عبد الرحمن بن عوف

فهد عبدالله الصالح
1439/08/10 - 2018/04/26 10:29AM

 

معاشر المسلمين : تحيا القلوب بذكر الصالحين , وتتطلع النفوس لمعرفة حياتهم , وتصغي الآذان لسماع أخبارهم لا سيما إذا كان أولئك هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه واختارهم لتبليغ رسالته .

نقف مع أخبار القوم , في زمن نحتاج فيه إلى  القدوة الحسنة لأنفسنا و لشبابنا وناشئتنا  .

نحن اليوم مع رجل من رجالات المدرسة المحمدية ، رجل أعجب أهل عصره ، جمع الفضائل كلها نبض قلبه بالإيمان , فرخص في سبيل رضا ربه كل غال ونفيس , كان مثالاً صادقاً للرجل الذي يعطي ولا يأخذ ويؤثر ولا يستأثر ويجود ولا يستجدي , أحد السابقين الأولين والعشرة المبشرين هاجر الهجرتين وشهد بدراً والمشاهد كلها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.

كان شريف النفس , عفيف اليد كثير المال متين الحال تجود يده بالأعطيات وتفيض عينه وقلبه بالعبرات .

نحن مع الغني الشاكر والتاجر الناجح , أبي محمد عبد الرحمن بن عوف القرشي رضي الله عنه وعن جميع الصحب الكرام .

إخوة الإيمان : ولد ابن عوف بعد عام الفيل بعشر سنين ونشأ نشأة صافية وعرف بين قومه بسداد رأيه ورجاحة عقله , كان لا يأبه بأعمال الجاهلية وعاداتها فكان ممن حرم الخمر في الجاهلية , باشر الإيمان قلبه منذ أن لاحت تباشير الإسلام في أيامه الأولى أسلم على يد الصديق بعد يومين من إسلام الصديق فكان بذلك أحد الثمانية الذين لم يكن على وجه الأرض مسلم غيرهم .

وكان اسمه في الجاهلية : عبد الكعبة , وقبل عبد عمرو فسماه النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الرحمن , ثم كان ابن عوف بعد ذلك من الثلة المؤمنة الذين أوذوا بسبب إسلامهم فصبروا وصابرو ثم  هاجروا إلى الحبشة الذي مكث بها ثلاثة أشهر , ثم قفل بعد ذلك إلى مكة ثم هاجر مرة أخرى إلىيها ثم عاد أخرى إلى مكة ثم أذن النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته بعد ذلك بالهجرة إلى المدينة , فكان ابن عوف فيمن خرج مهاجراً في سبيل الله ونال بذلك وسام الثناء من ربه في قوله تعالى (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

دخل ابن عوف المدينة فقيراً معدماً لا درهم له ولا متاع لا يملك إلا ثيابه التي عليه , فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد ابن الربيع , فقال له سعد بحفاوة إيمانية صادقة وكرم عربي أصيل , يا عبد الرحمن إنا أكثر أهل المدينة مالاً فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان فانظر أيتهن أعجب لك حتى أطلقها لك وتتزوجها , فقال له الشريف العفيف : بارك الله لك في أهلك ومالك , دلوني على سوق المدينة .

دخل ابن عوف سوق المدينة وعمره ثلاث وأربعون سنة وكان صناع السوق وسماسرته من يهود بني قينقاع , فلم يثن عزيمته ولم يفت في همته هذا الاحتكار اليهودي بل زاحم في السوق واشترى وباع وربح وادخر وهكذا سارت به الأيام وهو يكدح في العمل وطلب الحلال والعفاف .

إخوة الإيمان : يقول المصطفي صلى الله عليه وسلم (ما فتح إنسان على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) رواه الترمذي وغيره وصححه ابن حبان

ومفهوم الحديث أن العبد إذا عف عن المسألة واتقى ربه في طلب الحلال مع فعل الأسباب  أغلق الله دونه أبواب الفقر , وهكذا كان ابن عوف بسبب عفاف يده وشرف نفسه , فتح الله عليه باب الرزق وساعده في ذلك حماسته في التجارة وذكاؤه في استجلاب السلع وطريقة تصريفها .

سأله أحد أصحابه (بما أدركت من التجارة ما أدركت؟ فقال : لأني لم اشتر معيباً ولم أرد ربحاً كثيراً والله يبارك لمن يشاء) وبارك الله لابن عوف في تجارته فكان لا يشترى شيئاً إلا ربح فيه حتى قال عن نفسه متعجباً (لقد رأيتني لو رفعت حجراً لوجدت تحته فضة أو ذهباً) , وهكذا أصبح الفقير المعدم في سنوات معدودة من أثرياء أهل المدينة ومن أصحاب الأموال الضخمة والأرصدة العالية .

أيها المؤمنون : اخبرنا ربنا تبارك وتعالى إن المال يفتن العبد ويلهيه وهو سلاح ذو حدين إما أن ينجي أو يردي (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى), ولكن ابن عوف كان له شأن مع هذا المال ، نعم لقد عرف ابن عوف كيف يجمع المال ولكنه أيضاً عرف كيف يحسن استخدام هذا المال لم يكن رضي الله عنه كداساً للثروات جماعاً للمال في غير نفع ولا منفعة , فسبحان من خلق السخاء والإنفاق ثم سلمه لابن عوف , كان رضي الله عنه لا يهنأ إلا بإنفاق المال سراً وجهراً في العسر واليسر حتى ملك القلوب بماله فشاطره بالانتفاع في هذا المال أهله وأقاربه وإخوانه ومجتمعه حتى قيل (كان أهل المدينة عيالاً على عبد الرحمن بن عوف : ثلث يقرضهم ماله وثلث يقضي دينهم ويصل ثلثاً).

سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس للصدقة لكي يجهز سرية , فذهب إلى بيته مسرعاً ثم عاد ونثر بين يدي النبي عليه السلام أربعة آلاف دينار هي نصف ماله فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم في ماله , قدم يوماً لجيوش الإسلام خمسمائة فرس , ومرة ألفاً وخمسمائة راحلة ، باع يوماً أرضاً بأربعمائة ألف درهم فقسمها على فقراء أقاربه والمهاجرين وأمهات المؤمنين , في غزوة تبوك حينما كانت الحاجة إلى المال أكثر من الرجال أنفق ابن عوف إنفاق من لا يخشى الفقر .

و المنافقون لم يسلم منهم الصالحون أحد من ذلك التأريخ  فغمزه ولمزوه بالرياء من كثرة ما جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فانزل الله عز وجل (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ) كان دائماً رضي الله عنه ما يتفقد أحوال أمهات المؤمنين ينهض بحوائجهن ويسعي في أمورهن, أرسل يوماً مالاً وفيراً لعائشة رضي الله عنها – فقالت : سقي الله ابن عوف من سلسبيل الجنة , سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يحنو عليكن بعدي إلا الصابرون) رواه الترمذي وصححه ابن حبان .

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).

الخطبة الثانية :

إخوة الإيمان : ومع هذا المال وتلك الثروة كان ابن عوف رضي الله عنه يحمل بين جنبيه نفساً عظيمة متواضعة لا تعرف الكبر ولا التعالي حتى قيل (لو رآه غريب لم يعرفه بين عبيده وخدمه), لقد كان رضي الله عنه مثالاً حقاً للمؤمن الغني الزاهد , يطعن الفاروق رضي الله عنه فيجعل أمر المسلمين بين ستة من الصحابة والذين توفي رسول الله وهو عنهم راض وكان منهم عبد الرحمن بن عوف , فتنازل رضي الله عنه عن المنصب وزهد في الخلافة ورضي أن تجعل في الخمسة الباقين .

كان رضي الله عنه صواماً قواماً , شجاعاً مقداماً لم يتخلف عن غزوة قط وكان من القلة الذين ثبتوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فهتم فمه وسقطت ثنيتاه وكان ابن عوف رضي الله عنه مرهف الإحساس كثير المحاسبة للنفس تدمع عيناه إذا تذكر حال أمسه ويومه ويبكي كثيراً إذا تذكر الحال التي كان عليها نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم.

اجتمع يوماً بعض أصحابه عنده على طعام له وما كاد الطعام يوضع حتى بكي ابن عوف فسألوه : ما يبكيك يا أبا محمد؟ فقال : لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير.

وفي آخر حياته أوصى بكثير من ماله , فأوصى بخمسين ألف دينار صدقة في سبيل الله وأوصي بألف فرس لجيوش الإسلام واعتق خلقاً كثيراً من مماليكه ولم ينس إخوانه أهل بدر فأوصي لهم من ماله وكانوا مائة فأعطي كل واحد منهم أربعمائة دينار .

وجاءه أمر الله الذي لا يخطئ أحداً من البشر فمرض رضي الله عنه ولازمته الأوجاع فلزم بيته شهراً وكان في أيامه تلك كثير الصوم والاستغفار وما هي إلا أيام قلائل حتى فاضت روحه الزكية ولقي ربه مؤمناً صادقاً زاهداً بعد حياة مليئة بالعلم والتقى والبذل والإنفاق وتأثر أهل المدينة برحيله , وبكى عليه القريب والبعيد والكبير والصغير والجار والصديق رضي الله عنه وعن جميع الصحب الكرام وعن جميع المؤمنين والمؤمنات.   

المشاهدات 1086 | التعليقات 0