عزة النفس
حسام الحجي
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلّا وَأَنتُم مُسلِمونَ﴾.
أَمَّا بَعْدُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ يَسْعَى دَائِمًا إِلَى كَمَالِ نَفْسِهِ، وَيَحْرِصُ كَثِيرًا عَلَى سَدِّ نَقْصِهِ، وَذَلِكَ بِالِاتِّصَافِ بِالْأَخْلَاقِ النَّبِيلَةِ، وَالْحِرْصِ عَلَى الْقِيَمِ الرَّفِيعَةِ الْجَلِيلَةِ.
وَإِنَّ مِنْ كَمَالِ الْأَخْلَاقِ، وَرَفِيعِ الْقِيَمِ وَالْآدَابِ؛ خُلُقَ الْعِفَّةِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ النَّاسِ، فَبِهِ تُصَانُ الْوُجُوهُ، وَبِسَبَبِهِ تَعْتَزُّ النُّفُوسُ، جَاءَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ».
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ**وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
عِبَادَ اللهِ: عِزَّةُ النَّفْسِ تُبْعِدُ الْإِنْسَانَ عَنْ كُلِّ مَنْ يُحَاوِلُ أَنْ يُقَلِّلَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنِ النَّاسِ يَجْعَلُهُ رَفِيـعَ الْقَدْرِ عَنْ كُلِّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَنَالَ مِنْ مَنْزِلَتِهِ.
فَلَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ عَزِيزًا وَافِرَ الْقَدْرِ مَا دَامَ مُسْتَغْنِيًا عَنِ النَّاسِ، وَمَا يَزَالُ عَزِيزًا رَفيعًا مَا دَامَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِمْ إِلَّا مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَمَتَى مَا سَأَلَ النَّاسَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَأَكْثَرَ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ بِطَلَبِ الْإِعَانَةِ مِنْهُمْ فَقَدْ هَانَ عَلَيْهِمْ، وَقَلَّ قَدْرُهُ عِنْدَهُمْ.
لِذَا أَوْصَى رَسُولُنَا الْكَرِيمُ ﷺ بِالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ النَّاسِ، وَحَثَّ عَلَى عِزَّةِ النَّفْسِ وَتَرَفُّعِهَا عَنِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ رَبَّى صَحَابَتَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَبَايَعَهُمْ عَلَيْهِ؛ فَعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً؛ فَقَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟» فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟» فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ؟» قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَعَلَى مَا نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا -وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً- وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا».
فَلْنَسْتَغْنِ عَنِ النَّاسِ مَا اسْتَطَعْنَا، وَلْنَجْتَهِدْ فِي أَدَاءِ حَاجَاتِنَا بِأَنْفُسِنَا.
أَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:
فَـلَا ذَا يَــرَانِي وَاقِفاً فِي طَرِيقِهِ**وَلَا ذَا يَـرَانِـــي قَـاعِـدًا عِنْدَ بَابِـهِ
غَنِيٌّ بِلَا مَالٍ عَنِ النَّاسِ كُلِّهِمْ**وَلَيْسَ الْغِنَى إِلَّا عَنِ الشَّيْءِ لَا بِهِ
عِبَادَ اللهِ: إِنَّ صُوَرَ عِزَّةِ النَّفْسِ كَثِيرَةٌ، وَأَنْوَاعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ النَّاسِ مُتَعَدِّدَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ: الصَّبْرُ عَلَى قِلَّةِ ذَاتِ الْيَدِ، وَالتَّصَبُّرُ عَلَى الْفَقْرِ وَالْعَوَزِ؛ وَقَدْ مَدَحَ اللهُ تَعَالَى الْمُتَعَفِّفِينَ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿لِلفُقَراءِ الَّذينَ أُحصِروا في سَبيلِ اللَّهِ لا يَستَطيعونَ ضَربًا فِي الأَرضِ يَحسَبُهُمُ الجاهِلُ أَغنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعرِفُهُم بِسيماهُم لا يَسأَلونَ النّاسَ إِلحافًا﴾.
أَمَّا مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا، وَمَدَّ إِلَيْهِمْ يَدَهُ كَذِبًا وَزُورًا؛ فَالْوَعِيدُ فِي حَقِّهِ كَبِيرٌ، وَالْإِثْمُ وَالْجَزَاءُ فِي عَمَلِهِ خَطِيرٌ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لًا تَزَالُ الْمَسْأَلةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ تَعَالَى وَلَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ».
فَالتَّعَفُّفُ عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ، وَقَطْعُ الطَّمَعِ فِي أَمْوَالِهِمْ مَطْلَبٌ شَرَعِيٌّ، وَمَقْصِدٌ دِينِيٌّ.
أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ إِنَّهُ خَيْرُ الْغَافِرِينَ.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ مُولِينا، ومُعطِينا، والصلاةُ والسلامُ على داعِينا وهادِينا.
عِبَادَ اللهِ:
بِمَا أَنَّ عِزَّةَ النَّفْسِ وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنِ النَّاسِ مَنْقَبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَخَلَّةٌ حَمِيدَةٌ، فَهُنَاكَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ، وَظَاهِرَةٌ سَيِّئَةٌ، وَهِيَ ظَاهِرَةُ التَّسَوُّلِ، فَبِجَانِبِ مَنْعِهَا مِنَ السُّلُطَاتِ لَمْ تَعُدْ قَاصِرَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ غَيْرِ الْقَادِرِينَ عَلَى الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ، وَلَكِنَّنَا وَجَدْنَا بَعْضَ الْقَادِرِينَ عَلَى الْعَمَلِ مِنْ مَعْدُومِي الْمُرُوءَةِ الَّذِينَ اسْتَسْهَلُوا التَّسَوُّلَ وَاسْتَغَلُّوا عَطْفَ النَّاسِ وَبَحْثَهُمْ عَنِ الْأَجْرِ، فَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ، وَتَمَسْكَنُوا فِي طَلَبِهِمْ، فَتَجِدُهُمْ فِي الطُّرُقَاتِ وَفِي الْأَسْوَاقِ وَعَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَعَدَمُ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ، فَالْعَمَلُ الْخَيْرِيُّ فِي بَلَدِنَا مُنَظَّمٌ، وَلَهُ طُرُقُهُ وَوَسَائِلُهُ الْمَعْرُوفَةُ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالْـمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْـمُشْرِكِينَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَليَّ أمرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجْعَلْ أَعْمَالَهُمَا الصَّالِحَةَ فِي رِضَاكَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْـمُسْلِمِينَ.