عِبَرُ الزِّلزالِ وآياتُه

عبدالمحسن بن محمد العامر
1444/07/18 - 2023/02/09 11:51AM
  1. الحمدُ لله يَحْكُمُ ما يشاءُ ويفعلُ ما يريدُ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له الحميدُ المجيدُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ ذو الرأيِ السديدِ، والأمرِ الرشيدِ، صلى الله وسلمَ عليه وعلى آله وصحبهِ ومَنْ تبعهم بإحسانٍ وتأييدٍ؛ إلى يومِ البعثِ الأكيد..

أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ؛ ففي التقوى نجاةٌ وسلامةُ، وأهلُها همْ أهلُ العزِّ والكرامةِ "وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"

معاشرَ المؤمنين: مشهدٌ رأتُه العيونُ، ووثّقتُه العدساتُ، أذْهلَ البشرَ، وأقضَّ المضاجعَ، وأبكى العيونَ، وأدمى القلوبَ؛ ذكَّرَ أولي البصائرِ بمشهدٍ مِنْ مشاهدِ يومِ القيامَةِ، وقَرَّبَ صورةً طالما قرأناها في كتابِ اللهِ مراراً وتكراراً؛ إنّه مشهدُ زلْزلةِ الأرضِ، وتَحرُّكِ الجبالِ وزوالهاِ، وتسويةِ الأرضِ حتى تكونَ قاعاً صفصفا.

ذَكَرَ اللهُ في كتابهِ العزيزِ زلْزلةَ الأرض فقال جلَّ شأنه "إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا" وقالَ جلّ جلالُه "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ" وقالَ سبحانه "إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا" ففي هذه الآياتِ وغيرِها إخبارٌ ربّانيٌّ عن حدثٍ عظيمٍ مُذهلٍ؛ رأينا جُزءاً يسيراً جدّاً منه في الزلزالِ الذي وقعَ في شمالِ سوريّا وجنوبِ تُركيَا قبل عِدّةِ أيامٍ؛ فهل مِنْ مٌعتَبِرٍ ومدَّكرٍ؟ وهل مِنْ مزدجرٍ ومُتّعظٍ ؟ فما لنا مِنْ عُذرٍ؛ فقدْ كانتَ الأحداثُ المشابهةُ لهذا الحدثِ قديماً تُنْقَلَ أخباراً وروايةً، وأمَّا الآنَ فقدْ شاهدنا ورأينا الحدثَ بأمِّ أعيُنِنا، وتكررتْ علينا المناظرُ والمشاهدُ حتى تشبَّعنا منها ألماً وهَوْلاً.

ولنا مع هذا الحدثِ الجللِ، وهذه الكارثةِ العظمى هذه الوقفاتُ:

الوقفةُ الأولى: المسلمونَ جسدٌ واحدٌ‘ ولُحمةُ الدينِ بينهم أقوى رابطٍ، ومن هذا المنطلق فقد وجّه خادمُ الحرمين الشريفينِ الملكُ سلمانُ بنُ عبدِ العزيزِ ووليُّ عهده الأمينُ محمدُ بن سلمانِ بنِ عبدِ العزيزِ ـ حفظَهما الله ـ بتنظيمِ حملةٍ شعبيّةٍ عَبْرَ منصَّةِ "ساهم" لمساعدةِ ضحايا الزلزالِ، وإجراءاتُ التّبرعِ في هذا الزمنِ أصبحتْ ميسورةً، مِن خلالِ تطبيقاتِ البنوكِ، ومواقعِها على الشبكةِ العالميةِ، والصرّافاتِ، فاللهَ اللهَ قفوا معَ إخوانِكمْ، وساندوهم، بما تقدرون، ولو باليسيرِ، واستجيبوا لدعوةِ وليِّ أمرنا ـ حفظه اللهُ ـ فقد عَرَفَ العالمُ كُلُه أهلَ هذه البلادِ بالجودِ والبذلِ والعطاءِ، ودائماً كانوا سبّاقينَ مبادرينَ أوفياء. وتذكّروا قولَ اللهِ جلَّ جلالُه "وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ" وقولَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ "مَن نَفَّسَ عن مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِن كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، وَمَن يَسَّرَ علَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عليه في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَن سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ في عَوْنِ العَبْدِ ما كانَ العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ" رواه مسلمٌ.  كتبَ اللهُ أجْرَكمْ، وعظّمَ الخُلفَ لكم، ووقاكُم الحوادثَ والفواجعَ والكوارثَ.

الوقفةُ الثانيةُ: "وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً" يتجلّى معنىً عظيمٌ من معاني هذه الآيةِ في هذا الزلزالِ وغيرِه مِن الزلازلِ، فمَعَ تقدّمِ العلمِ الكبيرِ، ومع سَعَةِ الاكتشافاتِ التي وصلتْ أعماقَ البحارِ، وطبقاتِ الأرضِ، وآفاقَ السماءِ؛ إلا أنَّ الإنسانَ مازالَ عاجزاً عن التّنبُّؤَ بوقوعِ الزلزالِ، ومتى يحدثُ، وفي أي بقعةٍ مِنَ الأرضِ يصيرُ، وهذا مما يوجبُ علينا الإذعانَ والتسليمَ بضعفنا نحن البشر، وقلَّةِ علمنا، وعدمَ الاغترارِ والزّهوِّ بما وصلنا إليه مِنْ مخترعاتٍ واكتشافاتٍ.

الوقفةُ الثالثةُ: تجلَّى لنا معنىً عظيمٌ مِنْ معاني قولِه تعالى عن الساعةِ: "لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً" وقدْ وصفَ ذلكَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ فقالَ "ولَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وقدْ نَشَرَ الرَّجُلانِ ثَوْبَهُما بيْنَهُما، فلا يَتَبايَعانِهِ ولا يَطْوِيانِهِ، ولَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بلَبَنِ لِقْحَتِهِ، فلا يَطْعَمُهُ، ولَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وهو يَلِيطُ حَوْضَهُ، فلا يَسْقِي فِيهِ، ولَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وقدْ رَفَعَ أحَدُكُمْ أُكْلَتَهُ إلى فِيهِ، فلا يَطْعَمُها" رواه البخاريُّ. وهذا يوجبُ علينا الاستعدادَ الدائمَ والتهيّؤ المستَمرَّ للقاءِ الله تعالى، فالساعةُ بغتةٌ، والأجلُ بغتةٌ.

الوقفةُ الرابعةُ: "وما نرسلُ بالآياتِ إلا تخويفاً" قالَ ابن كثيرٍ؛ قالَ قتادةُ إنَّ اللهَ خوَّفَ الناسَ بما يشاءُ مِنْ آياتهِ لعلّهم يعتبرونَ ويذَّكَّرونَ ويرجعونَ؛ ذُكِرَ لَنا أنَّ الكوفةَ رَجَفَتْ على عهدِ ابنِ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ فقالَ يا أيُّها الناسُ: إنَّ رَبَّكمْ يَسْتَعْتِبَكُمْ فأعْتِبُوه.
وهكذا رُوي أنَّ المدينةَ زُلْزِلَتْ على عهدِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ ـ رضي الله عنه ـ مَرَّاتٍ؛ فقالَ عمرُ: أحدثْتُمْ واللهِ؛ لَئِنْ عَادَتْ ـ أي الزّلْزلةُ ـ لأفعلنَّ ولأفْعَلَنَّ، وكذا قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في الحديثِ المتَّفقِ عليهِ "إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتانِ مِنْ آياتِ اللهِ، وإنَّهما لا ينكسفانِ لِموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، ولكنْ اللهَ ـ عزَّ وجلَّ ـ يُرسلُهما يُخوِّفُ بِهمَا عبادَه، فإذَا رأيتمْ ذلك فافزَعُوا إلى ذِكْرِهِ ودعائهِ واستغفارِه.

 ثمَّ قالَ: يا أُمَّةَ مُحمدٍ: واللهِ مَا أحدٌ أغيرُ مِنَ الله أنْ يَزْنِيَ عبدُه أوْ تُزْنِيَ أمَتُه، يا أُمَّةَ محمدٍ: واللهِ لو تَعلمونَ مَا أعْلَمُ؛ لضحِكْتُمْ قليلاً ولبكيتُمْ كثيراً".

بارك اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنَّة ونفعنا بما صرفَ فيهما مِنَ الآياتِ والحكمةِ.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ القويِّ القاهرِ، والشُّكرُ للهِ العظيمِ القادِرِ، وأِشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له الكريمُ الشَّاكِرُ، وأشهدُ أنْ محمداً عبده ورسولُه؛ صلى الله وسلمَ عليه وعلى آله وصحبِه ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ تُبعَثرُ المقابرِ..

أمَّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ اتقوا اللهَ " الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ "

معاشر المؤمنين:

الوقفة الخامسة: الدعاءُ والتّضرُّعُ عندَ نزولِ البأساءِ والضرّاءِ؛   سبيلُ النّجاةِ، وحَبْلُ الخلاصِ، ومُلْتَجأُ العِبادِ عندَ الفزعِ والهلعِ وضيقِ الحِيَلِ وانقطاعِ الرجاءِ بالخلقِ "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ"

ولنحذرْ مِنَ الغفلَةِ عن الدُّعاءِ، خاصّة في أيامِ البأسِ والشدّةِ؛ فذلكَ ليسَ مِنْ خُلُقِ المؤمنينَ، ولا مِنْ سلوكِ المسلمينَ، وذلكَ سبيلُ القاسيةِ قلوبُهمْ، الذينَ زيّنَ لهم الشيطانُ سوءُ أعمالِهم "فلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"

 اللهمَّ إنَّا نَستَودِعَكَ جَميَع المسلمينَ والمسلماتِ فِي كُلِّ مَكانٍ وزَمَانٍ، اللهمَّ اجعلْ مَا أَصابَ إخوانَنا في تُركيا وسُوريا خَيراً ونِعمةً عَليهم، اللهمَّ احفظْهُم وأَنتَ خَيرُ الحَافظينَ، اللهمَّ ارحمْ مَوتَاهم، واشفِ مَرضَاهم، وثَبِّتْ قُلوبَهم، وَأبدِلهم خَيراً مما فَقَدوا، اللهمَّ يَا حَيُّ يا قَيومُ بِرَحمتِكَ نَستغيثُ، أَصلحْ لَنا شَأنَنا كُلَّهُ ولا تَكلنا إلى أَنفسِنا ولا إلى أَحدٍ من خَلقِكَ طَرفةَ عَينٍ، ولا أَقلَ مِن ذَلكَ، رَبَّنا اصرفْ عَنَّا السُّوءَ والفَحشاءَ، وكَيدَ الأعداءِ، اللهمَّ إنَّا نَسألُكَ أن تَجعلَنا آمنينَ في أَوطانِنا، اللهمَّ بَاعدْ بَينَنا وبينَ الزَّلازلِ والمحنِ، واجعلنا آمنينَ مُطمئنينَ وسَائرَ المسلمينَ، اللهمَّ وفِّقْ ولاةَ أمرِنا لما تُحبُّ وتَرضى، وخُذْ بنَاصيتِهم للبِرِّ والتَّقوى، واجزِهم عَنَّا خَيرَ الجَزاءِ على مَا يُقدِمونَه للمُسلمينَ في كُلِّ وَقتٍ وحِينٍ يا رَبَّ العَالمينَ.

هذا وصلوا وسلموا على مَنْ أمَرَكم بالصلاةِ والسلامِ عليه اللهُ إذ يقولُ: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"

 

 

المشاهدات 1057 | التعليقات 0