عَبَرَاتٌ فِي عُمْرَةِ القَضَاءِ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1441/03/17 - 2019/11/14 18:38PM

 الحمدُ للهِ نحمدُك اللهم      

لك الحمدُ بالمزيدِ على المُنى


 

كفيلاً لنا أشهى من المَنِّ والسلوى


ونشكرُك اللهم شكرَ موفَّقٍ

 

نُبَرُّ به مِن دونِ جَحْدٍ ولا شَكوى

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللُه وحَده لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلمَ عليه تسليمًا كثيرًا، أما بعد: فلنتقِ اللهَ، فهي العُدّةُ وعليها العِدَة.

تخيَّلْ نفسَكَ مُنعتَ عن الذهابِ لمكةَ سبعَ سنوات متتالياتٍ، ثم إن الشوقَ العظيمَ دعاكَ للذهابِ للعمرةِ، مع أن الطريقَ مخيفةٌ، كيف سيكون قلبُك وأنت تلبسُ لباسَ الإحرامِ؟! وهل ستَملِكُ عينيكَ، وأنت تقتربُ من المسجدِ الحرام؟!

هذا الوصفُ هو بعضُ ما حصلَ لنبيِّك e وصحبِه الكرامِ.

أخرَجوهم من مكةَ، فهاجَروا للمدينةِ، وفي السنةِ السادسةِ لم تحتملِ النفوسُ المؤمنةُ هذا الانقطاعَ عن مهوى الأفئدةِ؛ مكةَ التي هي كالمغناطيسِ للقلوبِ.

انظرْ إلى مشهدِ المسلمينَ، وهم يَتسلَّلون من مكةَ إلى المدينةِ مُسْتَخْفينَ خائفين، لكنَّ قلوبَهم تتقطعُ، شوقًا إلى البيتِ العتيقِ أن تلتصقَ أحشاؤهم به، وأن تكتحلَ أعينُهم برؤيتِه، جاءوا على أملِ الطوافِ بكعبتِهِ، جاءوا على أملِ الصلاةِ في رحبتِهِ، جاءوا ألفًا وأربعَمئةٍ، وليس في نيتِهِم إلا العمرةُ فحسْب.

فأرسلَ إليهم عُثمانَ بنَ عفانَ t. ثم أُشيعتْ شائعةٌ أن عثمانَ قُتل!!

فدعا أصحابه الألف والأربعمئة إلى مبايعته على قتال المشركين على الموت وعدم الفرار، وهم: (إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ). أعظم وأنفع مؤتمر، لا قاعات فارهات، بل كان تحت شجرة، فحازوا خير جائزة: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.

نعم بدايتها إشاعة، لكن النتيجة: رِضى اللهِ، وسكينةُ قلوبٍ، وفتحٌ قريبٌ.

وإذا بالمفاوضاتِ تدورُ، لتنتهيَ باتفاقيةٍ كانت بنودُها فيما يظهرُ للمسلمينَ جائرةً، ومن ضمن البنود أن يرجعوا، فلا يعتمروا إلا العام القادم!! يالله أعامٌ كاملٌ!! يا لله! ما أشقَّ هذا على النفوس الملتاعة! أنرجع وقد أحرمنا؟! أنُصَدُّ ونحن على الحق وهم على الباطل؟! أنُردُّ وقد بقيت على الكعبة خطوات؟!

رجعوا وفي القلبِ حسرة، وفي الحلق غُصَّة، وفي العين عَبرة، ولكن كانت خيرَةُ اللهِ مدخرةُ لهم، حيثُ علمُ اللهِ المحيطُ.

وبعد أسبوعين من الانتظارات والمفاوضات انصرف r من الحديبية قاصدًا المدينة، حتى إذا قطع نزلت عليه البشرى الأخرى، معها السكينة، حيث يعبر r عن عظيم فرحته بقوله: لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) ([1]). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتْحٌ هُوَ؟! قَالَ: نَعَمْ؛ وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ!([2]). قَالوا: هَنِيئًا مَرِيئًا! فَمَا لَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ: (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)([3]).

وبعدَ سنةٍ كاملةٍ بأيامِها الثقيلةِ التي يحدوها الاشتياقُ والالتياعُ، ويدفعُها الأملُ والفألُ، ومن ذي القَعدةِ إلى ذي القَعدةِ الآخرَ تعودُ وفودُ الرحمنِ بَدَلَ الألفِ وأربعمِئةٍ؛ لتكونَ ألفينِ؛ محرمينَ ملبينَ، محيطينَ بقائدِهم رسولِ ربِ العالمينَ، في موكبٍ مهيبٍ مؤثرٍ، يشقُ طريقَه عبرَ القرى والبوادي، بزيٍ واحدٍ، وهم يسوقونَ هديَهم في قلائدِه، في مظهرٍ بَهيٍ لم تشهدِ المنطقةُ له مثيلاً.

وصلُوا للحَرَمِ، وما أصبرَ هذهِ الأفئدةَ التي أمضَّها الألمُ، وأحرقتْ أحشاءَها الأشواقُ لرؤيةِ الحَرَمِ، بعد سبعِ سنينَ شدادٍ.

فأقامَ الرسولُ والمؤمنونَ في مكةَ ثلاثةَ أيامٍ حسبَ الاتفاقيةِ، يطوفونَ بالبيتِ العتيقِ، ويؤذِّن لهم بلالٌ بصوتهِ النديِّ من على ظهرِ الكعبةِ، ويصلي أمامَهم إمامُهم r الصلواتِ الخمسَ جماعةً تحتَ الكعبة، ، فكان وقْعُه على المشركينَ كالصاعقةِ، فقد كانتْ دعوةً بالقدوةِ قويةً غيرَ مباشرةٍ([4]).

فانقلبتْ كآبةُ المسلمينَ وحزنُهم إلى فرحٍ غامرٍ، وكان حالُهم كما وصَفَ ربُّهم: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}.

إيْ واللهِ: {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا}. فبَعْدَ أحداثِ هذهِ العمرةِ المباركةِ عمرةِ القضاءِ نُدركُ جزمًا أننا لا يمكنُ أن نحيطَ بالأسبابِ والنتائجِ، بل نوقنُ أن التسليمَ لأمرِ اللهِ ورسولِه فيه كلُّ الخيرِ لنا وللدعوةِ الإسلاميةِ.

وعندما نرى الظلمَ: فعلينا أن نتذكرَ أنه لا يحَدثُ في غفلةٍ من اللهِ: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ).

وعلينا أن نَنظرَ إلى انتهاض الباطل برهة، لا على أنه الماحقُ والقاصمُ، وإلا فسيُورثَنا الإحباطَ، بل لنُربِّ في بيوتِنا ومدارسِنا ومساجدِنا؛ لنُعدَّ الأمةَ لتَستقبلَ انتصارًا يليقُ بها: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً.

اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَرَى مَكَاننا, وَتَسْمَعُ كَلَامنا, وَتَعْلَمُ سِرّنا وَعَلَانِيَتنا, ولَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنا, نحن البؤساء الفقراء, الْمُسْتَغِيثُون الْمُسْتَجِيرُون, الْوَجِلُون الْمُشْفِقُون, الْمُقِرُّون الْمُعْتَرِفُون بِذَنوبهم، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنا بِدُعَائِكَ أشَقِياء, وَكُنْ بِنا رَءُوفًا رَحِيمًا, يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ, وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ.

إن لم يكن بك غضبٌ علينا فلا نبالي غيرَ أن عافيتَك أوسعُ لنا.

اللهم إنا نعوذُ بك مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.

نستغفرُ اللهَ الحيَ القيومَ ونتوبُ إليه. اللهم اسقنا الغيثَ، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين. اللهم اسقنا سقيا نافعة وادعة تزيد بها في شكرنا وارزقنا رزقًا ترخص به أسعارنا وتنعم به على بدونا وحضرنا.

اللهم حسن أخلاقَنا، وطيب أرزاقَنا، ووفق ولاتَنا، وارحم أمواتَنا، واجمع على الهدى شؤونَنا، واقض ديونَنا، واحفظ أعراضنا، وحدودنا، وجنودنا.

اللهم وفق إمامنا وولي عهده بتوفيقك، اللهم ارزقهم بطانة ناصحة صالحة. اللهم صل وسلم على نبينا محمد.

([1])صحيح البخاري (4177 )

([2])سنن أبى داود (2738 )

([3])صحيح البخاري (4172 )

([4]) باختصار وتصرف كثير من : السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث : علي الصلابي (3/ 454)

المرفقات

القضاء

القضاء

القضاء-2

القضاء-2

المشاهدات 929 | التعليقات 0