عبر من خبر إبراهيم عليه السلام

د. منصور الصقعوب
1444/04/02 - 2022/10/27 16:24PM

  

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

في أخبار الرسل عبرة وموعظة وذكرى وحكم، وتسلية وتثبيت لقلب النبي < الذي أنزل عليه القرآن ولأمته.

وحديث اليوم هو نبي من أنبياء الله, من أولي العزم من الرسل, ورد ذكره في القرآن كثيراً, وصفه الله بالخلة وهي أعلى منازل المحبة فقال (واتخذ الله إبراهيم خليلاً)

وأثنى على من اتبع ملته فقال (واتبع ملة إبراهيم حنيفاً)

وصفه الله بأنه أوه, والأواه هو كثير التأوه؛ لكمال رأفته وشفقته ورحمته بنفسه وبغيره

وبأنه منيب, والمنيب هو الرجاع إلى الله بمعرفته ومحبته، والإقبال عليه، والإعراض عمن سواه

وبأنه قانت, وأنه حليم, وأنه حنيف, وشاكر, وصديق

وأثنى عليه ربه بأنه أُمّة فقال (إن إبراهيم كان أمة) أي: إمامًا جامعًا لخصال الخير، هاديًا مهتديًا

هذا النبي الكريم جاهد في سبيل الله والدعوةِ إلى عبادة الله وحده, ومقاومة الشرك والمشركين، معرّضا نفسه للهلاك مضحياً بكل شيء في سبيل الإيمان والتوحيد, فكانت حياته مليئةً بالتضحية والتجرد له.

بُعِث إبراهيم عليه السلام في بيئة مليئة بالشرك والضلال, فلما رأى ضلال قومه دعاهم لعبادة الله وحده، ويقص الله علينا نبأه في كتابه فيقول سبحانه: ( ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين* إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون* قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين* قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين* قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين* قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين)[الأنبياء:51-56].

أراد نبي الله إبراهيم أن يحرر قومه من عبادة الأصنام، ليوصلهم إلى الحقيقة العظمى وهي عبادة الله وحده لا شريك له والتبرؤ من كل ما سواه

قال تعالى: (قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين* الذي خلقني فهو يهدين* والذي هو يطعمني ويسقين* وإذا مرضت فهو يشفين* والذي يميتني ثم يحيين* والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين)[الشعراء:75-82].

وهكذا يكون إيمان المستسلم لربه في كل جوارحه

اليقين أنه لا رازق إلا الله ولا شافي ولا محيي، ولا مميت، ولا غافر للذنب إلا الله رب العالمين.

عباد الله: سلك إبراهيم في سبيل الإصلاح كل طريق, بالمناظرة تارة, فناظر قومه, وحاجّ أباه, حين قال له بكل حنو وشفقة (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً)

وحاجّ الملك حين قال ربنا (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك...) كل هذا لأجل أن يُعبد الله وحده

ولم يكتف بالكلام والمناظرة, بل حطّم الأصنام بعد ذلك بيده, وهجر قومه وباطلهم برغم قلة أتباعه وكثرة خصومه.

عباد الله: سيرة هذا النبي الكريم مليئة بمشاهد العبرة.

فمن ذلك: أن الله رزقه الولد على كبر, والعادة جرت أن  الحصول على الذرية إنما يكون في فترة الشباب والكهولة لدى الرجل والمرأة بالذات, أما إذا كبر سناً وبلغت سن اليأس فلا أمل في حمل ولا ولادة.

لكن خالق الخلق يلغي السنن إذا شاء, فها هي زوجة إبراهيم عليه السلام كانت عقيماً لا تلد وقد تقدم بها السن، قال ربنا (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قآئمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد

- وحين اشتد الخصام والنزاع بين نبي الله إبراهيم عليه السلام وقومه بسبب دعوتهم إلى التوحيد قرر المجرمون أن يحرقوه بالنار، فأشعلوا ناراً عظيمة استمروا زمناً في إشعالها وتأجيجها وقالوا:(حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين)

وكان إبراهيم يؤمن بأن النار خاضعة لإرادة الله، إذا أراد الله أطلق لها العنان, وإن شاء حولها برداً وسلاما، فخاضها مؤمنا مطمئناً واثقاً وهو يقول حسبنا الله ونعم الوكيل فبقدرة القدير صارت النار لا تحرق: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين)

-واعتقد الناسُ أنه لا حياة إلا بالخصب والميرة والماء الغزير, فكانوا يختارون لسكنهم أراضي مخصبة تكثر فيها المياه، فأراد الله من نبيه إبراهيم أن يسكن في أرضٍ لا حياة فيها ولا أسباب عيش, اختار الله لأسرته إسماعيل وأمه هاجر وادياً لا زراعة فيه ولا ماء ولا تجارة، ودعا إبراهيم ربه أن يوسع لهم الرزق، ويعطف إليهم القلوب، ويجيء إليهم بالثمرات، فقال :(ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون )

فأجاب الله دعاءه فضمن لهم الرزق والأمن، وجعل بلدهم مَحطّاً للخيرات والثمرات والبركات إلى يومنا هذا (أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون)

- تركهم في أرض لا أثر لها لماء, فإذا بماء يفور ويتدفق من تلك الرمال ويفيض من غير انقطاع، يشربه الناس في سخاء، ويحملونه إلى بلدانهم حتى اليوم.

 وكان البلد لا أنيس فيه، فإذا به يصبح مكاناً يؤمه الناس من كل صوب، ويأتون إليه من كل فج عميق.

ألا ما أعظم قدرة الله وما أعظم رعايته وكرمه لأنبيائه ورسله وأتباعهم السائرين على نهجهم وطريقهم

 اللهم املأ قلوبنا بمعرفتك وحبك ..

 


 

الخطبة الثانية:

إن من عبر خبر إبراهيم عليه السلام أن إمامة الدين لا تنال إلا بالصبر واليقين، فإبراهيم عليه السلام لما صبر، وكان من الموقنين؛ صار إمامًا للعالمين, وقد قيل للشافعي: أيما خيرٌ....لا يمكن حتى يبتلى.

ومِن عبر خبره عليه السلام أن التضحية لأجل الله, جزاؤها العوض الكبير منه سبحانه, فالله امتحن إبراهيم بذبح ولده, فجاءه الأب على كبر سنّه إلى ابنه, وقال له بكل عزيمة مخبراً لا مستشيراً: ( إني أرى في المنام أني أذبحك ) ولم يكن ردُّ الابنِ الصالح بأغربَ من موقفِ أبيه ( يا أبت افعل ما تؤمر ) اصنع ما شئت, لن تجدني إلا مُسَلِّماً مذعناً ولك على امتثال أمر الله معيناً ( ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) ولما أراد ذلك وأَضجَعَ الأبُ ريحانته, ونجح إبراهيم في الابتلاء, وتجلى أن ليس في قلبه إلا ربُّه, ولا يزاحم حُبَّه لخالقه حُبّ, جاء الأمر من رب العالمين أن قد جُزت الابتلاء المبين, فأناله ربه جزاء تضحيته وسامَ خليلِ الرحمن, وفدى ابنه بالقربان, وقال الرحمن في محكم التبيان (وناديناه أن يا ابراهيم*قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين *وفديناه بذبح عظيم)

قال ابن القيم عنه: ولدُه للقربان, وجسدُه للنيران, ومالُه للضيفان, فاستحق أن يكون خليل الرحمن

إنه درس عظيم أنه بقدر بَذلِك لأجل الله يأتيك العوض, فكم نبذل لأجل الله, وبماذا ضحينا لأجل رضاه.

كم هي المُتَعُ عندنا والمعاصي التي تبعدنا عن ربنا, ونحن لسنا مستعدين أن نضحي بها لأجل الله, وإبراهيم أراد أن يضحي بولده لأجل ربه, وضحى ببلده فخرج منها لينشر دين ربه (وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين), فجاءه العوض الكبير من ربه, وجعل النبوة بعده في عقبه (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب)

ومن عبر خبر إبراهيم عليه السلام أن المرء لا يأمن البلاء, بل يدعو أن يسلمه من الشرك صغيره وكبيره, لم يقل إبراهيم إني نبي فأنا من الشرك سالم, بل قال (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) لذا قال التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم.

ومن عبر خبر إبراهيم عليه السلام أن الأمور تقاس بالبركة لا بالكثرة الظاهرة, فإذا أحلّ ربك البركة فلا تسل حينها, فإبراهيم عليه السلام رزقه الله بولدين وعلى كبر, فبارك الله عليه وعليهما, فصار إسماعيل أبو العرب جميعاً, وإسحاق أبو الروم جميعاً, ولم يأت نبي بعده إلا وهو من نسله.

ومن عظيم دعوات إبراهيم عليه السلام التي لا ينبغي أن تغيب عنا (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب)

وبعد: فذلكم تعريج يسير على حياة أبينا إبراهيمَ عليه السلام, الذي نلهج باسمه في كل صلاة وتشهد, والذي جعل الله لنا به أسوة, فاللهم اجمعنا به وبنبينا عليه السلام في الجنة

 

المشاهدات 669 | التعليقات 0