المشاهدات 1351 | التعليقات 0