(عبودية الصلاة حكم وأسرار) تهذيب واختصار لرسالة: أسرار الصلاة لابن القيم
عبدالرحمن اللهيبي
أما بعد
فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الصلاة قرةُ عُيون المحبين ، وأنس أرواح الموحدين ، ولذة نفوس الخاشعين ، ومحك أحوال الصادقين ، و هي رحمةُ الله المهداةُ إلى عباده المؤمن .
وإن من أجل ما أكرمنا الله به من العبادات أن هدانا إلى عبودية الصلاة ، تفضَّلا علينا ، ورحمة بنا ، ودون حاجة من الله لنا، بل لننال بالصلاة شرف عبوديته ، والصلة بقربه ، كيف والصلاة هي الصلة بين العبد وربه.
واعلموا يا مسلمون أن سرَّ الصلاةِ ومقصِدَها هو إقبال القلب فيها على الله ، وحضورُه بين يديه ، فإذا لم يقبل العبد في صلاته على ربه، واشتغل بغيره، والتهى بوساوس نفسه ، كان كمن جاء إلى ملك من ملوك الدنيا ،
فلما وقف بين يديه ولم يبق إلا سؤالُ حاجتِه ، التفت هذا الرجل عن الملك ساهيا عنه وغير مبال به، والملك يشاهد هذا الرجلَ المتغافلَ عنه ، فهل سينال هذا الرجلُ من الملك حاجته؟
أما والله إن هذا لهو حال كثير من المصلين مع ربهم وهو الجليل العظيم وهو الكبير المتعال وهو ملك الملوك جل في علاه
فإذا استقبلت القبلة يا عبد الله فاستقبل الله بقلبك ، وقف بين يديه موقفَ المتذللِ المستعطف لسيِّده ، وكن خاشعَ القلب مُطرقَ الطرف ، فلا يلتفت قلبك عن ربك ومولاك وكيف تلتفت عنه والله جل جلاله قِبَلَ وجهك
فقد قال صلى الله عليه وسلم: إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ . فهل يستحضر العبدُ هذه العظمةَ عند قيامه بين يدي الله
فإذا قلت (الله أكبر) مكبرا تكبيرة الإحرام فليكن الله في قلبك أكبرُ من كلِّ شيء ، فإذا اشتغلت بشي عن الله .. فهل ذلك الشيء عندك أكبرُ من الله ؟
ثم إذا أخذت في القراءة فقدَّم أمامها الاستعاذةَ لقوله تعالى: ((فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)) فإن الشيطان أحرص ما يكون على خُذلان العبد في مثل هذا المقام ، والذي هو أشرفُ مقامات العبد وأنفعُها له في دنياه وآخرتِه ..
فأنت تستعيذ بالله منه ليسلم لك مقامُك بين يدي الله وحتى يستنير قلبك بتدبر كلامِه جل في علاه .
فإنه لا طاقة لك بوساوس هذا العدو الحاسد إلا بالالتجاء إلى الله ، فإذا أعاذك الله منه فقد أفضى قلبك إلى معاني القرآن ، وشاهدت من عجائبه ما يبهر العقول ويدهش الألباب.
ثم إذا شرعت في صلاتك بقراءة القرآن ، فقد شرعت في مناجاة ربِّك ، فاحذر كل الحذر من أن تناجيَه وقلبك معرِض عنه ، ملتفت إلى سواه ..
ثم إذا ركعت فاستشعر أنك تخفض رأسك وتحني صلبك خضوعاً وتعظيما لله ، واستكانة لهيبته وتذللا لعزته..
فيجتمع حينها في الركوع خضوع القلب ، وخضوع الجوارح ، وخضوع القول ، وتمام عبودية الركوع أن يستوي الراكع في ركوعه ، مطمئن في خضوعه .. ناطقاً بتسبيحه ، المقترن بتعظيمه.
ثم إذا رفعت من الركوع معتدلا فاحمد الله قائلا: ربنا ولك الحمد ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطيلُ هذا المقام كما يطيل القيام والركوع والسجود ، و يُكثر فيه من الحمد والثناء والتمجيد لله .
روى البخاري عن رفاعةَ بنِ رافعٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي ورَاءَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ، قالَ رَجُلٌ ورَاءَهُ: رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قالَ ﷺ : مَنِ المُتَكَلِّمُ قالَ: أنَا، قالَ ﷺ: رَأَيْتُ بضْعَةً وثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أوَّلُ.
ثم إذا هويت لربك ساجدا ، فاستشعر أنك تضع أشرف ما فيك ـ و هو وجهك ـ بالأرض ، متذلِّلاً لعظمة ربك ، خاضعاً لعزَّته ، منيباً إليه ، منكسرا بين يديه ، راغما له أنفك ، خاضعا له قلبك ، فيسجد القلب للرب كما يسجد الجسد ، وقد سجد معه جبينك وأنفك ، ويداك وركبتاك ، وأصابعُ قدماك ، وقد شُرع للعبد أن يجافي فخذيه عن ساقيه ، وبطنَه عن فخذيه ، وعَضُديه عن جنبيه ، ليأخذ كل عضو منه حظّه من الخضوع في السجود لله ، لا يحمل بعضُه بعضاً كما أشار إلى ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه أسرار الصلاة
ثم إذا شرعت في الرفع من السجود ، واعتدلت لله جالساً ، فاعلم بأن لهذا الجلوس شأن عظيم فالعبد في هذا القعود يتمثَّل بين يدي ربه جاثيا ، راجيا مغفرته ورحمته .. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل الجلوس بين السجدتين بقدر السجود يتضرع فيه إلى ربه قائلا: ((اللهم اغفر لي، وارحَمْني، واهدِني، وعافِني، وارزُقْني))
وهذه الخمس كلمات ، قد جمعت خيري الدنيا والآخرة
وعليه فإن العبد لو كان يُحضر قلبه حين يدعو بها دائما فإنه سينال بها كل خير في دنياه وأخراه
ثم شرع للعبد أن يعودَ ساجداً كما كان ، و لا يكتفي بسجدة واحدة كما اكتفى بركوع واحد ؛ وذلك لفضل السجود وشرفه وقرب العبد فيه من ربِّه ، فإنَّ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ..
وهكذا يُشرع للعبد تكرارُ هذه الأفعالِ والأقوال في كل ركعة من ركعات الصلاة؛ إذ هي غذاء القلب والروح وفيها لذائذ العبودية والمناجاة لله، وفيها انشراح صدر.. وزوال هم .. ومغفرة ذنب .. وزيادة إيمان ورفعة درجات
فالصلاة هي حكمة الله في تشريعه التي أدهشت عقولَ أهل العلم والإيمان . أقول قولي ....
عباد الله : وفي ختام الصلاة يُشرع للعبد الجلوسُ في آخرها يلقي على ربه التحيات فيقول: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ والصَّلَوَاتُ والطَّيِّبَاتُ ؛ والمعنى أن جميع أنواع التحايا والصلواتِ أرفعها في هذا المقام لله ، وله أيضا الطيبات من الكلمات والأقوال والأفعال ..
ثم شُرع له بعدها أن يسلِّم على النبي ﷺ قائلا: السَّلَامُ عَلَيْكَ أيُّها النبيُّ ورَحْمَةُ اللَّهِ وبَرَكَاتُهُ، فبعد تحية الخالق جل في علاه تأتي التحية على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ثم على سائر عباد الله الصالحين فيقول: السَّلَامُ عَلَيْنَا وعلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، ويدخل فيهم جميع الأنبياء والملائكة ، والصحابة ، وكافةُ أتباعِ الأنبياء، وكل عبد صالح في الأرض والسماء. لما رواه البخاري عن النبي ﷺ أنه قال: (فإنَّكُمْ إذَا قُلتُمُوهَا أصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ في السَّمَاءِ والأرْضِ) ويكون له بذلك أجرُ السلام على كل واحد منهم، وهم خلق لا يحصيهم إلا الله ، فيا له من فضل عظيم وثواب جزيل
ثم شرع للمصلي أن يشهد شهادة التوحيد فيقول: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسولُهُ
ثم شرع للعبد بعدها أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الصلاة الإبراهيمية ، ثم يتخير بعدها من الدعاء ما يشاء، وهذا الموطن من أعظم المواطن التي يرجى فيها إجابةُ الدعاء، وذلك لأن الدعاء جاء بعد قيام وركوع وسجود وجلوس، وبعد تلاوة ومناجاة وأذكار وأوراد وتسابيح، وبعد تحية لله وشهادة له بالتوحيد، وبعد صلاة وسلام على رسول الله فما أرجاه من دعاء لله، وما أحراه بالإجابة يتحقق فيها للعبد مُناه.. هذا وصلوا ..