عبرات توديع حجاج بيت الله الحرام

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، أحمده سبحانه وأستعينه على كل ما مضى وما هو آتٍ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفضَّلَ على حُجَّاج بيته بتمام حجهم بعد أن وقفوا على صعيد عرفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى والبيِّنات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله؛ فتقواه خير لباس وزاد، وأفضل وسيلة إلى رضا رب العباد ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[.

بُشْرَى لِمَنْ لَبَّى النِّدَاءَ وَيَمَّمَا *** صَوْبَ البِقَاعِ مُهَلِّلًا مُتَرَحِّمًا

هنيئا لكم حجاجَ بيت الله؛ إذ هداكم الله وأكرمكم ومَنَّ عليكم فيَسَّرَ لكم الحجَّ حينَ لم يقدر عليه الكثيرُ من الناس، هنيئا لكم قد وفقتُم لأداء مشاعر الحج، أحد أركان الإسلام الخمسة، فلبيتُم النداءَ، وأحسنتُم الأداءَ، هنيئا لكم قد رُفعت درجات، وغُفرت الذنوب، وكُفرت الخطايا وسُترت العيوب -بإذن الله- علام الغيوب.

هنيئا لكم حجاجَ بيت الله؛ أنفقتم الأموال وصرفتم الأوقات، وبذلتم الجهد والطاقات، وخضتم غمار التعب والمشقة، وجدتم بالغالي والنفيس، تركتم الأهل والأوطان، تلبيةً لنداء ذي الجلال والإكرام، جئتم فاجتمعتم في أفضل مكان، وفي أشرف زمان، تجردتم من زينتكم ولباسكم، وأقبلتُم إلى الله شُعثا ملبِّين، وفي ذُلّ وسَكِينة منكسرين، ولجأتم إليه وحدَه مخلصينَ، فأبشروا فالله أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، "وما من يوم أكثر من أن يُعتق اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه لَيدنو ثم يباهي بأهل الموقف ملائكتَه، فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شُعْثًا غُبْرًا، من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، فكيف لو رأوني؟ فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، وكزبد البحر، لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورا لكم.

فَبُشْرَاكُمْ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي *** بِهِ يَغْفِرُ اللَّهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ

فَكَمْ مِنْ عَتِيقٍ فِيهِ كُمِّلَ عِتْقُهُ *** وَآخَرُ يُسْتَسْعَى وَرَبُّكَ أَرْحَمُ

أيها المسلمون .. قبل أيام قليلة ودَّع الحُجَّاجُ بيتَ اللهِ الحرامَ، ولسانُ حالهم: "عائدون آيبون تائبون، لربنا حامدون" يحدوهم الفرحُ إلى أوطانهم وبلدانهم، قد قضوا مناسكهم، وتخففوا من أثقالهم ]قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[.

ولعلهم يعودون لأوطانهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، فيرجعون بغنيمة تستوجب الحمد والشكر، قد غفر الذنب، وستر العيب، وكُفِّرَت الخطايا، فالحمد لله على كماله وجلاله، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

أيها المسلمون ... إن لكلِّ إقبالٍ إدبارًا، ولكل جمع تفرًّقًا وأخبارا، فبعدما رأينا الحُجَّاج يأتون من كل فج عميق، وبلد سحيق ليشهدوا منافع لهم، وتجمعت الوفود الكثيرة، والجموع الغفيرة في المشاعر المقدسة، قد اختلفت لغاتهم وألوانهم وبلدانهم وأجناسهم وأعمارهم، لكن الإسلام لَمَّ شَمْلَهم ووحَّد قِبْلَتَهم ومناسكهم، مُحْرِمُونَ بلباسٍ واحدٍ، ويلبُّونَ بنداء واحد، اجتمعوا في صعيد واحد، قد ألَّفَ اللهُ بين قلوبهم ]لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ[.

وبعد قضاء النُّسُك وإذ بالجموع الغفيرة والأعداد الكبيرة تودع المشاعر بمشاعر فياضة، تتفرق الجموع في منظر مهول ومؤثِّر، ومشهد عظيم ومعبِّر، إن هذا الفراق بعد الاجتماع خلال وقت قليل ليذكر بفراق الدنيا، وتعاقب الأجيال جيلا بعد جيل، جيل يولَد ويهنَّأ به ويُستقبَل، وجيل يودَّع ويُعزى فيه وينتقل، وكل من عليها فانٍ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

إن في الحج لموعظةً لمن يتذكَّر، وللطاعة في النفس ثمرة وأثر، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والحج مورد ومنهل للتزود من التقوى ]وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[ فالعبادة إذا لم تقرب من الله وتبعد عن محارم الله فإن فيها دَخَنًا أو مخالفة للدين، وإنما يتقبل الله من المتقين.

أسأل الله أن يجعبنا من عباده المتقين. وأن يغفر لنا وللحجاج أجمعين.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله ..

 

الحمد لله على كمال الدين وتمام النعمة، وظهور المحجة، وسطوع الحُجَّة، وتمام الحَجَّة، حمدا يكافئ ترادف آلائه، والصلاة والسلام على أشرف رسله وأنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.

معاشر المؤمنين ... إن الله على كل شيء شهيد، وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، وقد بُحَّتْ حناجرُ الحجاج على رؤوس الأشهاد، يرددون كلمة التوحيد، ورددت جبال مكة صدى تلبيتهم إلى يوم العيد، لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شريك لك لَبَّيْكَ .. فالبراءَ البراءَ مِن الشِّرْكِ، فلا يقبل الله عملاً فيه مثقال ذرة من شرك. فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، الزموا شرعكم واحرصوا على ملتكم.

 إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم، كحرمة يوم النحر، في شهر ذي الحجة، في البلد الحرام، ألا لا ترجعوا كفارا، يضرب بعضُكم رقابَ بعض. تلكم شرعة ربكم ووصية نبيكم فالزموها، ذلك خير لكم عند بارئكم.

إن من علامات قبول الطاعة الاستقامة والثبات والعكوف عليها، ومحاسبة النفس على التفريط والتقصير فيها، تلكم صفات المؤمنين الخاشعين المخلصين.

الاستقامة نجاة من الخوف، وأمان من الهلع والحزن، بشارة عظمى ]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[.

إن من الواجب على كل مسلم أن يحمد الله -عز وجل- على ما مَنَّ به من أمن وأمان في هذه البلاد المباركة، التي تستقبل هذه الأعداد الكثيرة من المسلمين من مختلف أنحاء العالَم، وتقوم بضيافتهم وتهيِّئ لهم المشاعر في أحسن مستوى، وتقدِّم لهم الخدمات في أعلى قدر ممكن؛ وذلك تحت رعاية مباشرة من خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين -حفظهما الله-، فالشكر والتقدير لولاة الأمر القائمين على خدمة الإسلام والمسلمين، ولرجال أمننا وجميع القطاعات العسكرية والحكومية المشاركين في هذا العمل الجبار الناجح بكل المقاييس. شكر الله سعيهم، وتقبَّل عملهم، وكتب لهم ذلك في موازين حسناتهم.

اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه خير للإسلام والمسلمين، ولما فيه صلاح البلاد والعباد يا رب العالمين. اللهم احفظ حدودنا، وانصر جنودنا، وأيِّدهم بتأييدك، اللهم اشف مريضهم، واجبر كسيرهم، وتقبَّل موتاهم، يا رب العالمين. اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

المرفقات

1718957021_عبرات توديع حجاج بيت الله الحرام.pdf

1718957029_عبرات توديع حجاج بيت الله الحرام.docx

المشاهدات 349 | التعليقات 0