عرف العبير في تواضع البشير النذير الشيخ علي بن عبد الخالق القرني

محمد مرسى
1436/03/04 - 2014/12/26 20:07PM
الحمد لله يسر كل لما خُلق له وجعل الأعمال بالخواتيم خرج موسى خائف يترقب فعاد لأهله وهو الكليم وذهب ذو النون مغاضبا فالتقمه الحوت وهو مليم ونشأ محمد عليه الصلاة والسلام يتيما فكان الفضل لذلك اليتيم وكل ذلك بتقدير العزيز العليم ، الحمد لله فجر الماء من الجلمود وأخرج الثمر من يابس العود وهو الكريم الودود ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد شهادة راجٍ للحسنى والمزيد وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ذو المقام المحمود والحوض المورود صلوات الله وسلامه عليه ما أورقه وقهقهت رعود وامتلأت سدود ولبست برود وأبرمت عقود وصدقت وعود وخفقت بنود وآله وصحبه ومن سلك طريقه ما دار نجم في فلك ..{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران 102)
أما بعد ،،
يا معشر الأخيار غيث الأمة المدرار وليثها الكرار .. ملح الأرض إذا فسدت وعمار الدنيا إذا خربت ، من أحسب أنكم من المعنيين بما صدحت به وشدت الحناجر طبعوا على كرم النفوس جبلة موروثة فيهم تراثا متلدا لو أنهم عمدوا على فعل الخنى لأبت طباع نفوسهم أن تعمدا .. حييتم ثم حييتم بتحية مباركة فطرية تبهر الألباب وتزري بمعسول الرضاب فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته سلام أرق من نسمات السحر وألطف من الطل على الزهر .. سلام كماء الورد ضيف بعنبر وكالمسك مسحوقا بخد معصفر .. حياكم الله وأحياكم وهداكم وهدى بكم ويسر الهدى لكم .. زودكم ربي بزاد التقوى .. نجاكم قبل حلول البلوى .. يا رب وفقنا كل خير هبنا وعنا نح كل ضير وامنن علينا بقضاء الحوج وكل شدة وكرب فرج .. معشر الأخوة ما أكاد أعطي موعدا لأحد وإلا وجرى بخاطري قول المثقب العبد حسن قول نعم من بعد لا وقبيح قول لا بعد نعم .. إن لا بعد نعم فاحشة فبلا فابدأ إذا خفت الندم .. ولذا لما دعاني إخوتي تلكأت وترددت وماطلت ضعفا وأرجأت ثم وعدت وأخرت حتى صار حال من دعاني أطلت وما أمطرت .. أطلت علينا منك يوما غمامة أضاء لها برق و أبطا شاشها فلا غيمها يجلى فييأس طامع ولا غيثها يأتي فتروى عطاشها مع علمي أن التأني وعدم العجلة خير إلا في عمل الآخرة ولكنه ضعف وقلة بضاعة اقترنت ببقايا جبلة عربية مجاهدة وغير مسوى فالعرب تتلذذ بالوعود إذا ضمنت ولو تأخرت ولذا كانوا يسقون الكمون بالوعود يقولون غدا نسقيك وبعد غد نكفيك فزعموا أنه يخضر وينمو يربو على المواعيد ... يقول قائلهم : يا ليتني كنت كمونا في مزرعة إن فاتني السقي أغنتني المواعيد .. ومن أمثال عرب الشام الميمون بالوعد يا كمون .. وكأني بمن دعاني يقول معاتبا لا تجعلني ككمون بمزرعة إن فاته الماء أغنته المواعيد .. فأقول له على رسلك ولا تنكر أصلك فالوعد عند العرب تلذذ وتذوق والانجاز طعام وليس من صدم بالطعام قرب له فجأة من دون سابق موعد باللذة كما وعد به ثم ضمن له ثم انتظر فوجد رائحته فسال لها لعابه فتمطق به ثم تطعمه ثم قرب إليه فتذوقه وإن تأخر فالوعد أحسن ما يكون إذا تقدمه ضمان ولعلكم تطعمتم وتمطقتم وسال لعابكم وجاء وقت الإنجاز وقربت المائدة للفائدة قد طيب الأفواه طيب غذائها من أجلها تجد الثغور عذابا زهراء أحلى في الفؤاد من المنى وألذ من ريق الأحبة في الفم .. إنها عرف العبير في تواضع البشير النذير عليه صلوات وسلام العلي الكبير .. من شم عرفا لأخلاق النبي يقل لا المسك مسك ولا الكافور كافور .. عرف فحواه لقد كان لكم في رسول الله أسوة إن لم يكن الماء من نهر رسالته فلا تشرب .. إن لم يكن الفرس مسوما على علامته فلا تركب .. عودا إلى نبعه الصافي وروضته نجني ثمار المعالي من روابيه .. تحيا القلوب إذا عادت إلى منبعها والروض يزهر إن غيث هما فيه .. عرف يقول ما أضيع الياقوت في جيد الأمة إذا الأخلاق بعد العلم ساءت فكل الجهل في فصل وباب وهو مع ذا عرف يقول لكل ذميم لئيم شتيم يسخر بالنبي الكريم ..قدرت قيد مرتقى صعبا فما قد قلت فيه لا يجاوز الفم ، شبهت ما قد قلته نفخ الوَزر في النار إذ أوحى الإله لها ابردي .. فالصبر في العلياء يا مسخار لا يهاب كلبة .. عرف يقول إننا أمة تمي وراء دليل بصير بالسبل وهو خاتم الرسل من وطئ برسالته الحصباء فكانت ما يكتحل به السعداء وأمته هي الأمة الأخيرة إن تنكبت طريقه هلكت وغرقت السفينة التي تحمل الذخيرة فلا يرتجى نصر ولا كشف علة إذا جاء داء من مكان دواء .. وإلى الماء يسعى من يغص بريقه فقل أين يسعى من يغص بماءِ وهو مع ذا عرف يقول من تجرد من لباس أخلاق الإسلام أمسى سوءة في خزي وإسفاف وتطفيف وأصبح نكرة بعد تعريف فلا الطيور على أغصانه صدحت وورده ما له في الغصن ايراق وحينها لا العيد عيد ولا الإشراق إشراق ولا الصباح بوجه الأرض براق .. عرف يقول اعرف المرء من فعله لا من كلامه .. إن غرك القول فانظر فعل قائله فالفعل يجلو من بالزيف يستتر وما أنا معشر الأخوة حين أتكلم عن خلقه صلى الله عليه وسلم إلا كمن يحاول جمع البحر في كأس وحصر الدنيا في صندوق وجمع المحيط في كف وهذا ما لا يكون .. هيهات أوفي القول في خير الورى من بعد ما صدعت بمدح النون لكن أعيد القول فيه لعلي من تابعيه الفائزين أكون .. الله أرجو المن بالإخلاص فإنه الطريق للخلاص .. عرف العبير في تواضع البشير النذير تواضعه ما تواضعه ؟ أقسم ببارئ النسم وخالق الخلق من عدم إن تواضعه لا يجارى ولا يدارى لم تر العين له مثلا ولا خطرت أوصافه في أذنين لا يرى له فضلا على أحد وله الفضل على كل أحد وهو خير من كل أحد قد انكسر قلبه لله الواحد الأحد فخضع للحق وانقاد له وقبله ممن قاله صغيرا أو كبيرا شريفا أو وضيعا .. حرا أو عبدا ذكرا أو أنثى .. صلى الظهر أو العصر يوما ركعتين كما في الصحيح ثم سلم وشعر بنقص أو خلل لا يدري ما سببه فقام لخشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها وكأنه غضبان قد وضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين أصابعه لأن نفسه الكبيرة تحس أن هناك شيئا لم تشتك منه ولهيبته صلى الله عليه وسلم لم يجرؤ أحد أن يفاتحه حتى أبو بكر وعمر أكابر صحابته فقام ذو اليدين وقطع ذلك الصمت قائلا : يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة ؟ فقال بناء على ظنه : لم أنس ولم تقصر فقال ذو اليدين بل نسيت فقال صلى الله عليه وسلم متثبتا : أكما يقول ذو اليدين ؟ قال الصحابة نعم فقام وصلى ما ترك وسجد للسهو بعد أن سلم وكأن شيئا لم يكن .. خلق عظيم زكاه العلي العظيم { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم 4) جعل كبير المسلمين بمنزلة أبيه وصغيرهم بمنزلة ابنه ونظيره في السن بمنزلة أخيه فوقر الكبير ورحم الصغير وأعطى كل ذي حق حقه فلم يكن أحد يلهيه عن أحد كأنه والد والناس أطفال وكيف لا يكون كذلك وقد أنزل الله عليه فيما أنزل أن الجنة دار المتواضعين .. تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين وأمره بالتواضع للمؤمنين { ... وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } (الحجر 88) وأوحى إليه أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد فهو سيد المتواضعين بل سيد ولد آدم أجمعين قد أخذ بزمام هذا الخلق العظيم فهوا أحق من فيه قيل : قسم التواضع في الأنام جميعهم فذهبت أنت فقدته بزمامه وذهبت أنت برأسه وسنامه .. كان يأتي ضعفاء المسلمين يزورهم يعود مرضاهم يشهد جنائزهم يتعهد حاضرهم ويسأل عمن غاب منهم .. لما وصل تبوك سأل : أين كعب بن مالك ؟ وبعد إحدى غزواته فقد أحد أصحابه ممن لا يأبه الناس له قال : هل تفقدون من أحد ؟ قالوا : فلانا وفلانا وفلانا ، قال : هل تفقدون من أحد ؟ قالوا : لا ، قال : ولكني أفقد جليبيبا فاطلبوه ، فطلبوه فوجدوه قد قتل سبعة من المشركين ثم قتلوه ، فقال : هذا مني وأنا منه ، ثم وضعه على ساعديه حتى أدخله قبره
تواضع قد شاع في البلاد وذاع في الحضر والبوادي .. كذا كان مع أصحابه يشفع لهم يقضي حوائجهم يتخولهم بالموعظة يعفو عن مسيئهم يقضي ديونهم يفرج كروبهم يعلم جاهلهم يطعم جائعهم يكسو عاريهم يسلم على صبيانهم يمسح على رؤوسهم يداعبهم يجلسهم في حجره يحنكهم يدعو لهم يدخل السرور عليهم لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه ما حدثه أحد إلا مال بأذنه إليه .. ما صافح أحدا فيرسل يده حتى يرسلها مقابله .. يكرم من دخل عليه وربما بسط له ثوبه وآثره بوسادته .. يجيب الدعوة ويقبل الهدية ويثيب عليها وإذا ردها أبدى سبب ردها تطييبا لخاطر من أهداها ويقول في تواضع النبوة : ( لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت ) يجالس الفقراء والمساكين .. يؤاكلهم ويقول : ( أبغوني ضعفائكم إنما تُنصرون وترزقون بضعفائكم ) ويعلنها في إخبات وتواضع ( اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ) تواضع لما زاده الله رفعة كذاك جليل القدر جم التواضع لهديه انهض فهو بالمتابعة الخبر الجزء المتم الفائدة عليه صلى الله ثم سلم وآله وصحبه وتابعٍ سما .. كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تواضعا شمخت رتبته فوق الثريا وهو لم يشمخ بأنف الكبرياء لا تغلق دونه الأبواب ولا يقوم دونه الحجاب ولا يهدى عليه بالجفان ولا يراح .. بارز من أراد أن يلقاه لقيه .. أتاه عدي بن حاتم في مسجده وقد طوف الأرض هربا حتى وضع يده في يده وفي ذهنه تصور أنه صلى الله عليه وسلم إما ملك أو نبي لأن تبعية الناس لا تكون لأحد في ذهنه إلا بهذين العاملين قال عدي: فانطلق بي فوالله إنه لعامد بي بيته فاستوقفته امرأة ضعيفة كبيرة السن معها ابنها فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها فقلت في نفسي : والله ما هذا بملك ، قال : ثم أخذ بيدي وانطلق بي إلى بيته وقال اجلس وألقى علي وسادة من أدم محشوة بريش وقال خذها فاجلس عليها قال فجلست عليها وهو على الأرض فقلت في نفسي : والله ما هذا بملك ، وفي تواضع النبوة دعاه إلى الإسلام : ( أسلم يا عدي لعله إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجة أهله وأيم الله ليوشكن أن يفيض المال بأيديهم حتى لا يوجد من يأخذه ، لعله إنما يمنعك ما ترى من قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم وأيم الله إن طالت بك حياة لترين الضعينة تخرج من الحيرة إلى بيت الله لا تخشى إلا الله ، لعله انما يمنعك انك ترى إن الملك لغيرهم وأيم الله لإن طالت بك حياة لترين قصور كسرى قد فتحت وأنفقت كنوزها في سبيل الله ) .. جبل الثلج تلاشى حينما رنت الشمس بعينيها وذاب .. زالت الغشاوة عن عينيه وسقطت حجب الجاهلية عنه والليل ولى والظلام تبددا والصبح أشرق والضياء تجددا .. شهد الشهادتين ورأى بأم عينه ما أخبره رسول الله وأقسم ليرين ما لم يرينه بعد إيمانا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم .. حاله وإن تراكمت الظلماء في طرق فلي من الوحي في الأحداث كشاف معلنا أن أعظم عامل لاجتذابه إلى الإسلام هو تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجم { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...} (الأحزاب 21) وقد أكمل الله الهدى برسوله فكل الهدى ما بين ذكر وسنة صلى الله عليه ذو الجلال وصحبه وحزبه والآل .. كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعا .. تواضعه أعلاه ثم ارتقت به نبوته في الباذخات السوامك اختار أن يكون عبدا رسولا عن أن يكون ملكا نبيا ويكفيه شرفا قول ربه { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ ...} (الإسراء 1) ولعظم تواضعه نهى عن إطرائه ورفعه فوق منزلته ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) .. ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله .. لا يقوم أصحابه له إذا رأوه لما يعلمون من كراهيته له ولما قال له رجل يا خير البرية قال : ( ذاك إبراهيم ) تراه بين أصحابه دون أن يتميز عليهم حتى إن الداخل لا يعرفه ولا يميزه من بين أصحابه .. لما قرب من المدينة في هجرته لم يميزوا بينه وبين أبي بكر حتى أصابته الشمس فقام أبو بكر يظله فعرفوا انه رسول الله صلى الله عليه وسلم .. يدخل الأعرابي المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فيقول : أيكم محمد ؟ .. كان من التواضع لله على حال لم يكن عليه حال أحد قط .. سجد في الماء والطين حتى رأوا أثر الطين في جبهته وباع واشترى وحمل متاعه دون خدم ولا حشم ولم يفقد هيبته .. متواضع والنجم دون محله وكذا تكون شمائل الأنجاد صلى عليك بارئ العباد ما جرت الأقلام بالمداد .. كان صلى الله عليه وسلم مثال تواضع لا نظير له ما رأى الرائون خلقا مثله خلقا أكمله البر الرؤوف لا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين والعبد حتى يقضي لكل حاجته ..
في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن امرأة كان في عقلها شيء قالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ، فقام يكنيها ويكرمها ويشفق عليها .. أكنيه حين أناديه ولا ألقبه والسوأة اللقب كذاك أُدبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب يقول : ( يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك ) فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها .. تلكم أياديه وأخلاقه ظل ظليل ومحل رفيع .. كان إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه ولو جاءوه في الغداة الباردة .. خلق من ذوب شهد شيب بالماء الفرات .. تأمل غاية التواضع حين تأتيه امرأة لا رجل أمة لا حرة وتأخذ بيده في إشارة إلى غاية التصرف فيه حتى لو كانت حاجة هذه الأمة خارج المدينة .. في الصحيح عن أنس قال : ( إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت) .. يتق الكبرياء ويدري بأن لم يؤثر الكبرياء إلا الوضيع .. خلق عظيم زكاه العلي العظيم { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم 4) صلى عليه بارئ العباد ما أمطرت سحب وسال واد .. كان صلى الله عليه وسلم إمام تواضع بلا منازع فتلك براهين أخلاقه كشمس الضحى إذ بدت سافرة .. تواضع في بيته فكان في خدمة أهله وهو قادر على أن يستعين بالخدم لخدمته .. لما سئلت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت : ( كان يكون في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة ) .. كان بشرا من البشر يخيط ثوبه ويخسف نعله ويخدم نفسه ويحلب شاته ويعلف دابته ويفلي ثوبه ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم يؤتى بالتمر فيفتشه و يخرج السوس منه ثم يأكل يدني الإناء للهرة لتشرب ثم يتوضأ بفضلها .. يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويلعق أصابعه ويقول : ( آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد ) وهو خير أهل الأرض من حر وعبد لم يكن له فرش وثيرة ومجالس زاهية فكان يجلس على الأرض وينام على الحصير وسادته التي يتكأ عليها من جلد محشو بليف وفراشه الذي ينام عليه كذلك وربما نام على الحصير فأثر في جنبه .. أتاه عمر يوما وقد نام على حصير أثر في جنبه فهملت عيناه وجثا على ركبتيه وقال صفوة الله في خلقه فيما أرى وفارس والروم يعبثون في الدنيا .. ادعوا الله يا رسول الله فاحمر وجهه وقال : ( أفي هذا يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ) فذا هم سما فوق السماء أبياته ما أبياته أبيات متواضعة .. تسعة أبيات من جريد وطين وحجارة مردومة يدخل الغلام فينال السقف بيده وقبيح بالوضيع الكبرُ لكن حسن خفض جناح الكبراء .. يلبس الثياب المتواضعة النقية النظيفة على قدرته على أن يلبس أفخر الثياب في حين يقسم على أصحابه أقبية الديباج وخير الثياب .. تواضع حتى عاش في ثوب زاهد وأخمصه حل السماك والفرقدا .. لما حج حجة الوداع معه مئة ألف مسلم يصدرون عن رأيه وأمره ونهيه يرقبون حركاته وسكناته ليقتدوا به كان في غاية التواضع لله على رحل رث عليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم ويقول مع ذلك : ( اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة ) .. لا يتميز عن الحجاج بشيء حتى أنه رفض أن يخص بماء دون الناس لم تجعل فيه الأيدي .. قال لعمه العباس حين عرض عليه ذلك : ( لا حاجة لي فيه اسقوني مما يشرب الناس ) ويردف أسامة على دابته من عرفة إلى مزدلفة أمام الناس وهو من الموالي ويقف لامرأة من آحاد الناس يستمع لها ويجيب عن أسألتها .. لم يصرف الناس عنه فكل يصل إليه ويقضي بغيته .. لم يترك نحر هديه بيده إذ نحر بيده الشريفة ثلاثة وستين بدنا ثم أناب ابن عمه فالله إذ قسم التواضع في الورى أوفى له من حظه المكيال له الصلاة والسلام تترا ما شرى برق على طيبة أو أم القرى .. كان صلى الله عليه وسلم فريدا في تواضعه لم تعرف البشرية مثله أحدا .. هو الله كمل أوصافه وسماه بين الورى أحمدا لكمال تواضعه يتحدث عن رعيه الغنم على أجر زهيد والسكينة والوقار في أهل الغنم كما اخبر .. ثبت عن جابر قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمر الظهران ونحن نجني الكباث – وهو ثمر الأراك – فقال صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالأسود منه ) وهو الناضج منه فقلنا : يا رسول الله كأنك رعيت الغنم ؟ .. ففي تواضع النبوة بين أنه على أجزاء من الدرهم رعاها وأنها مهنة ارتضاها الله لأنبيائه فقال : ( وهل من نبي إلا رعاها ، لقد كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) .. لما تناهى في العلو تواضع لله زاد الله في إعلائه .. رعى الغنم ثم بعثه الله رعى وربى الأمم فبنى مكان قرى الضلال من الهدى بيتا على طلل الجبال .. يا ابن الرجال وغيره يا ابن القرى شتان بين قرى وبين رجال صلى عليه الله ذو الجلال وصحبه وحزبه والآل .. كان صلى الله عليه وسلم شامة تواضع وكوكب اخبات ان غار فهو من التواضع منجد أو غاب فهو من المهابة شاهد .. كان يوم بني قريضة على حمار مخطوم بحبل من ليف وعليه اكاف من ليف وذلك من كمال تواضعه لا يأنف أن يردف على دابته أحدا معه إن أمكن وإلا تناوب معهم في الركوب عليها .. ثبت أنه صلى الله عليه وسلم ركب حمارا يوما عليه إكاف تحته قطيفة فدكية وأردف وراءه أسامة بن زيد رضي الله عنهما وهو يعود سعد بن عبادة رضي الله عنه وأردف صفية يوما على دابته والناس تنظر إليه بل إن صفية من قبل لما أسرت واختارت الله ورسوله وأسلمت أعتقها وتزوجها وأعطاها على عتقها مهرها ثم قدم البعير لها لتركب عندما أراد المدينة وقدّم فخذه لتضع رجلها عليها فأعظمت ذلك وأبت أن تضع قدمها ثم وضعت فخذها على فخذه وركبت فيا الله امرأة كانت مملوكة فأعتقها وأبوها عدو لدود يؤلب القبائل عليه وكذلك عمها وزوجها يكيد أشد الكيد له ومع ذا فإسلامها قطع صلتها بأولئك ورفع قدرها حتى وضع النبي فخذه لتتوصل إلى ركوب البعير في خلق زكاه العلي الكبير وافى كما وافى النسيم بطيب أنفاس العبير وذا عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ما يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاء من سفر تلقي من صبيان أهل بيته وجاء من سفر بسبق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة حسن أو حسين فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة .. هم في جبين الدهر أنصع صفحة لم تبلها الأعوام والآباد وها هو ابن مسعود يقول : كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير لقلة الظهر وكان أبو لبابة وعلي رضي الله عنهم زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابته لم يفرد نفسه براحلة مستقلة بل جعل نفسه كبقية أفراد جيشه ليعلمنا أن الكمال ليس في الترفع على المؤمنين بل الكمال الحقيقي في خفض الجناح للمؤمنين .. إن كريم الأصل كالغصن كلما تحمل من خير تواضع وانحنى .. ركب النبي صلى الله عليه وسلم عقبة ولما أراد أن النزول لهما أقبل علي وأبو لبابة يؤثرانه بركوب الدابة وهم إنما يؤثرون أنفسهم لأنهم أحب عليهم من أنفسهم يقولون نحن نمشي عنك يا رسول الله فبين صلى الله عليه وسلم أن الذي له حق التميز في الركوب هو الضعيف الذي لا يقوى على المشي وأن المشي في سبيل الله ثواب لا يزهد فيه إلا محروم فقال : ( ما أنتما بأقوى مني وما أنا أغنى عن الأجر منكما ) ثم نزل يمشي فود كل راكب أن لو مشى لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي .. أكرم به من مرسل ومعلم وله الشفاعة حين نحشر في الورى .. فتح الإله به قلوبا غلقت وأنار أبصارا وكانت لا ترى .. أما إنه لم تكد ترى عين أو تسمع أذن بعظيم يقبل أن يزاحمه أحد في راحلته مهما كانت قرابته أو محبته سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلقه الأخلاق قدراً كما علت جميع ليالي العام ليلةُ قدره صلى عليه الله ذو الجلال وصحبه وحزبه والآل .. كان صلى الله عليه وسلم في غاية التواضع لمن أراده وفي حلة مهابة ما خالطه أحد إلا أحبه وما رآه إلا هابه مهيب ترى عند أعتابه عظام الملوك كبعض الرقيق .. ثبت في سنن ابن ماجة عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابته من هيبته رعدة ففي تواضع النبوة يهدئ من روعه ويسكن نفسه ويشفق عليه ويبين له أنه ابن امرأة نشأت متواضعة فقيرة خشنة العيش تأكل اللحم المشقق المملح المجفف بالشمس منتسبا لها تواضعا قائلا : ( هون عليك إني لست بملك غنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد ) ترقى بخفض النفس حتى علا السما وحل مكانا لم يكن حل من قبل .. نعم إنه آكلة القديد الأبية ومع ذا فهو هادي البشرية و إمام البرية ومحيي الأمة بشرع الله ذو الفضل والمنة قد أصبحت سبل الدين الحنيف به عوامرا بعد أن كانت نماريتا .. علمنا صلى الله عليه وسلم أن العظمة ليست باغتنام الفرص لتعميق الرهبة والرعب في قلوب الناس تكبرا وتعاليا وأن العظمة الحقيقية في رفع معنويات الناس حتى يستطيعوا أن يبثوا شجونهم وهمومهم ويعبروا عما يختلج في نفوسهم آمنين من عقوبة أو لوم يوجه لهم فأعظم الناس دلالة ونفعا وهداية لهذا الأمة هم أعظمهم تواضعا { ... فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ...} (الأنعام 90) وهداهم مورد ترده الهيم فتروى وتهوي إليه النفوس فتجد عنده ما تهوى وماء زمزم ما ينفك ذا عبق يروي الجموع إذا ما الماء قد نفد .. كان صلى الله عليه وسلم سماء من تواضع .. متواضع وهو الرفيع مقامه ووضيع قوم ليس بالمتواضع .. لتواضعه يسعى في حاجات الناس صغيرها وكبيرها ويحث على ذلك فيقول : ( ومن مشى في حاجة أخيه حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام ) ..
كان لأهل بيت من الأنصار جمل يسقون عليه فمنعهم ظهره فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : عطش الزرع والنخل ومنعنا الجمل ظهره فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فدخل النبي الحائط والجمل في ناحية منه فقالت الأنصار : يا نبي الله إنه قد صار مثل الكلب الكلِب وإنا نخاف عليك صولته فقال : ( ليس علي من بأس ) ولما نظر الجمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل نحوه حتى خر ساجدا بين يديه فأخذ بناصيته أذل ما كان حتى ادخله في العمل وحال صاحب الجمل أوليتني كرما وزائدا وضررتني حتى نسيت الوالدا أقسمت لو جاز السجود لمنعم ما كنت إلا راكعا لك ساجدا
وهذا ابن عباس رضي الله عنهما يخبر أن رجلا من الأنصار كان له فحلان فاغتنما هاجا واضطربا فأدخلهما حائطا وسد عليهما الباب ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من الأنصار فقال : يا نبي الله إن لي إليك حاجة ، قال : حاجتك ؟ قال : يا رسول الله إن لي فحلين اغتنما فأدخلتهما حائطا وسددت الباب عليهما وأحب أن تدعو أن يسخرهما الله لي .. فلم يدع له بل قام يمشي له في حاجته قائلا لأصحابه قوموا معنا فذهب حتى أتى الحائط وقال افتح ففتح الباب فإذا أحد الفحلين قريب من الباب فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فقال النبي صلى الله عليه وسلم ائتني بشيء أشد به رأسه وأمكنك منه فجاءه بخيطان فشد به رأسه وأمكنه منه ثم مشى إلى أقصى الحائط إلى الفحل الآخر فلما رآه وقع له ساجدا فقال للرجل ائتني بخيطان فشد به رأسه وأمكنه منه وقال : اذهب لا يعصيانك بعد اليوم .. فلما رأى الصحابة ذلك قالوا : يا رسول الله فحلان لا يعقلان سجدا لك أفلا نسجد لك ؟ قال : ( لا آمر أحدا أن يسجد لأحد ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) ذلك لعظم حقه عليها ... فهل رأيت مثله يا ذا الحجا زينة للدنيا ومحو للدجى ؟ اللهم لا إنه الخلق العظيم الذي زكاه العلي العظيم فلا تستنن إلا بسنة مرسل له دون كل العالمين الخصائص ...
كذا كان صلى الله عليه وسلم يسعى في نفع كل أحد ويقول: ( من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه ) .. الصبي الصغير حظي بنفعه يوم أن أشفق عليه أن ينشأ على تفريط في الأمانة فتواضع له وتلطف في عقوبته ليعلمه أداء الأمانة ..
حدث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : اهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عنب من الطائف فدعاني فقال : ( خذ هذا العنقود بلغه أمك ) فاشتهى النعمان العنب الصغير فأكله قبل أن يبلغه أمه ، ولما كان بعد ليال قال لي صلى الله عليه وسلم : ( ما فعل العنقود ؟ أأبلغته أمك ؟ ) قلت : لا ، قال فأخذ بأذني وقال : ( يا هدر يا هُدَر ) لقد أشفق على الصغير أن يكون أمينا أعظم من إشفاقه عليه أن يحرم من عنقود اشتهاه فانتفع بذلك حياته وحدث به .. صدق الله { ... حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (التوبة 128) إذا شنف الآذان ذكر خلاله يود سوى الآذان لو أنه أذن صلى عليه بارئ العباد ما أمطرت سحب وسال وادي
ولكمال تواضعه صلى الله عليه وسلم لا يستنكف أن يعلم الجاهل ما لم يحسن عمله وهو في كامل زينته ذاهب إلى مسجده فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلام يسلخ شاة لا يحسن سلخها فعز عليه صلى الله عليه وسلم أن يدعه فوقف يعلمه قائلا : ( لا أراك تحسن تسلخ ) فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارى إلى الإبط ثم قال : ( يا غلام هكذا فاسلخ ) ثم مضى إلى صلاته ولم يمس ماء .. خلق عظيم زكاه العلي العظيم { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم 4) ومن في كتاب الله عظم خلقه فكل مديح ما خلا ذاك ناقص صلى عليه الله ذو الجلال وصحبه وحزبه والآل .. كان صلى الله عليه وسلم عماد تواضع ومنارة إخبات وجد التواضع قد تهدم ركنه فأقام ساقط ركنه المهدوم ..
يقول البراء رضي الله عنه : لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل تراب الخندق حتى وارى التراب جلدة بطنه وكان كثير الشعر فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة وهو ينقل التراب ويقول : اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الألى قد يغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا ) يمد بآخرها صوته أبينا أبينا ..
لم يجعل من نفسه زعيما دنيويا يصدر الأوامر والنواهي وهو في حصن منيع بمعزل عن جنده تحرسه الحراسة بل شاركهم يعمل كما يعملون وهذا مثل لتواضعه وسلوكه الذي لا يدانيه فيه أحد من العالمين لأنه قدوة للعالمين صلى عليه الله ما غردت ورقاء خطباء بأعلى فنن ..
كان صلى الله عليه وسلم جم التواضع والدنيا بسؤدده تكاد تهتز من أطرافها صلفا
يدخل عام الفتح وتحت قيادته عشرة آلاف مقاتل وهو الذي خرج مستخفيا قبل ثماني سنين ليس معه سوى أبو بكر صاحبه .. إنه دخول يستهوي النفوس البشرية أن تبلغ ذروة الذرى بالكبرياء والجبروت والتعالي ولكنه صاحب الخلق العظيم يدخلها دخول خاشع متواضع قد طأطأ رأسه وانحنى على رحله عجمونه يكاد يمس واصبة رحله انخفاضا وانكسارا وتواضعا لربه مستشعرا منة الله عليه بالفتح والظفر والنصر والمغفرة لم يردف وراءه رجل من بني هاشم ولا شريفا من أشراف قريش وإنما يردف مولى بن موالي أعني أسامة بن زيد وابن أم ايمن رضي الله عنهم أجمعين ليعلن للملأ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ولعله كان يستحضر تلك المعاناة العظمى يوم أخرج مطاردا مستخفيا تعلن الجوائز العظمى لمن يأتي به حيا أو ميتا ثم يرى حاله وقد أيده الله فيزداد انحناء وتواضعا ليقضي الله له أن يكون الأعلى ومن اتبعه وما تواضع أحد لله إلا رفعه .. أبى الله إلا رفعه وعلوه وليس لما يعليه ذو العرش واضع صلى عليه بارئ العباد ما أمطرت سحب وسال وادي
كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس تواضعا لا يستطاع لنزر من تواضعه حصر فسيان تقصير وتطويل
لم يشهد العالم رجلا أكثر تواضعا ورحمة بالأطفال منه صلى الله عليه وسلم .. وضع صبيا في حجره وهو يحنكه فبال عليه فدعا بماء فنضحه وكأن شيئا لم يكن .. لا يأنف منهم .. لا يترفع عليهم .. يباسطهم .. يقبل عليهم .. يعطف على يتيمهم .. يمسح على رؤوسهم .. يعلمهم ما ينفعهم .. يوجههم حسب سنهم ... يضعهم على فخده لمحبته لهم .. هو للطفل أب في مهده .. عجبا من قلبه الفذ الكبير ..
يقول أنس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر على الصبيان فيسلم عليهم وهم يلعبون .. يدرب الصبية على آداب الشريعة ويعلم الكبار التواضع ولين الجانب والرحمة .. أنس من أولئك الصبية قد تعمقت فيه تلك التربية وكان يوم كبر يمر على الصبية فيسلم عليهم ويقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله .. خلق ورثنيه أحمد فجرى ملئ دمائي وشغافي لم يغيره على طول المدى بطش جبار ولا كيد ضعاب
ولتواضعه ورحمته بالأطفال يحملهم ويزكيهم بما فيهم فعند أبي يعلب بسند حسن عن عمر رضي الله عنه قال : رأيت الحسن والحسين على عاتقي النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : نعم الفرس تحتكما فقال صلى الله عليه وسلم : ونعم الفارسان هما
لهم في سويداي منزلة تزول الجبال وليست تزول .. يداعب الحسن فيخرج لسانه له فيرى الصبية حمرة لسانه فيعجبه ذلك ويسرع إليه ويلقي بنفسه عليه .. ويخرج إلى سوق بني قينقاع يوما فطاف فيها ثم رجع فاحتبى في المسجد فقال : أين لكاع ؟ فجاء الحسن فاشتد حتى وثب في حبوته فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم فمه في فمه ثم قال : ( اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه ) وأبو هريرة يرقب الموقف ويقول والله ما رأيت الحسن بعدها إلا فاضت عيناي
فؤادي إذا ما المصطفى مر ذكره يرف رفيف الأقحوان منورا تذكرته فانفض صبري وقوتي ولا بد للمشتاق أن يتذكرا ..
خرج صلى الله عليه وسلم مرة يحمل الحسن والحسين هذا على عاتق وهذا على الآخر يلثم هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلى أصحابه فقال رجل : كأنك تحبهما فقال : ( من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني ) .. لقد سكنوا القلب حتى غدا مثاب ولم يبغى حولا
أسامة رضي الله عنه صغير شديد السمرة يخرج من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعثر على عتبة الباب ويشج وجهه ويتناثر الدم ويسيل اللعاب وفي رحمة وتواضع جم من رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الدم واللعاب ويلاطف أسامة وعائشة ويقول فيما روي : ( لقد أحسن الله بنا يا عائشة إذ لم يكن أسامة جارية ، لو كان أسامة جارية لكسوته وحليته حتى أنفقه ) تلكم شمائله غر محجلة كأنها في اشتهار بلق أفراس ..
كان يخطب يوما فدخل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فقطع خطبته صلى الله عليه وسلم ونزل إليهما واحتضنهما وصعد بهما المنبر فوضعهما ثم قال : ( صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة .. رأيت ابني هذين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)
ويخرج صلى الله عليه وسلم في مشهد يضج بالمشاعر الأبوية الغامرة يحمل أمامة ابنة ابنته زينب على عاتقه ثم قان يصلي فكان إذا سجد وضعها وإذا قام حملها .. يا لله ما أروعه من مشهد في بيئة كانت تبغض الإناث إلى عهد قريب من ذلك الحدث { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ ... (59) } ( النحل ) ولذا قال بعض الحكماء : إن ذلك التواضع والرحمة لهذه الطفلة الصغيرة بر تتسع دائرته لتشمل أمها أينما كانت والتي تعيش فرحة عظمى لما كانت ابنتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيا لله لو سئلت أين ابنتها فأجابت حملها رسول الله وخرج بها إلى الصلاة ولعله يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمله أمامة كان يؤدي عبادتين معا صلاته لربه وإحسانه لبنته وبنت بنته فذاك تواضع لا كالتواضع تزول الشامخات ولا يزول والشيء بالشيء يذكر .. صلى الإمام الشوكاني بالناس فلما سجد سقطت عمامته فأخذها وردها فأنكر عليه عوام ودهماء الناس وقالوا : تحمل العمامة وتردها وأنت في الصلاة ؟ .. حسبوا انتقاد الليث أمرا هينا ومن العويس تقلد الآساد .. فقال قول البصير العلامة : لحمل العمامة أخف من حمل أمامة .. إن توقي العالم بعدم التسرع في الإنكار عليه أدب شرعي إذ الظن في العالم أن لا يعمل إلا بدليل شرعي وليس منا من لم يعرف لعالمنا حقا فهم النجوم المهتدى بضيائها إن عمت البلوى وأزعجت الفتن
ومن مواقف رحمته بالصغار وتواضعه لهم ما ثبت في البخاري من حديث أم خالد بنت خالد ابن سعيد ابن العاص قالت : ( أتي النبي صلى الله عليه وسلم بثياب فيها خميصة سوداء صغيرة فقسم الثياب في أصحابه ثم قال في الخميصة من ترون أن نكسو هذه ؟) فسكتوا ولم يرشحوا لها أحدا فلم يختر لهذه الخميصة واحدة من بنات بناته أو قريباته لكنه اختارها لابنة صحابي هاجر الهجرتين ليكرم معاها أباها وأمها وأسرتها الذين هجروا الأهل والديار إلى أرض الحبشة البعيدة فارين بدينهم من ظلم المشركين وأذاهم .. ثم زادهم في التكريم أن دعا الطفلة ليلبسها الخميصة بيده الشريفة فقال : ( اتوني بأم خالد بنت خالد ابن سعيد ، فجيء بها تحمل صحبة والدها وعليها قميص حتى وضعت بين يديه فألبسها الخميصة بيده وقام ينظر إليها يداعبها ويمدح منظرها ويمسح على أعلام الخميصة قائلا بلغة الحبشة : ( هذا سنا هذا سنا يا أم خالد ) يعني هي خميصة حسنة جميلة يا أم خالد وبعد أن ألبسها واحتفى بها وأخذ يحادث أصحابه دارت من خلف رسول الله وجعلت تلعب بخاتم النبوة بين كتفيه فزجرها أبوها فطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يدعها تمضي فيما هي فيه ودعا لها مع ذلك بطول البقاء فقال صلى الله عليه وسلم : ( دعها ، أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ) فطال عمرها وتزوجت ورزقت ولدا سمته خالدا وكانت من أواخر الصحابيات وفاة ببركة دعاء رسول الله لها .. تلكم معشر الأخوة صور من عناية رسول الله بالصغار ذكورا وإناثا فعلا وقولا ودعاءا فما وطئ الحصى مثل المقفى ولا لبس النعال ولا احتذاها قد اطمأن الأطفال إلى معشره وأمنوا تأنيبه فضلا عن عقوبته فكان يضطجع فيأتي الحسن والحسين يلعبون على بطنه بل اتخذوا من ظهره الكريم راحلة يمتطونها على عادة الأطفال في اللعب والمزاح وربما كان ذلك في الصلاة والمسلمون خلفه .. أخرج النسائي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي من حديث شداد رضي الله عنه قال : ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي وهو حامل حسن أو حسينا فتقدم ووضعه عند قدمه اليمنى ثم كبر للصلاة فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها حتى ظننا أن قد حدث شيء قال شداد فرفعت رأسي من بين الناس فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فرجعت إلى سجودي ولما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال الناس يا رسول الله إنك سجدت بين ظهراني صلاتك هذه سجدة أطلتها حتى ظننا أن قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك فقال صلى الله عليه وسلم : كل ذلك لم يكن ولكن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته ) والله وبالله وتالله لئن عجزت الأقلام وكلت القرائح عن تصوير أعلى درجات التواضع للأطفال والرحمة بهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جسده بما لا تحمله الألفاظ مهما أوتيت من فصاحة وبيان فلو نطق الخليل لقال هذي معالم ما رأتها قط عيني .. هذا هو رسول الله .. تواضع في غير تصنع ورياء حاله مع المستضعفين يوم كان يدعو وحيدا والسفهاء يسومونه الأذى هو حاله بعد نصره ودخول الناس في دين الله أفواجا ولو تتبعنا كل ما يدل على تواضعه لطال بنا المقام فكل سلوك له كان مظهرا من مظاهر تواضعه قد أظهر الله في الدنيا خلائقه للإنس والجان بالمعنى والكلم فاشرب فهذا زلال بارد صافي وارغب إلى ربك الأعلى ليجعلنا ممن على النهج نهج المصطفى درجة نهج الذي أنزل الله الكتاب هدى عليه ولم يجعل له عوجا فصلي يا رب على خير الورى ما هتفت قمرية على الذرى والآل والأزواج والأصحاب والتابعين من أولي الألباب ..
معشر الأخوة بهذا الخلق سجل أتباع محمد صلى الله عليه وسلم صفحات مضيئات تشيع نشاطا في قوى الشيخ والفتى ويغذى عليها الطفل منا ويرضع .. هذا هو الصديق رضي الله عنه في جلالته كان حين يأتيه جواري الحي بأغنامهن فيحلبها لهن وهو خليفة المسلمين ويودع جيشه ماشيا وهو يقول : ما علي أن أغبر قدمي في سبيل رب العالمين .. وهو من رفع في وجوه المادحين : اللهم اجعلني خير مما يظنون ..
ويخرج أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فيمر بمكان كان يرعى فيه الغنم في الجاهلية فيقول : لا إله إلا الله كنت أرعى الغنم بهذا الوادي وأتعب وإذا قصرت أضرب وقد أمسيت ليس بيني وبين الله من أحد .. ويردد : يا ابن الخطاب كنت وضيعا فرفعك الله وضالا فهداك الله وذليلا فأعزك الله ثم حملك على رقاب الناس فماذا تقول لربك غدا إذا أتيته؟ .. ثم يندفع في البكاء ويقول لابنه وهو يودع الدنيا شهيدا : ضع خدي على الأرض لا أم لك ! ويلي إن لم يرحمني ربي ..
وعثمان رضي الله عنه يخطب يوم الجمعة وعليه ثوب بأربعة دراهم وهو أمير المؤمنين وينام في المسجد فيقوم وأثر الحصى في جنبه وهو تاجر المسلمين ويخدم نفسه بالليل ولا يوقظ الخدم ويقول : الليل لهم فيه يستريحون ..
ويشتري علي رضي الله عنه الطعام ويحمله بنفس لا تعرف الكبر ولا تأنف من حمل المتاع ويقول : أبو العيال أحق أن يحمل .. وهو من أحبه رب العالمين ..
وابن عوف رضي الله عنه من تواضعه في زيه لا يعرف من بين عبيده وهو من العشرة المبشرين ..
وسلمان يلبس جبة خشنة ويقول لمن لامه : إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد فإذا عتقت لبست ثيابا لا تبلى حواشيها في جنات وعيون
ولما عزل سيف الله خالد قال : والله لو ولى علي أمير المؤمنين امرأة أو مملوكا لسمعت له وأطعت ما دام يقودني بكتاب رب العالمين
وعمار يشتري علفا ويحمله على ظهره وهو أمير الكوفة يحدوه صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة
وعمر بن عبد العزيز ينتظر ثيابه حتى تجف وهو أمير المؤمنين ولما قيل له ندفنك إذا مت مع رسول الله وصاحبيه قال : والله لأن ألقى الله بكل ذنب سوى الشرك أحب إلي من أرى نفسي أهلا لتلك المنزلة والعاقبة للمتقين
وأحمد عليه رحمة رب العالمين كثيرا ما يقول نحن قوم مساكين ولما قيل له ما أكثر الداعين لك .. غارت عيناه وقال : أخاف أن يكون هذا استدراجا من رب العالمين
ويأخذ الفضيل بيد سفيان بن عيينة ويقول : إن كنت تظن أنه بقي على وجه الأرض شر مني ومنك فبئس ما تظن
وإبراهيم النخاعي كان يهاب هيبة الأمير ويقول مع ذا تواضعا : إن زمانا صرت فيه فقيه الكوفة لزمان سوء
وكان ابن القيم رحمه الله يقول عن نفسه : بني أبي بكر كثير ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثم .. بني أبي بكر جهول بنفسه جهول بأمر الله أنى له العلم .. بني أبا بكر غدا متصدرا يعلم علما وهو ليس له علم
ويأتي ابن المبارك على سقاية والناس يشربون فدنا ليشرب ولم يعرفه الناس فدفعوه فلما خرج قال : ما العيش إلا هكذا حيث لم نعرف ولم نوقر
ونقل عن الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمة الله عليه أنه ما قال عن نفسه يوما الشيخ أو المفتي إلا أنه كلم عاملا في فندق يوما للحجز لأحد الضيوف فقال العامل من ؟ قال : محمد ابن إبراهيم ، فما عرفه فقال : آل الشيخ ، فما عرفه فقال : المفتي .. فعرفه ثم قال رحمه الله : هداه الله ألزمنا أن نقول هذه الكلمة ..ويا لله ما أجملها من كلمة
وتأخر السائق يوما على الشيخ ابن باز لتعطل سيارته الخاصة فطلب من أحد العاملين عنده أن يأتي بسيارة فاعتذر العامل بأن سيارته لا تليق بمقام الشيخ فداعبه الشيخ قائلا : سيارتك ما تمشي ؟ .. فذا تواضع يشفي .. ونقل إليه اقتراح مفاده أن جلوسك يا شيخ على الطعام يشارك فيه عرب وعجم وفقراء ومن دهماء الناس فلو جعلت مجلس طعام خاصا بك وجعلت لهم مجلسا آخر .. فتغير وجه الشيخ وقال : مسكين صاحب هذا الاقتراح لم يتلذذ بالجلوس مع المساكين والأكل مع الفقراء سأستمر على هذا وليس عندي خصوصية .. من استطاع أن يجلس معي أنا وهؤلاء الفقراء فليجلس والذي تأبى نفسه ولا يعجبه فليس مجبرا ..
والشيخ ابن عثيمين عليه رحمة رب العالمين في طريقه لمسجده يقف لأحد الطلبة وقد نزل طفلاه الصغيران يسلمان على الشيخ فأخذ بيد أحد الطفلين وأخرج القلم ورسم في يده ساعة والطفل في غاية السرور ثمن أخذ يد الطفل الآخر ورسم له مثلها والناس في المسجد ينتظرون .. فلا يسأمون اصطناع الجميل ولا يعتريهم عليه الندم
والشيخ الألباني رحمه الله لما حدث أنه رؤي في المنام يمشي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أجهش وقال اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون
ولما رأى بعض أهل الأهواء رؤيا لأحد علماء شمال إفريقيا أنه كعثمان بن عفان رضي الله عنه أخبره طمعا في أن ينضم لحزبه فقال العالم إنني لم أبلغ منزلة الغبار الذي ثار في أنف فرس عثمان في إحدى غزواته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جواب لكم عندي
تواضعوا ولغير الله ما سجدوا ولا استكانوا ولا مدوا يدا ليد .. سيروا كما ساروا لتجنوا ما جنوا واقفوا خطى الأخيار حيث تيمموا
أيها الجيل لحن اللسان معيب واللحن بالقلب ذنب ..من أقبح اللحن عندي كبر وتيه وعجب .. التواضع التواضع .. تواضعا في تقبل وحي الله لا على انه آصار وأغلال بل تقبل الفرح الجذلان المستسلم المنقاد المحب المعظم لله رب العالمين الموقن في أن الفلاح في ذلك يقينا أعظم من يقينه في أن الماء والهواء من لوازم الحياة وحال كحال مصعب بن الزبير أمير العراقين لما هم برجل من الأنصار ليؤدبه وقد بلغه عنه شيء فدخل عليه أنس رضي الله عنه وقال : إني سمعت رسول الله يقول : ( استوصوا بالأنصار خيرا فقد أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم ، من ولي أمرا يضر فيه أحدا أو ينفعه فليقبل من محسنيهم وليتجاوز عن مسيئهم ) فألقى مصعب بنفسه عن سريره وألصق خده بالبساط وهو يقول : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين فلو قال لي مت متُ سمعا وطاعة وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا
أيها الجيل إن المراتب بالتواضع والعلى ليست بمخرقة ولا سفاه .. التواضع التواضع .. تواضعا في قبول الحق ممن جاء به صغيرا أو كبيرا وليا أو عدوا حبيبا أو بغيضا فالحق أحق أن يتبع ولزوم الحق ينزلك منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق ومراجعة الحق خير من التمادي في غير الحق ..
في السير للذهبي أن عبد الواحد ابن زياد قال : لقيت زفرة بن الهذيل فقلت صرتم حديثا في الناس وضحكة .. قال وما ذاك ؟ قلت : تقولون ادرؤوا الحدود بالشبهات ثم جئتم إلى أعظم الحدود فقلتم تقام للشبهة .. قال وما هو ؟ قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقتل مسلم بكافر ) فقلتم يقتل به يعني بالذمي قال فإني أشهدك الساعة أني قد رجعت عنه ) قال الذهبي رحمه الله هكذا يكون العالم وقافا مع النصوص
ويقول أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة : قدمت المدينة فسألت عن الصاع فقالوا صاعنا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ما حجتكم ؟ كل قول لم يؤيد بدليل فادعاء وافتراء وهراء قالوا غدا نأتيك به .. ولما أصبحت أتاني خمسين شيخا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم صاع تحت ردائه كل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته أن هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت أمرا قويا فتركت قول أبي حنيفة في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة .. فزاده الحق رفعة
فيا أيها الجيل من جاء بحق فاقبله ولو كان بعيدا بغيضا ومن جاء بباطل فاردده وان كان قريبا حبيبا ومن جاء بحق وباطل فرد الباطل واقبل الحق
أيها الجيل أرفع الناس قدرا من لا يرى قدره فاعرف قدر نفسك ولا تعها في غير موضعها وإذا خرجت من بيتك فلا يقعن بصرك على مسلم إلا رأيته أنه قد يكون خيرا منك لا تجعل من نفسك ندا لجهابذة العلماء وتقول هم رجال ونحن رجال وقل هم نسور في السحاب ونحن نحبو على التراب
تواضع لأقرانك ولا تستعلي عليهم ولا تفرح بالنيل منهم والحط من قدرهم وعيبهم بما ليس فيهم وإظهار ذلك في مظهر النصيحة والتقويم لهم ولا تتجاهل نفعهم فإن لم ترض منهم بعض القول فقل حسبهم أنهم يدعون إلى الله ويعلمون الناس الخير
لا تشمخ على مبتلى بمعصية واحمد الله ان نجاك مما ابتلاه فربما يصحب عملك عجب يحبطه ويصحبه انكسار وندم وخوف من ذنبه يغفر الله له بسببه
أيها الجيل الحكمة أبت إلا أن تسكن قلبا متواضعا وأن تهجر قلبا ملئ كبرا فالزرع ينبت في السهل ولا ينبت على الصفا .. من علا بعلمه وخلقه وتواضعه لن يهبط ومن علا على قوائم الكرسي وأعناق الرجال فأحري به أن يسقط وبقدر الصعود يكون السقوط
أيها الجيل مقادير العباد لا يعلمها حقا إلا بارئ العباد قد يكون العبد عزيزا في أعين الناس وهو عند الله بأخبث المنازل وقد يكون حقيرا في أعين الناس وهو عند الله بأعلى المنازل
انتسب رجلان على عهد موسى كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما انا فلان ابن فلان وعد تسعة فمن أنت لا أم لك ؟ فقال الآخر أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام فأوحى الله لموسى أن قل لهذين المنتسبين أما أنت أيها المنتسب إلى تسعة في النار فأنت عاشرهم أما أنت أيها المنتسب إلى اثنين في الجنة فأنت ثالثهم
ليست العبرة بالنسب ولا الحسب .. الميزان والمعيار : إن أكرمكم عند الله
المشاهدات 7317 | التعليقات 0