عداوة المنافقين للمؤمنين

د. محمود بن أحمد الدوسري
1441/07/20 - 2020/03/15 11:19AM
                                                                عداوة المنافقين للمؤمنين
                                                              د. محمود بن أحمد الدوسري
      الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمَّا بعد: المنافقون أشكالهم حَسَنة, وهم ذوو فصاحة وألْسِنَة, وإذا سمعهم السامع يُصغي إلى قولهم لِبَلاغتهم, وهم مع ذلك في غاية الضعف والهلع والجزع والجُبن, قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4]. تأمَّل - أخي الكريم - قولَه تعالى: {هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} وهذا يقتضي الحصر, أي: لا عدوَّ إلاَّ هم, ولكن لم يرد ها هُنا حَصْرَ العدواة فيهم, وأنهم لا عدوَّ للمسلمين سواهم, وإنما المقصود: أنهم أحقُّ بأنْ يكونوا لكم عدواً من الكفار المُجاهرِين[1].
     ويظنُّ المنافقون بأنَّ كلَّ صيحةٍ يسمعونها واقعة عليهم, ونازلة بهم؛ لِفَرطِ جُبنهم, وفراغِهم النفسي, وإحساسِهم بالهزيمة من الداخل, فهم صورٌ بلا معاني, وأشباحٌ بِلا أرواح؛ كما قال سبحانه: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 19].
     وتحذير القرآن من المنافقين؛ بأنهم العدو الحقيقي المختبئ في داخل الصف, وهو أخطر من العدو الخارجي الخطير؛ لِيُبيِّن الأساليبَ التي استخدمها المنافقون في تحقيق عداوتهم للمؤمنين؛ وليكونوا على حَذَرٍ منهم, ومن أبرزها:
     1- السُّخرية بالمؤمنين: فإنْ تَصَدَّق أحدُ المؤمنين بالمال الكثير, قالوا عنه: "مُراء"! وإنْ تصدَّق بالقليل؛ لأنه لا يجد أكثرَ منه, قالوا: "إنَّ الله لَغَنِيٌّ عن صدقة هذا"! فهم يَجْرَحون صاحِبَ الكثير؛ لأنه يبذل كثيراً, ويَحْتقرون صاحِبَ القليل؛ لأنه يبذل القليل, قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
     ومع ذلك؛ كانوا يتوجَّسون دائماً, ويخافون من نزول القرآن؛ لِيَكْشِفَ ألاعيبَهم, ويفضَحَ مكنوناتهم, وخبايا نفوسهم, قال الله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 64, 65].
     2- الإفساد بين المؤمنين: من أساليب المنافقين السعي بين المؤمنين بالنميمة والفساد, وتفريق الكلمة, وإفساد ذات البين, وتمنِّي الفتنة للمؤمنين, وتشكيكهم في دينهم, والتثبيط عن القتال, والتخويف من قوة الأعداء, وفي المؤمنين قوم ضَعَفَة يسمعون للمنافقين, قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47, 48].
     3- الشَّماتة بالمؤمنين:  وهو من أساليب المنافقين في عداوتهم للمؤمنين, فإنْ جاءت للمؤمنين حَسَنَة يحزن المنافقون؛ حسداً منهم على ما آتاهم الله به من النعم, وما امتنَّ عليهم به من الفضل. وإنْ أصاب المؤمنين مكروهٌ, أو حلَّ بهم ما يحزنهم تغمر المنافقين الفرحةُ, وتأخذهم الشماتةُ, ويعمُّهم السرور, قال الله تعالى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 120].
     وقد أرشد الله المؤمنين إلى الصبر, والتقوى, والتوكل على الله تعالى الذي هو محيط بأعدائهم, ومَنْ توكَّل عليه سبحانه كفاه[2].
     وهذه هي عادة المنافقين؛ الفرح بما يَحُلُّ بالمسلمين من مصائب, وما ينزل بهم من مشقة, ويقولون: "قد احْتَطْنَا ألاَّ نُصابَ مع المؤمنين بِشَرٍّ, وتَخَلَّفَنا عن الكِفاحِ والغزو"! وهم فَرِحون فَرَحَ البَطَر والشَّماتة, وقد خَلَتْ قلوبهم من التَّسليم لله تعالى, والرِّضا بقدره, واعتقاد الخير فيه, قال تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ * قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 50, 51].
     4- تَخْذيل المؤمنين: قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 167, 168]. 
     أي: لِيَعْلَمَ اللهُ الذين نافقوا, وهم عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه الذي رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, حين سار إلى عدوِّه من المشركين الغزاة يوم أُحدٍ, خاذلين له في لحظةٍ من أصعب اللحظات, قائلين له - في لهجة مُشْبعة بالخذلان - بعد أنْ دُعُوا للجهاد في سبيل الله: "لو نعلمُ أنكم تُقاتلون لَسِرْنَا معكم إليهم, ولَكُنَّا معكم عليهم, ولكنْ لا نرى أنْ يكون بينكم وبين القوم قِتال"!  فأبْدَوا من نفاقِ أنفسِهم ما كانوا يَكتُمونه, وقالوا بألسنهم: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ}[3]!
     عباد الله .. إنَّ المنافقين لم يكتفوا بالتَّخلُّف, وما يُحْدِثُه هذا التَّخلُّف من زلزلةٍ في الصفوف والنفوس؛ بل راحوا يُثِيرون الحَسْرةَ في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد القتال, وهم يقولون: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}! فيجعلون من تخلُّفِهم مصلحة, ويجعلون من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه مضرَّة!
     فكان جوابُ القرآنِ عليهم: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}, فهذا من أساليب القرآن العظيم في ردِّ مقالات الكفار, وهو أسلوبٌ تربوي, يضع الحقائق أمام المنكرين, بعيداً عن المبالغات؛ وذلك لإتاحة الفرصة لهم في إعادة التفكير, ومراجعته أمام حقيقة أنَّ الموت لا محالة آت, وأنَّ كلَّ نفسٍ ذائقة الموت أينما كانت, ومهما كانت, قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]. وهكذا يُخَذِّل المنافقون المؤمنين, ويتركون نُصرتَهم في لحظةٍ من أصعب اللحظات.
 
                                                                            الخطبة الثانية
     الحمد لله ... أيها المسلمون .. ومن الأساليب التي استخدمها المنافقون في تحقيق عداوتهم للمؤمنين:
     5- التربُّص بالمؤمنين: قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]. فهؤلاء المنافقون ينتظرون زوالَ دولةِ المسلمين, وظهورَ الكفرةِ عليهم, وذهاب مِلَّتِهم, فإنْ كان للمؤمنين نَصْرٌ وتأييد, وظَفَر وغنيمة؛ قال لهم المنافقون: "ألم نكن معكم"! وإنْ كان للكافرين غَلَبة على المسلمين؛ قالوا لهم: "ألم نُساعدكم في الباطن"! فالمنافقون يُصانعون الكافرين والمسلمين, وإنْ كان وُدُّهم ومَيْلُهم مع الكافرين, ولكن لا يُريدون الظُّهور معهم علانية, ولا يتحمَّلون الجُهد في محاربة المسلمين.
     واللهُ تبارك وتعالى يُطمئن المؤمنين؛ بأنَّ هذا التَّربُّص الخبيث, لن يغيِّرَ ميزانَ الأمور, ولن يجعل الغلبةَ والقهرَ للكافرين على المؤمنين: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}.
     ولن يَجْنِيَ المنافقون من تربُّصِهم بالمؤمنين إلاَّ الخيبةَ والخسران, قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة: 52]. فالمؤمنون لهم عاقبتان حميدتان: الانتصار على العدو, أو الشهادة المُورِثَة للجنة.
     وأمَّا المنافقون فينتظرهم المؤمنون بإحدى السَّوأتين من العواقب: إمَّا أنْ يُصيبهم اللهُ بعذابٍ من عنده, أو يُسلِّط اللهُ المؤمنين عليهم بالقتل أو غيره.
     عباد الله .. إنَّ معظم الأساليب التي استخدمها المنافقون في عداوتهم للمؤمنين, تكون خَفِيَّة مختبئة, وليست جَلِيَّة علانية, مِمَّا يدلُّ على أنهم جُبناء, لا يتحمَّلون المُواجهةَ المباشرة.
     ثم تكون عاقبة المنافقين بهذه العداوة الخبيثة: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 61, 62]. وهذه سُنَّةُ اللهِ في المنافقين - في كلِّ زمانٍ ومكان - وسُنَّةُ اللهِ لا تُبدَّل ولا تُغيَّر[4].
[1] انظر: طريق الهجرتين, لابن القيم (ص 402).
[2] انظر: تفسير ابن كثير, (1/343).
[3] انظر: تفسير الطبري, (3/510)؛ تفسير ابن كثير, (1/365).
[4] انظر: تفسير الطبري, (10/334)؛ تفسير البغوي, (9/377)؛ تفسير ابن كثير, (3/442).
المرفقات

عداوة-المنافقين-للمؤمنين

عداوة-المنافقين-للمؤمنين

المشاهدات 530 | التعليقات 0