عبودية الكائنات

عبدالرحمن اللهيبي
1439/07/13 - 2018/03/30 06:58AM

خطبة من منقول القول بتصرف

أما بعد:

فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فمن اتَّقى ربَّه ارتقَى درجات، وطابَ مآلُه بعد الممات.

أيها المسلمون:

اتَّصفَ الله تعالى بصفات الكمال والجمال، وتنزَّه من كل عيبٍ ونقصٍ ذو الكبرياء والجلال، فهو الغنيٌّ جل جلاله عما سِواه من المخلوقات وجميع المخلوقات مُفتقِرةٌ إليه، فهو ربها وخالقها ومدبرها قال - سبحانه -: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾  كلُ شيءٍ ذلَّ له وخضع وأذعن له وأسلمَ ، استسلمَ له المؤمنُ طوعا وإيمانا ، واستسلم الكافرُ له كرهًا وقهرا وإجبارا فالكافر خاضع لربه رغما عن أنفه , فهو لا يقدر على رد أقدار الله عليه، ولا يمكنه أن يتجاوز سنن الله في تدبيره, فيكون بهذا عبدا لله قهرا وقسرا لا عبدا لله اختيارا وطوعا فهو مخذول مرذول مطرود قال الله -: ﴿ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾

سبحانه جل في علاه دانَ الجميعُ لله، فما من شيء في الأرض ولا في السماء إلا ويصلِّي ويسجد لله بكيفية لا يعلم كنهها إلا الله ، قال الله: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾  وقال - عز وجل -: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ﴾  وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ قال - r- لأبي ذرٍّ حين غربَت الشمسُ: «أتدرِي أين تذهب؟». قلتُ: الله ورسولُه أعلم. قال: «فإنها تذهبُ حتى تسجُد تحت العرش»؛ متفق عليه.

ونحن والله ثم والله ثم والله نؤمن بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل لنا كيف تسجد وهي تغرب من هنا فتشرق على قوم آخرين قلنا صدق رسول الله والله أعلم كيف يكون سجودها

 

وليس الشمس من تسجد فقط بل كلُّ ما له ظلٌّ في الكون يسجُد لله، قال – جل علاه -: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾

ومع صلاة المخلوقات لله وسُجودهم له فإنهم يُسبِّحونه أيضا، قال تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾

بل حتى النملة تسبح الله وتقدسه عن الشريك والمثيل، قال - عليه الصلاة والسلام -: «قرصَت نملةٌ نبيًّا من الأنبياء، فأمرَ بقريةِ النمل فأُحرِقَت، فأوحَى الله إليه: أن قرصَتْك نملةٌ أحرقتَ أمةً من الأمم تُسبِّح؟!»؛ متفق عليه.

قال ابن القيم - رحمه الله -: "فتبارك الله ربُّ العالمين الذي يعلمُ مساقِط تلك الأوراق ومنابِتها، فلا تخرجُ منها ورقةٌ إلا بإذنه، ولا تسقُط إلا بقدَره وعلمِه، ومع هذا فلو شاهَدَها العبادُ على كثرتها وتنوُّعها وهي تُسبِّح بحمد ربِّها مع الثمار والأفنان والأشجار لشاهَدوا من جمالِها أمرًا آخر، ولعلِموا أنها لشأنٍ عظيمٍ خُلِقَت".    

والحجارة أيضا تسبح الله بل قد تهبِطُ من خشية الله ، قال – جل في علاه -: ﴿ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾. فيا عجبا لقلوب قاسية فمع كون القلب مضغة لينة صغيرة إلا أنها قد لا تخشع عند سماع آيات الله وهذه الجبال على قسوتها وعظمها عند سماع آيات الله تتصدع ، ومن خشية ربها تهبط وتخشع

يا عباد الله هذه السماءُ والأرضُ على عظمت خلقها وكبر حجمها مُطيعةٌ لله مُمتثلةٌ لأمره، قال تعالى:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ فما كان لها أن تعصيَ أمر الله ولا ينبغي لها ذلك أليس هو ربها وخالقها, ولما عُرِض على السموات والأرض وعلى الجبال حملُ الأمانة التي هي التكاليفُ الشرعية ، فأبَيْن حملَها خوفًا ألا يقُمنَ بحق الأمانة. قال جل في علاه ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا))

 

وشيء آخر يا عباد الله : في عجيب أمر هذه الكائناتِ والجماداتِ فهي مع عبوديتها لربها وخضوعِها له فإنها أيضا تعرف رسول الله r بل وتحبه وتؤمن به وبعضها كان يسلِّم عليه في حياته، قال r: «إني لأعرفُ حجرًا بمكّة كان يُسلِّم عليَّ قبل أن أُبعَث، إني لأعرفُه الآن»؛ رواه مسلم. وهذا جِذعُ نخلةٍ فارقَه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحنَّ له الجِذعُ وبكى؛ قال جابرٌ - رضي الله عنه -: "كان المسجدُ مسقوفًا على جُذوعٍ من نخلٍ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطبَ يقومُ إلى جِذعٍ منها، فلما صُنِع له المنبر وتركَ الجِذع -. قال: سمِعنا لذلك الجِذعِ صوتًا كصوتِ العِشار - أي: النُّوق الحوامِل - حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعَ يدَه عليها فسكنَت"؛ رواه البخاري. وكان الحسنُ البصريُّ - رحمه الله - إذا حدَّث بهذا الحديث يقول: "يا معشر المسلمين! الخشبةُ تحِنُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقًا إلى لقائِه، فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إليه". وليس الجذع فقط من يحن ويشتاق لرسول r بل اهتزَّ جبلٌ بأكمله لما صعِدَه النبي - صلى الله عليه وسلم – محبة وإجلالا له...

 قال أنسٌ - رضي الله عنه -: صعِد النبي - صلى الله عليه وسلم - أُحُدًا ومعه أبو بكرٍ وعُمر وعُثمان، فرجَفَ بهم، فضربَه برِجلِه، قال: «اثبُت أُحُد، فما عليك إلا نبيٌّ أو صِدِّيقٌ أو شهِيدان»؛ رواه البخاري. قال ابن المُنيِّر - رحمه الله -: "وهذه هزَّةُ الطرَب، ولهذا نصَّ على مقام النبُوَّة والصدِّيقيَّة والشهادة التي تُوجِبُ سُرورَ ما اتَّصَلت به".

وكان عند آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيوانٌ وحشيٌّ أي غير مستئنس للبشر إذا دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيتَه لم يتحرَّك الحيوان لئلا يُؤذِي النبي - صلى الله عليه وسلم -. قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحشٌ، فإذا خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعبَ واشتدَّ وأقبلَ وأدبرَ، فإذا أحسَّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دخلَ ربضَ - أي: جلسَ - فلم يترمرَم - أي: لم يتحرَّك ما دامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في البيت كراهيةَ أن يُؤذِيَه"؛ رواه أحمد.

وجميعُ المخلوقات سِوى العاصِي من الثَّقَلين يعلمُ أن محمدًا رسولُ الله، قال جابرٌ - رضي الله عنه -: أقبَلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفَرٍ، حتى إذا بلغنا إلى حائطٍ من حيطان بني النجار، إذا فيه جملٌ لا يدخلُ الحائطَ أحدٌ إلا شدَّ عليه - أي: هاجَ عليه - فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء حتى أتى الحائط، فدعا البعيرَ فجاء واضِعًا مِشفراه – أي شفتاه -، إلى الأرض حتى بركَ بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هاتُوا خِطامَه» فخطمَه ودفعَه إلى صاحبِه، ثم التفتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس وقال: «إنه ليس شيءٌ بين السماء والأرض إلا يعلمُ أني رسولُ الله إلا عاصِي الجنّ والإنس»؛ رواه أحمد.

ثم أن هذه الكائنات والجمادات مع عبوديتها لله تعالى وخضوعها له ومحبتها للنبي r وإيمانها به هي أيضا تحب المؤمنين وتواليهم وتستغفر لهم وتشهد لهم وتلبي بتلبيتهم فقد قال - عليه الصلاة والسلام -: «وإن العالِم ليستغفِرُ له من في السماوات ومن في الأرض، والحِيتانُ في جوف الماء»؛ رواه أبو داود.

وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما من مُسلمٍ يُلبِّي - أي: في الحجّ أو العُمرة - إلا لبَّى من عن يمينِه أو عن شِماله من حجرٍ أو شجرٍ أو مَدَرٍ - أي: طين - حتى تنقطِع الأرضُ من ها هنا وها هنا»؛ رواه الترمذي.

بل يصل الأمر أن السماء والأرض قد تبكي حُزنًا على فراقِ المؤمن، قال - سبحانه - عن قوم فرعون: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾  قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "إذا فقدَ المؤمنُ مُصلاَّه من الأرض التي كان يُصلِّي فيها ويذكُر الله فيها بكَت عليه السماءُ والأرض".

وأما العُصاةُ والفجار فإن المخلوقاتِ تتأذَّى منهم، وإذا ماتوا استراحَت منهم؛ مُرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازةٍ فقال: «مُستريحٌ ومُستراحٌ منه». قالوا يا رسول الله! ما المُستريحُ والمُستراحُ منه؟ قال: «العبدُ المؤمنُ يستريحُ من نصَب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبدُ الفاجرُ يستريحُ منه البلاد والعباد والشجرُ والدوابُّ»؛ متفق عليه.

والشركُ بالله أعظمُ الذنوب، وإذا سمِعَت الجماداتُ شركًا بالله تعالى فزِعَت تعظيما لله ، قال - سبحانه -: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴾ قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "أي: يكادُ يكونُ ذلك عند سماعِهنَّ هذه المقالة من فجَرة بني آدم إعظامًا للربِّ وإجلالاً له؛ لأنهم مخلوقاتٌ ومُؤسَّساتٌ على توحيده".

 أقول قولي ....

 

 

 

 

 

 

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.

أيها المسلمون: إن للكائنات من غير الثقلين من الحيوانات والنباتات والجمادات إدراكا وعقلا وتمييزا يعينها على تحقيق عبوديتها لخالقها جل وعلا، والقيام بعبادات تقربها إلى الله تعالى من التسبيح والسجود وغيرها من العبادات التي جاءت بها الأدلة المثبتة لها، وإن عدم إدراكنا نحن البشر وعدم فهمنا لحقيقة عبادة تلك الكائنات لا يدل على عدم عبادتها إذ أن خالقها هو من أخبرنا عن ذلك بقوله:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ }

يا عباد الله هذه الكائنات من البهائم والدواب والجمادات تعبد الله وتخشع له وتخضع ولا تجرأ على مخالفة أمره ومعصيته رغب عدم ثوابها

 

 

والإنس والجن قد أمرهم الله ونهاهم ووعدهم بالثواب لمن أطاعه وبالعقاب والعذاب لمن عصاه ورغم ما ميزهم الله بالعقل والادراك وما أسبغ عليهم من النعم والخيرات إلا أن كثيرا منهم لم يعبد الله حق عبادته ولم يشكره حق شكره فاتقوا الله عباد الله وأطيعوا أمره واجتنبوا نهيه واعلموا أن من ورائكم يوما عظيما أنتم مدركوه لا محاله وأنتم فيه مجزيون بأعمالكم ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره....

ثم اعلموا أن الله أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: ﴿ إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا ﴾

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين

المشاهدات 1174 | التعليقات 0