عُبُودِيَّةُ القَلْب

عبدالعزيز بن محمد
1443/09/13 - 2022/04/14 07:14AM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ (رواه مسلم)
• (ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)
• (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)
• ( ياأيها الذي أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)
أيهاالمسلمون: عُرْوَةُ اللهِ الوُثْقَى.. إِيمانٌ باللهِ وَكُفْرٌ بالطاغوت، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
الإيمانُ باللهِطُمأنينةٌ، والرضا بالله أُنْس. والعُبُوديةُ.. هي حَقُ اللهِ على العباد، ولا يَزالُ العبدُ يَتَزَلَّفُ إلى رَبِهِ بصالحِ الأَعمالِ وَخَالصِالقُرُباتِ، حتى ينالَ مِن الله أَسْمَى مُناه.
والعبادةُ.. هي حبلُ الوِصَالِ، مَنْ وَصَلَها وُصِل، من قطعها قُطِع، هي الغايةُ التي خُلِقَ لأجلِها الجِنَّةُ والناسُ، وهي الرسالةُ التي بُعِثَ بها المرسلون{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}
العبادةُ.. هي كلُّ ما يُـحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِنَ الأَقْوالِ والأَعمالِ الظاهرةِ والباطنةِ. فَمَن أَخْلَصَ للهِ في عبادَتِه فهو على صراطٍ مُسْتقيم، وَمَنْ استَكْبَرَ عَن الحَقِّ، واسْتَنْكَفَ عَن عبادَةِ اللهِ، فإِنَّ مَرْجِعَهُ لإلى الجحيم {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ}
عباد الله: وعبادةُ القلبِ هي أَصْدَقُ العباداتِ وأزكاها، وليس للجوارح عبادةٌ دونَ عبادةِ القلب، فالقلبُ هو المخاطبُ بالتكاليفِ الشرعيةِ أولاً، وسائرُ الأعضاءِ له تبع، تَصْلُحُ بصلاحه، وتفسدُ بفساده، "ألاَ وَإنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، ألاَ وَهِيَ القَلْبُ». متفقٌ عَلَيهِ
فالهدايةُ هدايةُ القلبِ، والزيغُ زَيْغُهُ {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} والبصيرةُ بَصِيْرَةُ القَلْبِ، والعَمَى عَمَاهُ{فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} والإثمُ إِثْمُ القلبِ والتَّقْوى تَقْوَاهُ، وعَمَلُ القَلْبِ هو ما يُؤَاخَذُ بِهِ العَبْدُ ويُـحَاسَبُ عليه {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}
والقلبُ.. هو مَـحَطُّ نَظَرِ الرحمنِ، يُرحَمُ العبدُ بصلاحِ قلبِه، ويُبْعَدُ بفساده، «إنَّ الله لا ينْظُرُ إِلى أجْسَامِكُمْ، ولا إِلى صُوَرِكمْ، وَلَكن ينْظُرُ إلى قُلُوبِكمْ وأعمالكم»رواه مسلم
وصلاحُ الظاهر لا يُغني عَن صَلاحِ القَلْبِ، ولا يكون العبدُ صالحاً إلا بصلاحِ قلبهِ أَولاً{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا} .
أيها المسلمون: وكُلُّ عِبادةٍ مِن عباداتِ الجوارحِ، فللقلبِ المقامُ الأولُ والأكبرُ فيها. بَل إن عبادةَ الجوارحِ لا تَصِحُّ ولا تَصْلُحُ إلا مقترنةً بعبادة القلبِ من نيةٍ وإخلاص، فلا قَبُوْلَ لِعِبَادَاتِ الجوارحِ مَهْمَا عَظُمَتْ، إلا بصلاحِ النيةِ وإِخْلاصِها "إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِىءٍ مَا نَوَى" متفق عليه
وعباداتُ القلوبِ هي التي تُزَكِي عِبَادَاتِ الجوارحِ وتُطَيِّبُها، وهي التي تَرْفَعُ مَقَامَها وتُضَاعِفُ عِنْدَ اللهِ ثَوابَـها.
فالصلاةُ عِبادةٌ عَظِيْمَةُ.. ظَاهِرُها أَعمالُ الجوارِحِ..مِنْ قِيامٍ وَسُجودٍ ورُكُوع، وباطنها أعمالُ القلبِ من إيمانٍ وإخلاصٍ وخُشوع.
* والصيامُ عبادةٌ عظيمةٌ.. ظاهرها إمساكُ الجوارِحِ عن المُفَطِرات، وباطنُها عبادةُ القلب.. من إيمانٍ واحتِسابٍ وتَقوى. وباقترانِهِما تُكفرُ عن الصائمِ السيئات.
وقراءةُ القرآنِ مِنْ أَجَلِّ القُربات.. ظاهرها تلاوةٌ باللسان، وباطنها تَدَبُرٌ بالقلبِ واستجابَةُ وإيمان {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}
إِنها عُبُودِيَّةُ القَلْبِ.. لا تَنْفَكُ عَنْ عِبادَةِ مِنَ عباداتِ الجوارِح، وبِكمالِ عُبودِيَّةِ القلبِ تُرْفَعُ للعبدِ الدرجات قال ابن القيم رحمه الله: "فإنَّ الأَعمالَ لا تَتَفَاضَلُ بِصُوَرِها وَعَدَدِهَا، وإنما تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ ما في القُلُوْبِ، فَتَكُوْنُ صورةُ العَمَلَيْنِ واحِدَةٌ، وَبينهما في التَّفَاضُلِ كما بينَ السماءِ والأرض، والرجلانِ يكونُ مَقَامُهُما في الصفِّ واحداً، وبَيْنَصَلاتَيْهِما كما بين السماء والأرض" ا.هـ
وأَنبياءُ اللهِ المُقَرَّبين أَعلَمُ الناسِ بِرَبِهِم. حققوا العِبادَةَ في جوارِحِهمْ، وأقاموها في قلوبِهم {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}بارك الله لي ولكم بالقرآن ..

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي المؤمنين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمامُ المرسلين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد: فاتقوا الله عباد الله .. وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: عبادةُ القُلُوبِ عبادةٌ خفيةٌ.. لا يَطَّلِعُ عليها إلا الله. فهي أَخلَصُ الأعمال وهي أزكاها. وبِصلاح عبادةِ القلبِ صَلاحٌ لكُلِّ عَمَل. وأَوجَبُ ما يَجِبُ على المُكَلَّفِ أَن يتعاهَدَ عبادةَ قَلْبِه. ومَرْتَبَةُ الإحسانِ هي أَعْلَى مَرَاتِبِ الدِّينِ.. وهي عبادَةٌ قلبيةٌ. يَسْتَشْعِرُ فيها العبدُ دوامَ مراقبةِ اللهِ لَه، واطلاعِه عليه، وإحاطَتِهِ بأحوالِه، وقُدْرَتِهِ عليه. وفي حديثِ جبريلَ عليه السلام (قالَ: فأخْبِرْنِي عَنِ الإحْسانِ، قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ) رواه مسلم
إحسانٌ.. ما اقتَرَن في عَمَلٍ إلا أَصْلَحَه. وكَيْفَ لا يَصْلُحُ عَمَلُ مَن استحضَرَ مراقَبَةَ الله لَه{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}
عباد الله: وكما أن للقلوبِ عباداتٌ وقُرُباتٌ.. كالإيمانِ والإخلاصِ والاحتسابِ والخوفِ والرجاءِ والرغبةِ والرهبةِ والخشوعِ والخشيةِ والإنابةِ والتَّفَكُرِ والتَّدَبُّرِ، والحبِّ والبغضِ.. وغيرُها. فإِنَّ للقُلُوبِ معاصٍ وخطيئاتِ يجبُ الحذرُ منها ومِن اقترافِها.. وقد أمر اللهُ العبادَ أَنْ يَجْتَنِبُوا مَعَاصِي القلوبِ، كما أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْتَنِبُوا مَعَاصِي الأَبْدَان. {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ}
وما هّذَّبَ عبدٌ قلبَه بِمِثْلِ تَدَبُّرِ القرآن. وما هُيئَ للقُلُوْبِ مَيْدَانٌ للإصلاح مِثلُ مواسِم الخيراتِ التي تكون القلوبُ بها مِن رَبِها أَقرَب. فازَ مَن إلى دَرْبِ الرَّشادِ هُدِي. * تُصانُ القلوبُ من طوارِقِ الشبهاتِ التي إِن تغلغلت في القلوبِ أفسدَتها. وإِن اسْتَحْكَمَتْ فيها أَضلَّتها.
تُشْرَعُ أبوابُ القلوبِ.. أمامَ تدبر القرآنِ وتَفَهُّمِ السُّنةِ، وأَمامَ كُلِّ قولٍ ورأيٍ قويم. وتوصَدُ أبوابُ القلوبِ أَمامَ أربابِ الهوى ودُعاةِ الزَّيغِ وأَئمةِ الإضلال {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..}
وكما أَن للأبدانِ صيامٌ، فإن للقلوبِ صيام. وصيامُ القلبِ أَنْ يَكُفَّ عن المنكرِ، وأَن يَمْتَنِعَ عَن الحرام. يَصومُ القلبُ عَن معاني الشرك بكافةِ صورِهِا وخفاياها. يَصومُ عن الرياءِ وعن السمعةِ وعن العُجبِ وعن النِفاق، وعن الغرورِ، وعن الغِلِّ، وعن الكِبْرِ، وعن الحقدِ، وعن الحَسَدِ، وعن غيرها من خطايا القلوبِ المهلِكة. لِيَبْقَى القلبُ في عبوديةٍ وطُهرٍ ونقاء.
ولا يزالُ القَلْبُ تَعرِضُ أَمامَهُ دواعي الحرامِ، فَيُشِيْحُ عَنها خائفاً راجياً. حتى يَتَبَوَّأ من التقوى أكرمَ مقام، {..أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}
عَنْ مُجاهِدٍ رحمه الله قال : (كُتِبَ إِلى عُمَرَ: يَا أَمِيْرَ المؤمنينَ، رَجُلٌ لا يَشْتَهِيْ المعْصِيَةَ ولا يَعْمَلُ بِها، أَفْضَلُ؟ أَمْ رَجُلٌ يَشْتَهِي المعْصِيَةَ ولا يَعْمَلُ بِها؟ فَكَتَبَ عُمَرُ رضي الله عنه : إِنَّ الذين يَشْتَهُوْنَ المعْصِيَةَ ولا يَعْمَلُونَ بِها {..أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}) {..وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}اللهم حبب إلينا الإيمان ..

المرفقات

1649935276_عبودية القلب.doc

المشاهدات 1154 | التعليقات 0