عجوز بني إسرائيل-9-6-1437هـ-عبدالله اليابس-المنبر-بتصرف
محمد بن سامر
1437/06/09 - 2016/03/18 03:52AM
[align=justify]فحديثُنا اليومَ-بإذنِ اللهِ-تعالى-عن قصةِ عجوزٍ من بني إسرائيلَ, فاقتْ هذه العجوزُ بهمتِها هممَ الشبابِ والرجالِ, وقدْ قصَّ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-خبرَها على الصحابةِ-رضيَ اللهُ عنهم-وأمرَهم أن يكونوا مثلَها, فمن هي هذهِ العجوزُ؟ وما خبرُها؟
"أتى النَّبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-أعرابيًّا فأكرَمه فقال له: "ائتِنا"، فأتاه فقالَ له رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-: "سَلْ حاجتَكَ"، فما الذي سألَه هذا الأعرابيُّ؟ هذه فرصةُ العمرِ كما يُقالُ, هل طلبَ من النبيِّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-مرافقتَه في الجنةِ؟ أو طلبه أن يدعوَ اللهَ-تعالى-أنْ يغفرَ له ما تقدمَ من ذنوبِه؟
لا، قالَ الأعرابيُّ: ناقةٌ نركَبُها وأعنُزٌ يحلُبُها أهلي, فقال رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-: أعجَزْتُم أنْ تكونوا مِثْلَ عجوزِ بني إسرائيلَ؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ وما عجوزُ بني إسرائيلَ؟ قال: إنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا سار ببني إسرائيلَ مِن مِصرَ ضلُّوا الطَّريقَ فقال: ما هذا؟ فقال علماؤُهم: إنَّ يوسُفَ-عليه السَّلامُ-لَمَّا حضَره الموتُ أخَذ علينا مَوثقًا مِن اللهِ ألَّا نَخرُجَ مِن مِصْرَ حتَّى ننقُلَ عِظامَه معنا-يقصدون جسدَه، لأن اللهَ حرمَ على الأرضِ أن تأكلَ أجسادَ الأنبياءِ-قال: فمَن يعلَمُ موضِعَ قبرِه؟ قالوا: عجوزٌ مِن بني إسرائيلَ. فبعَث إليها فأتَتْه فقال: دُلِّيني على قبرِ يوسُفَ قالت: حتَّى تُعطيَني حُكْمي, قال: وما حُكْمُكِ؟ قالت: أكونُ معكَ في الجنَّةِ. فكرِه أنْ يُعطيَها ذلكَ, فأوحى اللهُ إليه: أنْ أعطِها حُكْمَها.
فانطلَقَتْ بهم إلى بُحيرةٍ، موضِعِ مُستنقَعِ ماءٍ فقالت: أنضِبوا هذا الماءَ-يعني انزفوه وانزحوه حتى ينتهي-فأنضَبوه، فقالتِ: احتَفِروا فاحتَفَروا فاستخرَجوا عِظامَ يوسُفَ-عليه السلام-, فلمَّا أقلُّوها-حملوها-إلى الأرضِ وإذا الطَّريقُ مِثْلُ ضوءِ النَّهارِ".
هذهُ القصةُ الرائعةُ فيها الكثيرُ من الدروسِ والعبرِ ومنها:
الهمةُ العاليةُ لهذهِ العجوزِ, فعندما سألَها نبيُّ اللهِ-موسى عليه السلامُ-عن مكانِ قبرِ يوسفَ-عليهِ السلامُ-, وجدْتها فرصةً لا تعوضُ, واشترطتْ لإخبارِه-عليهِ السلامُ-أنْ تكونَ معهُ في الجنةِ لأنها تعلمُ أنَّ الأنبياءَ في أعلى منازلِ الجنةِ، لم تطلب مالًا ولا دنيا, وإنما ارتقتْ إلى الأخرى, [وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى].
وتأملْ كيف فَقِه الصحابةُ هذا الدرسَ من رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-, فعن ربيعةَ بنِ كعبٍ الأسلميِ-رضيَ اللهُ عنهُ- قال: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ. فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ "، ولذلكَ أرشدَ النبيُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-إلى أنْ تسموَ همةُ الإنسانِ وتعلو, وألا يرضى من أمورِ الآخرةِ بالقليلِ, قالَ النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ".
يقولُ ابنُ القيمِ–رحمَه اللهُ-تعالى-: "النفوسُ الشريفةُ لا ترضى من الأشياءِ إلا بأعلاها، وأفضلِها، وأحمدِها عاقبةً، والنفوسُ الدنيئةُ تحومُ حولَ الدناءاتِ، وتقعُ عليها كما يقعُ الذبابُ على الأقذارِ".
ومن فوائدِ الحديثِ: أنَّ الإنسانَ إذا تأملَ فيما حولَه من هذه الدنيا فسيجدُ أنها إلى زوالٍ, فكلُ متاعِ الدنيا لا يدخلُ القبرَ, والكفنُ ليس له جُيوبٌ, فلا يدخلُ مع الإنسانِ إلا العملُ الصالحُ, وهذا ما فقهتْه العجوزُ فسألتْ نبيَّ اللهِ-موسى عليهِ السلامُ-أمرًا عظيمًا من أمورِ الآخرةِ.
قالَ الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا"-يعني توافَها-.
قالَ رجاءُ بنُ حَيَوَةَ-وزيرُ عمرَ بنِ عبدِالعزيزِ-رحمهم اللهُ-تعالى-: "كنتُ معَ عمرَ بنِ عبدِالعزيزِ لمَّا كانَ واليًا على المدينةِ، فأرسلني لأشتريَ له ثوبًا، فاشتريتُه له بخمسِ مئةِ درهمٍ-الدرهمُ مثلُ الريالِ-، فلمَّا نظرَ فيه قالَ: هو جيدٌ لولا أنه رخيصُ الثمنِ!, فلمَّا صارَ خليفةً للمسلمينَ، بعثني لأشتريَ له ثوبًا فاشتريتُه له بخمسةِ دراهم! فلمَّا نظرَ فيه قالَ: هو جيدٌ لولا أنه غالي الثمنِ!، قالَ رجاءُ: فلما سمعتُ كلامَه بكيتُ؛ فقالَ لي: ما يُبكيك يا رجاءُ؟ قلتُ: تذكرْتُ ثوبَك قبلَ سنواتٍ وما قلتَ عنه، فقال: "يا رجاءُ إنَّ لي نفسًا تواقةً، وما نالتْ شيئًا إلا تاقتْ لما هو أعلى منه, تاقتْ نفسي إلى الزواجِ من ابنةِ عمي فاطمةِ بنتِ عبدِالملكِ بن مروانِ-بنتِ الخليفةِ-فتزوجتُها، ثم تاقتْ نفسي إلى الإِمارةِ فوَلَيتُها، وتاقتْ نفسي إلى الخلافةِ فنِلتُها، والآنَ يا رجاءُ تاقتْ نفسي إلى الجنةِ، فأرجو أنْ أكونَ من أهلِها".
هذه هي الهمةُ العاليةُ، وهذه هي الهمةُ الحقيقيةُ التي تعانقُ السماءَ, وترجو ما عندَ اللهِ-تعالى-.
فمن فوائدِ حديثِ عجوزِ بني إسرائيلَ أيضا: تواضعُ رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-, فقد زارَ الأعرابيَّ في مكانِه, ثم دعاه إلى زيارتِه في المدينةِ, فكانَ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يزورُ الناسَ ويستقبلُهم في أوقاتِ الزيارةِ المناسبةِ، لا يمتنعُ عن ذلك ولا يتأففُ, ولا يخصُ بعضَهم دونَ بعضٍ، قالَ له رجلٌ ذاتَ يومٍ: يا محمَّدُ، أيا سِيِّدَنا وابنَ سيِّدِنا، وخيرَنا وابنَ خيرِنا، فقالَ رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "يا أيُّها النَّاسُ، عليكم بتقواكُم، ولا يستهوينَّكمُ الشَّيطانُ، أنا محمَّدُ بنُ عبدِاللهِ، أنا عبدُ اللهِ ورسولُه، ما أحبُّ أنْ ترفعوني فوقَ منزلتي التي أنزلنيها اللهُ"، وعن أنسٍ-رضيَ اللهُ عنه-: "أنَّه مرَّ على صبيانٍ فسلَّم عليهم، وقالَ: كان النَّبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-يفعلُه"-يعني يسلمُ على الصبيانِ.
ومن فوائدِ الحديثِ: مشروعيةُ تنفيذِ وصايا الأمواتِ, فيوسفُ-عليه السلامُ-أوصى بني إسرائيلَ ألا يخرجوا من مصرَ حتى ينقلوا جثتَه معهم, لكنْ إنْ كانَ الميتُ أوصى بمحرمٍ فإنَّ هذه الوصيةَ لا تُنَفَذُ.
ومن فوائدِ الحديثِ: جوازُ نقلِ الميتِ من قبرٍ إلى آخرَ للمصلحةِ والحاجةِ, إذا لم يترتبْ على نقلِه انتهاكٌ لحرمتِه ولا أذى, وهذا قولُ الشيخِ ابنِ بازٍ-رحمه اللهُ-واللجنةِ الدائمةِ.
ومن فوائدِ الحديثِ: استفادةُ الداعيةِ من الفرصِ والمواقفِ لنشرِ الخيرِ بين الناسِ, فهذا رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-لما طَلبَ منه الأعرابيُّ ناقةً وعنزًا, رأى دنوَ همتِه, فحثَ الصحابةَ-رضيَ اللهُ عنهم-على علوِ الهِمةِ, واستخدم لذلك أسلوبًا من أساليبِ التشويقِ وهو أسلوبُ السؤالِ عما لا يعلمُه المستمعُ.
ومن الفوائدِ: أن المفضولَ-وهو الأقلُ فضلًا-قدْ يعلمُ ما لا يعلمُه الفاضلُ-وهو الأكثرُ فضلًا-, فقدْ علمتُ العجوزُ مكانَ قبرِ يوسفَ-عليه السلامُ-ولمْ يعلمْه نبيُّ اللهِ موسى-عليه السلامُ.
ومن فوائدِ الحديثِ: أنَّ الأنبياءَ عليهمُ السلامُ لا يملكونَ أنْ يشهدوا لأحدٍ بالجنةِ أو النارِ إلا بوحي اللهِ-تعالى-, فهذا موسى-عليه السلامُ-لما اشترطتْ عليه العجوزُ مرافقتَه في الجنةِ لم يُجبها لذلك إلا بعدَ أنْ أوحى اللهُ-تعالى-إليه، وبذلك يُعلمُ أنَّ الرسلَ-عليهم السلامُ-بشرٌ منَ البشرِ ميزهُم اللهُ-تعالى-بالنبوةِ والرسالةِ, لكنهم لا يملكونَ لأحدٍ نفعًا ولا ضرًا إلا بمشيئةِ اللهِ-تعالى-, ولا يعلمونَ الغيبَ ولا يَخلُقونَ ولا يَرزُقون ولا يُجيبونَ مَن دعاهم بعدَ موتِهم, قالَ اللهُ-تعالى-آمرًا رسولَه-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: [قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ].
[/align]
"أتى النَّبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-أعرابيًّا فأكرَمه فقال له: "ائتِنا"، فأتاه فقالَ له رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-: "سَلْ حاجتَكَ"، فما الذي سألَه هذا الأعرابيُّ؟ هذه فرصةُ العمرِ كما يُقالُ, هل طلبَ من النبيِّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-مرافقتَه في الجنةِ؟ أو طلبه أن يدعوَ اللهَ-تعالى-أنْ يغفرَ له ما تقدمَ من ذنوبِه؟
لا، قالَ الأعرابيُّ: ناقةٌ نركَبُها وأعنُزٌ يحلُبُها أهلي, فقال رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-: أعجَزْتُم أنْ تكونوا مِثْلَ عجوزِ بني إسرائيلَ؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ وما عجوزُ بني إسرائيلَ؟ قال: إنَّ موسى عليه السَّلامُ لَمَّا سار ببني إسرائيلَ مِن مِصرَ ضلُّوا الطَّريقَ فقال: ما هذا؟ فقال علماؤُهم: إنَّ يوسُفَ-عليه السَّلامُ-لَمَّا حضَره الموتُ أخَذ علينا مَوثقًا مِن اللهِ ألَّا نَخرُجَ مِن مِصْرَ حتَّى ننقُلَ عِظامَه معنا-يقصدون جسدَه، لأن اللهَ حرمَ على الأرضِ أن تأكلَ أجسادَ الأنبياءِ-قال: فمَن يعلَمُ موضِعَ قبرِه؟ قالوا: عجوزٌ مِن بني إسرائيلَ. فبعَث إليها فأتَتْه فقال: دُلِّيني على قبرِ يوسُفَ قالت: حتَّى تُعطيَني حُكْمي, قال: وما حُكْمُكِ؟ قالت: أكونُ معكَ في الجنَّةِ. فكرِه أنْ يُعطيَها ذلكَ, فأوحى اللهُ إليه: أنْ أعطِها حُكْمَها.
فانطلَقَتْ بهم إلى بُحيرةٍ، موضِعِ مُستنقَعِ ماءٍ فقالت: أنضِبوا هذا الماءَ-يعني انزفوه وانزحوه حتى ينتهي-فأنضَبوه، فقالتِ: احتَفِروا فاحتَفَروا فاستخرَجوا عِظامَ يوسُفَ-عليه السلام-, فلمَّا أقلُّوها-حملوها-إلى الأرضِ وإذا الطَّريقُ مِثْلُ ضوءِ النَّهارِ".
هذهُ القصةُ الرائعةُ فيها الكثيرُ من الدروسِ والعبرِ ومنها:
الهمةُ العاليةُ لهذهِ العجوزِ, فعندما سألَها نبيُّ اللهِ-موسى عليه السلامُ-عن مكانِ قبرِ يوسفَ-عليهِ السلامُ-, وجدْتها فرصةً لا تعوضُ, واشترطتْ لإخبارِه-عليهِ السلامُ-أنْ تكونَ معهُ في الجنةِ لأنها تعلمُ أنَّ الأنبياءَ في أعلى منازلِ الجنةِ، لم تطلب مالًا ولا دنيا, وإنما ارتقتْ إلى الأخرى, [وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى].
وتأملْ كيف فَقِه الصحابةُ هذا الدرسَ من رسولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-, فعن ربيعةَ بنِ كعبٍ الأسلميِ-رضيَ اللهُ عنهُ- قال: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: سَلْ. فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَالَ: فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ "، ولذلكَ أرشدَ النبيُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-إلى أنْ تسموَ همةُ الإنسانِ وتعلو, وألا يرضى من أمورِ الآخرةِ بالقليلِ, قالَ النبيُّ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَ-: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ".
يقولُ ابنُ القيمِ–رحمَه اللهُ-تعالى-: "النفوسُ الشريفةُ لا ترضى من الأشياءِ إلا بأعلاها، وأفضلِها، وأحمدِها عاقبةً، والنفوسُ الدنيئةُ تحومُ حولَ الدناءاتِ، وتقعُ عليها كما يقعُ الذبابُ على الأقذارِ".
ومن فوائدِ الحديثِ: أنَّ الإنسانَ إذا تأملَ فيما حولَه من هذه الدنيا فسيجدُ أنها إلى زوالٍ, فكلُ متاعِ الدنيا لا يدخلُ القبرَ, والكفنُ ليس له جُيوبٌ, فلا يدخلُ مع الإنسانِ إلا العملُ الصالحُ, وهذا ما فقهتْه العجوزُ فسألتْ نبيَّ اللهِ-موسى عليهِ السلامُ-أمرًا عظيمًا من أمورِ الآخرةِ.
قالَ الرسولُ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: "إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وأَشْرَافَهَا، وَيَكْرَهُ سَفَاسِفَهَا"-يعني توافَها-.
قالَ رجاءُ بنُ حَيَوَةَ-وزيرُ عمرَ بنِ عبدِالعزيزِ-رحمهم اللهُ-تعالى-: "كنتُ معَ عمرَ بنِ عبدِالعزيزِ لمَّا كانَ واليًا على المدينةِ، فأرسلني لأشتريَ له ثوبًا، فاشتريتُه له بخمسِ مئةِ درهمٍ-الدرهمُ مثلُ الريالِ-، فلمَّا نظرَ فيه قالَ: هو جيدٌ لولا أنه رخيصُ الثمنِ!, فلمَّا صارَ خليفةً للمسلمينَ، بعثني لأشتريَ له ثوبًا فاشتريتُه له بخمسةِ دراهم! فلمَّا نظرَ فيه قالَ: هو جيدٌ لولا أنه غالي الثمنِ!، قالَ رجاءُ: فلما سمعتُ كلامَه بكيتُ؛ فقالَ لي: ما يُبكيك يا رجاءُ؟ قلتُ: تذكرْتُ ثوبَك قبلَ سنواتٍ وما قلتَ عنه، فقال: "يا رجاءُ إنَّ لي نفسًا تواقةً، وما نالتْ شيئًا إلا تاقتْ لما هو أعلى منه, تاقتْ نفسي إلى الزواجِ من ابنةِ عمي فاطمةِ بنتِ عبدِالملكِ بن مروانِ-بنتِ الخليفةِ-فتزوجتُها، ثم تاقتْ نفسي إلى الإِمارةِ فوَلَيتُها، وتاقتْ نفسي إلى الخلافةِ فنِلتُها، والآنَ يا رجاءُ تاقتْ نفسي إلى الجنةِ، فأرجو أنْ أكونَ من أهلِها".
هذه هي الهمةُ العاليةُ، وهذه هي الهمةُ الحقيقيةُ التي تعانقُ السماءَ, وترجو ما عندَ اللهِ-تعالى-.
الخطبة الثانية
ومن فوائدِ الحديثِ: مشروعيةُ تنفيذِ وصايا الأمواتِ, فيوسفُ-عليه السلامُ-أوصى بني إسرائيلَ ألا يخرجوا من مصرَ حتى ينقلوا جثتَه معهم, لكنْ إنْ كانَ الميتُ أوصى بمحرمٍ فإنَّ هذه الوصيةَ لا تُنَفَذُ.
ومن فوائدِ الحديثِ: جوازُ نقلِ الميتِ من قبرٍ إلى آخرَ للمصلحةِ والحاجةِ, إذا لم يترتبْ على نقلِه انتهاكٌ لحرمتِه ولا أذى, وهذا قولُ الشيخِ ابنِ بازٍ-رحمه اللهُ-واللجنةِ الدائمةِ.
ومن فوائدِ الحديثِ: استفادةُ الداعيةِ من الفرصِ والمواقفِ لنشرِ الخيرِ بين الناسِ, فهذا رسولُ اللهِ-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-لما طَلبَ منه الأعرابيُّ ناقةً وعنزًا, رأى دنوَ همتِه, فحثَ الصحابةَ-رضيَ اللهُ عنهم-على علوِ الهِمةِ, واستخدم لذلك أسلوبًا من أساليبِ التشويقِ وهو أسلوبُ السؤالِ عما لا يعلمُه المستمعُ.
ومن الفوائدِ: أن المفضولَ-وهو الأقلُ فضلًا-قدْ يعلمُ ما لا يعلمُه الفاضلُ-وهو الأكثرُ فضلًا-, فقدْ علمتُ العجوزُ مكانَ قبرِ يوسفَ-عليه السلامُ-ولمْ يعلمْه نبيُّ اللهِ موسى-عليه السلامُ.
ومن فوائدِ الحديثِ: أنَّ الأنبياءَ عليهمُ السلامُ لا يملكونَ أنْ يشهدوا لأحدٍ بالجنةِ أو النارِ إلا بوحي اللهِ-تعالى-, فهذا موسى-عليه السلامُ-لما اشترطتْ عليه العجوزُ مرافقتَه في الجنةِ لم يُجبها لذلك إلا بعدَ أنْ أوحى اللهُ-تعالى-إليه، وبذلك يُعلمُ أنَّ الرسلَ-عليهم السلامُ-بشرٌ منَ البشرِ ميزهُم اللهُ-تعالى-بالنبوةِ والرسالةِ, لكنهم لا يملكونَ لأحدٍ نفعًا ولا ضرًا إلا بمشيئةِ اللهِ-تعالى-, ولا يعلمونَ الغيبَ ولا يَخلُقونَ ولا يَرزُقون ولا يُجيبونَ مَن دعاهم بعدَ موتِهم, قالَ اللهُ-تعالى-آمرًا رسولَه-صلى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلمَّ-: [قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ].
[/align]
المرفقات
عجوز بني إسرائيل-9-6-1437هـ-عبدالله اليابس-المنبر-بتصرف.docx
عجوز بني إسرائيل-9-6-1437هـ-عبدالله اليابس-المنبر-بتصرف.docx
عجوز بني إسرائيل-9-6-1437هـ-عبدالله اليابس-المنبر-بتصرف.pdf
عجوز بني إسرائيل-9-6-1437هـ-عبدالله اليابس-المنبر-بتصرف.pdf