عثمان القانت الشهيد
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحمدُ للهِ على نِعَمٍ تترَى، وعلى أرزاقٍ لا نُطيقُ لها حصرًا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له شهادةً تكونُ لنا ذُخرًا، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه المخصوصُ بالفضائلِ الكبرَى، صلى اللهُ وسلمَعليهِ إلى يومِ الأُخرى. أما بعدُ: فالتقوَى وِقاءٌ، ولباسُها خيرُ لباسٍ.
فَسَيَكُونُ الْحَديثُ عَنِ الْعَابِدِ الْقَانِتِ {آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} إنَّهُ الْحَيِّيُّ الَّذِي تَسْتَحْيِ مِنْهُ الْمَلَاَئِكَةَ ؟!
إِنَّهُ الشَّهِيدُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَقَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنَّهُ مَنْ أهْلِ الْجَنَّةِ وَهُوَ حَيَّ يُمَشِّي عَلَى الْأَرَضِ. فَقَدْ قَالَ فِيمَا يَرْوِيهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ .. مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ() فَحَفَرَ عُثمَانُ البِئْرَ، وَجَهّزَ الجَيْشَ بِثَلاثِ مِئَةِ بَعِيْرٍ، وعَشَرةِ آلَافِ دِيْنَارٍ.
تَزَوَّجَ عُثْمَانُ رُقِيَّةَ بَنَتَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمِرِضَتْ قُبَيْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ، فَتَأَخَّرَ عَنِ الْغَزْوَةِ لِتَمْريضِهَا بِإِذْنِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ، مِثْلَ مَن حَضَرَ الغَزْوَةَ.
ثُمَّ ماتَتْ رُقَيَّةُ فِي مَرَضِهَا، فَزَوَّجَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَخَتْهَا أَمَ كُلْثُومٍ. وَلَا يُعْرَفُ أحَدٌ تَزَوَّجَ بِنْتَي نَبِيٍّ غَيْرُهُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَّ ذَا النُّورَيْنِ.
وَفِي الْعَامِ السَّادسِ لِلْهِجْرَةِ خَرَجَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ لِلْعُمَرَةِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا مَنَعَتْهُمْ أَنْ يَعْتَمِرُوا. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ رَسُولًا لِيُفَاوِضَهُمْ، أَرْسَلَ عُثْمَانَ، فَلَمْ يَتَرَدَّدْ لَحْظَةً، مَعَ أَنَّهَامُفَاوَضَةٌ يَحُفُّهَا الْمَوْتُ أَوِ الْحَبْسُ! وَدَخَلَ عُثْمَانُ مَكَّةَ، وَنَظَرٍ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَرآهُ أَشْرَافُ قُرَيْشٍ يَنْظُرُ فَقَالُوا لَهُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنَّ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ وَلَا نَمْنَعُكَ. أَتَدْرُونَ بمَاذَا ردَّ عُثْمَانٌ؟! نَظَرَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: وَاللهِ مَا كُنْتُ لِأُطَوُفَ بِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-! فَاِحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ، وَشَاعَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، وَهُنَا قَامَ الصَّحَابَةُ لِيُبَايِعُوا النَّبِيَّ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْعَةَ الْمَوْتِ، وَهِي أَعَظْمُ بَيْعَةٍ عُرْفِهَا التَّارِيخُ! إِنَّهَا الَّتِي سُمِّيَتْ بِبَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، لِأَنَّ جَائِزَتَهَا أعْظَمُ جَائِزَةٍ، بأَنْ يَرْضَى اللهُ عَنْهُمْ، فَأنْزَلَ البِشَارَةَبالجَائِزَةِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}[الفتح18]
أَتَدْرُونَ مَاذَا فَعَلَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعُثْمَانُ لَمْ يَحْضُرِ البَيْعَةَ؟! رَفَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى وَقَالَ: هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ. فَضَرَبَ بِهَا عَلَى يَدِهِ. فَكَانَتْ يَدُه -صَلَّى الله عَلَيه وَسَلَّم- لعُثمَانَ خيرٌ لَهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ لأَنْفُسِهِمْ().
وَلِيَ عُثْمَانُ الْخِلَاَفَةَ بَعْدَ أَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ، وَكَانَ عُمُرُهُ اِثْنَتَانِ وسَبْعُونَ سَنَةً، وَاِسْتَمَرَّ اِثْنَتِيْ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَمِنْ أَعْمَالِه الْعَظِيمَةِ جَمْعُ وكِتابَةُالْمُصْحَفِ، وَتَوْسِعَةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَتَوْسِعَةُ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ أَيْضًا.
وَبَعْدَ سِيْرَةٍ حَافِلَةٍ بِالْإِنْجَازَاتِ وَالْفُتُوحَاتِ يَخْتِمُ اللهُ لَهُ بِأَحْسَنِ خَاتِمَةٍ، فَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ ثانِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيْقِ، وَهُوَ اِبْنُ أَرْبَعٍ وَثَمانِينَ سَنَةً. قَالَ عُثْمَانُ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَبْل مَقْتَلِهِ بسُوَيْعَاتٍ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-الْبَارِحَةَ فِي الْمَنَامِ، وقَالَ لِي: اصْبِرْ، فَإِنَّكَ تُفْطِرُ عِنْدَنَا الْقَابِلَةَ.ثُمَّ دَعَا بِمِصْحَفٍ فَنَشَرَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقُتِلَ وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ(). فَصَارَ شَهِيدَالْمِصْحَفِ.
لَقَدْ دَخَلَ عَلِيهِ الْأشقيَاءُ الْفُجَّارُ، فَأَمْسَكَ أَشْقَاُهُمْ بِلِحْيَةِ عُثْمَانَ، فَطَعَنَهُ تِسْعَ طَعَنَاتٍ(). وَسَالَ الدَّمُ عَلَى الْمِصْحَفِ وَقَطَرَتْ قَطَرَةُ دَمٍ عَلَى قَوْلِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة137].
فَاللَّهُمُّ اِرْضَ عَنْ أَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعِلِي وَسَائِرِ الصَّحَابَةِ، وَاُحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِمْ. اللَّهُمُّ إِنَّا أَحْبَبْنَاهُمْ وَمَا رَأَيْنَاهُمْ، اللَّهُمَّ اُرْزُقْنَا صُحْبَتَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مع نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ولا عُدْوانَ إلا على الظالمِينَ، أما بعدُ:
فِيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: تَعَوَّذُوا بِاللهِ مَنِ الْفِتَنِ مَا ظَهِرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَاِعْتَبَرُوا كَيْفَ أَنَّ الْاِخْتِلَاَفَ عَلَى خَلِيفَةِ المُسْلِمِينَ صَارَ سَبَبًا فِي الفِتْنَةِ، وَإِنَّ فِي هَذَا لِعَبْرَةً، أَنْ نَعْرِفَ ضَرُورَةَ اِجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وأهَمِّيَّةَ طَاعَةِ وَلِيِّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ. وَإِذَا رَأَيْنَا هَذِهِ الْاِنْقِلَابَاتِ، وَالْهَرْجَ وَالْقَتْلَ وَالتَّخَطُّفَاتِ، فَلَنَذْكُرْ وَلْنَتَذَاكَرْ قَوْلَ رَبِّنَا- سُبْحَانَهُ-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ}.
وَمَعَ هَذَا التَّلَاحُمِ الْمَحْمُودِ فِي بِلَادِنَا بَيْنَ الراعي وَالرَّعِيَّةِ، فَلَنُكْثِرْمَنْ حَمْدِ اللهِ عَلَى أَنَّ مَنَّ عَلَى وَطَنِنَا بِنَعَمَةِ الْأَمْنِ بَعْدَ أَنْ كانَ قَبْلَمِئَةِ سَنَةٍ يَسُودُهُ الْجُوعُ والْخَوْفُ وَقَطْعُ الطُّرُقِ: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
• فاللهم أوزِعْنا شكرَ نِعَمِكَ، واحفظْ علينا دينَنا، وأمنَنا، وقيادَتَنا، وطيِّبْ أقواتَنا، ووفقْ ولاتَنا، واجمعْ على الهدى شؤونَنا، واقضِ اللهم ديونَنا.
• اللهم إنا نعوذُ بك مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
• اللهمَ لكَ الحمدُ على ما أنزلتَ من خيراتِ السحابِ، وأجريتَ من وديانٍ وشِعابٍ.
• اللَّهُمَّ أَنْزِلْ فِي أَرْضِنَا رَبِيعَهَا، وَأَنْزِلْ فِي أَرْضِنَا سَكَنَهَا، وَارْزُقْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
• اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.
المرفقات
1675349301_عثمان القانت الشهيد.pdf
1675349307_عثمان القانت الشهيد.doc