عرفة: شرف الزمان والمكان والإنسان - أ.شريف عبد العزيز- عضو الفريق العلمي
الفريق العلمي
العبادة بمفهومها الشامل والمتكامل والمهيمن على كل تصرفات الإنسان ومناحي حياته هي الغاية الحقيقية من الوجود، فالعبادة في الإسلام ليست مجرد شعائر فلكورية فارغة يتوارثها الأبناء عن الأجداد كما هو الحال في المجتمعات البعيدة عن نور السماء، بل هي رياضة عملية مستمرة هدفها تأكيد العقيدة وتجليتها، فالإنسان ضعيف ومعرض دائماً للوساوس والانحراف، ويكتنفه الكثير من الأعداء والمخاطر، ولا يكون الخلاص إلا بتقوية الصلة بين الإنسان وخالقه، من هنا تنبع أهمية العبادة لأنها تعمل على إزالة اللبس، وتفتح البصيرة، وتحقق التواصل الدائم مع الحق -سبحانه-، وهذا المفهوم الشامل للعبادة ينطوي على مردودٍ تربوي هام، ذلك أنه يؤكد على تكامل السلوك الإنساني الموصول بالخالق -سبحانه وتعالى.
وعلى رأس تلك العبادات التي يتكامل فيها كل المفاهيم الإيمانية والتربوية والأخلاقية؛ عبادة الحج.
وشعيرة الحج شأنه شأن باقي العبادات جعل الله – عز وجل - لها أركان وواجبات وسنن ومستحبات ومكروهات ومحرمات، وركن الحج الأعظم، وأساسه المتين، وعموده المتين؛ الوقوف بعرفة، وما أدراك ما عرفة!! يوم تجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، وتسكب فيه العبرات، وتبث فيه المواجع والشكايات، موضع تغفر فيه الزلات، وتُحطم الخطايا والجنايات، يوم يباهي الله فيه الملائكة بأهل الموقف، وهو يوم عظَّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره. وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، ويوم مغفرة الذنوب والعتق من النيران. يوم تفرد عن سائر أيام الله بالجمع بين شرف الزمان والمكان والإنسان.
أولاً: شرف الزمان
يوم عرفة من خير أيام الله، جُمع فيه من الفضائل والمحاسن ما لم يكن في غيره من الأيام، وفيه من الخيرات والبركات ما كان حري بكل مسلم أن يعيها ويسعى لتحصيلها، منها:
1 – يوم إكمال الدين: ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال أي آية ؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)[المائدة: 3] قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
2 – يوم المغفرة والعتق والمباهاة: ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟"
وعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله –تعالى- يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبراً "(رواه أحمد وصححه الألباني).
3 – يوم إغاظة الشيطان: فعن طلحة بن عبيد اللّه بن كريز -رحمه الله- مرسلاً أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما رئي الشيطان في يوم هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوزِ الله عن الذْنوب العظام، إلا ما رئي يومَ بدر، فإنه قد رأى جبريل يزعَ الملائكة "(رواه مالك في الموطأ مرسلًا).
4 – يوم عيد: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب" رواه أهل السّنن. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: " نزلت –أي آية (اليوم أكملت)- في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد ".
5 – يوم الكفارة المضاعفة: فقد ورد عن أبي قتادة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سئل عن صوم يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والسنة القابلة"(رواه مسلم). وهذا إنما يستحب لغير الحاج، أما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك صومه. ولا يُعلم في دين الإسلام عمل يكفّر الذنوب المستقبلية التي لم تقع بعد إلا صوم عرفة، فأي شرف هذا وأي فضل ومنقبة !!
6 – يوم الميثاق: فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان- يعني عرفة- وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبَلا، قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)[الأعراف: 172- 173](رواه أحمد وصححه الألباني)".
7 – يوم خير الدعاء: فمن طمع في العتق من النار، ورجا مغفرة ذنوبه، وإقالة عثراته، والتجاوز عن سيئاته في يوم عرفة، فليحرص على الإتيان بالأسباب التي يرجى بها -بعد فضل الله ورحمته- العتق من النار، وأعظم الأسباب الدعاء، وخاصة دعاء عرفة التي قُرنت فيه شهادة التوحيد بالإخلاص والإذعان، فقد روى الترمذي عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدي".
ثانياً: شرف المكان
سميت البقعة المطهرة باسم عرفة؛ لأن آدم وحواء تعارفا به، أو لقول جبريل -عليه السلام- لما علمه المناسك: أعرفت؟ قال: عرفت، أو لأنها مقدسة ومعظمة كأنها عُرفت – أي: طُيبت.
فعرفة هي أول بقعة في الأرض تعارف عليها آدم وحواء، وهي البقعة التي اختارها المولى – جل وعلا – لتكون موضع الركن الأعظم للشعيرة الأعظم؛ الحج.
وعرفة هو الموضع الذي يتجلى الله –تعالى- فيه على عباده في عشية يوم عرفة، ليباهي بهم الملائكة، ويثني عليهم، وينوه بذكرهم، في منقبة لا تكون لبقعة أخرى –خلا المساجد الثلاثة- ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من يوم أكثرُ من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يباهي بأهلِ عرفات أهلَ السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا"(رواه أحمد وسنده صحيح).
ثالثاً: شرف الإنسان
لقد شاء الله-تعالى- أن يجعل الإنسان خليفة في الأرض لعمارتها وإقامة حكم الله فيها، وذلك ضمن إطار معين ومحدد وصفه الله –سبحانه وتعالى– لهذه الخلافة ،والإنسان عندما خُلق لتحمّل هذه الأمانة لم يترك هملاً ،بل أرسل الله إليه الرسل لإنارة طريقه وتوضيح معالم الخلافة له، ولقد أوضح الله -سبحانه وتعالى- هذه الغاية بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات: 56 - 58].
لذلك فالعبادة تهدف دائما للرقى بالسلوك الإنساني والنشاط الاجتماعي، بحيث يظهر أثر هذا الرقي في التعاملات والمواقف، فالعبادة تصل بالإنسان لرتبة الشرف الحقيقي النابع من توثيق العلاقة بين العبد والرب، وليس الشرف النابع من الأسباب الدنيوية من نسب أو حسب أو جاه أو مال.
وفي يوم عرفة يرقى الإنسان في مراتب العبودية من ذكر ودعاء، وبكاء ورجاء، ورغب ورهب، ومناجاة وضراعة، وتوبة واستغفار، وصدق وإخلاص، وبر وإنفاق، ولا يزال العبد يترقى في هذا اليوم حتى يصل الحال التعبدي إلى منتهاه، وعندها يستحق الإنسان الشرف السردي: "أشهدكم يا عبادي أني قد غفرت لهم".
وحال السلف يوم عرفة كان خير مثال على الشرف الذي يصل إليه الإنسان بعد ترقيه في مراقي العبودية. فقد كان سلف الأمة حريصين أشد الحرص على استغلال هذا اليوم العظيم والإفادة منه، والمحروم من حرم فضل الله وجوده، والشقي من تمر عليه هذه الأزمان الفاضلة، والأوقات الشريفة دون استغلال لها، أو إفادة منها. فكانت أقوالهم حاثّةً على شغل هذا اليوم بما هو جدير به من الأعمال الصالحة.
فعن علي -رضي الله عنه- قال: "ليس في الأرض يوم إلا للّه فيه عتقاء من النار، وليس يوم أكثر فيه عتقًا للرقاب من يوم عرفة، فأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحلال، واصرف عني فسقة الجن والأنس".
وكان حكيم بن حزام -رضي الله عنه- يقف بعرفة ومعه مائة بدنة مقلدة، ومائة رقبة - أي من العبيد الأرقاء - فيعتق رقيقه، فيضج الناس بالبكاء والدعاء، ويقولون: "ربنا هذا عبدك قد أعتق عبيدَه، ونحن عبيدك فأعتقنا من النار.
وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير وبكر المزني -رحمهما الله بعرفة-، فقال أحدهما: اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي! وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم. يا لتواضع الصالحين! ويا لأدبهم مع ربهم وخوفهم مع حسن سيرتهم.
ووقف الفضيل بعرفة والناس يدعون، وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال: وسوءتاه منك وإن عفوت. الفضيل الحيِيُّ يقول هذا، وهو طبيب القلوب الذي كان ابن عيينة شيخ الحجاز يقبِّل يده! وانظر إلى تواضع الفضيل لتعرف لِمَ رفع الله ذكره بين الصالحين. وروي عنه أيضا أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة، فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا -يعني سدس درهم- أكان يردهم؟ قالوا: لا. قال: والله، للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.
وقال ابن المبارك: "جئت إلى سفيان الثوري عشيةَ عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان، فقلتُ له: مَنْ أسوأ هذا الجمع حالًا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم"، وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى الناس وتسبيحِهم وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا -يعني سدسَ درهـم- أكـان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرةُ عند الله أهونُ من إجابة رجل لهم بدانق.
رفعوا الأكُفَّ وأرسلوا الدعواتِ وتجـرَّدوا للـه في عـرفـاتِ
شعثًا.. تُجِلِّلُهُم سحائبُ رحمةٍ غُبْرًا.. يفيضُ النور في القَسَماتِ
وكأنَّ أجنحةَ الملائكِ عـانقت أرواحَهُـم بالـبِرِّ والطاعـاتِ
فتنـزَّلت بين الضلوع سكينةٌ علويَّةٌ.. موصـولةُ النفحـاتِ
وتصاعـدتْ أنفاسُهُم مشبوبةً وَجْدًا.. يسيل بواكِفِ العَبَـراتِ
هذي ضيوفُـك يا إلهي تبتغي عفوًا وتـرجـو سـابغَ البركـاتِ
غصَّت بهم في حَلِّهِم ورَحيلِهِم رَحْبُ الوِهادِ وواسعُ الفَلَـواتِ
تركوا وراء ظهورهم دنيا الوَرَى وأَتَـوْكَ في شوقٍ وفي إخْبـاتِ
وَفَدُوا إلى أبواب جُودِك خُشَّعًا وتـزاحموا في مَهْبِط الرحمـاتِ
فاقْبَلْ إلـهَ العرشِ كل ضَراعَةٍ وامْحُ الذنوب.. وكَفِّرِ الـزلاَّتِ