عبادة التفكر

د. محمود بن أحمد الدوسري
1442/11/19 - 2021/06/29 08:36AM

عِبادة التَّفكُّر

د. محمود بن أحمد الدوسري

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على رسوله الكريم, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمَّا بعد: من العبادات العظيمة التي أَمرت الشريعة بها وحثت عليها؛ عِبادة التَّفكر والتَّدبر, واشتِغال القلب بما فيه صلاح الدِّين والدنيا, قال ابن القيم رحمه الله: (القلب لَا يَخْلُو من الْفِكر؛ إمَّا فِي وَاجِب آخرتِه, ومصالِحِها, وَإِمَّا فِي مصَالحِ دُنْيَاهُ ومعاشه, وَإِمَّا فِي الوَساوِسِ, والأماني الْبَاطِلَة).

واللهُ تعالى أمَرَنا بالتَّفكُّر وحثَّنا عليه, وامتدحَ المُتَفَكِّرين؛ كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8]؛ وقوله سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]. وقوله: {فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].

وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة - يتحنَّثُ في غار حِراء, خالياً بنفسه, مُتفكِّراً في آيات الله؛ قال الخطابي رحمه الله: (حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ, وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ, وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ, وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ).

وكان يقوم من الليل, ينظر في السَّماء مُتَفَكِّراً؛ فعن ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ, فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ, فَخَرَجَ فَنَظَرَ فِي السَّمَاءِ, ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} حَتَّى بَلَغَ: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191]. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْتِ, فَتَسَوَّكَ, وَتَوَضَّأَ, ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى» رواه مسلم.

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ، وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} الآيَةَ كُلَّهَا» حسن - رواه ابن حبان. قيل للأوزاعي: مَا غَايَة التَّفكُّر فِيهِنَّ؟ قَالَ: (يقرؤُهُنَّ, وَهُوَ يَعْقِلُهُنَّ).

أيها المسلمون .. تُستحبُّ مُلاحظةُ الآياتِ الكَونية, والتَّفاعلُ معها؛ عن عائشةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا, عُرِفَ فِي وَجْهِهِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا؛ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ, وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ, فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ! مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ, وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ؛ فَقَالُوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]» رواه البخاري.

وكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يتفاعل إِذَا عَصَفَتِ الرِّيحُ, ويقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا, وَخَيْرَ مَا فِيهَا, وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ, وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا, وَشَرِّ مَا فِيهَا, وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ» رواه مسلم. ويتفاعل إذا رأى الهلالَ, ويقول: «اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالإِيمَانِ, وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ, رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ» حسن - رواه أحمد.

ومن تفاعله عليه السلام حال نزول المطر؛ ما جاء عن أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَطَرٌ؛ فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَوْبَهُ, حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ, فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى» رواه مسلم. أي: قَرِيبُ الْعَهْدِ بِتَكْوِينِ رَبِّهِ.

عباد الله .. يُستحب التفكُّرُ والتدبُّرُ والتأمُّلُ  في آيات الله الشرعية؛ لقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. فتدبُّر القرآن من أجلِّ العبادات وأعظمِها, وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآنَ تدبَّره وتفكَّرَ في معانيه.

ولذلك التدبر والتفكر أثر يظهر على قلبه ولسانه وجوارحه؛ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ, فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ, فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِائَةِ, ثُمَّ مَضَى, فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ, فَمَضَى, فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا, ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا, ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا, يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً, إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ, وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ, وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ» رواه مسلم. وهذا لا يكون إلاَّ بالتَّفكُّر في كلِّ آية, واستحضار معانيها.

وأحياناً يقوم الليلَ بآية, يتفكَّر فيها؛ فعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً, فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ, يَرْكَعُ بِهَا, وَيَسْجُدُ بِهَا: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]» حسن – رواه أحمد. قال ابن القيم رحمه الله: (فَلَو عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بالتدبر؛ لاشتغلوا بهَا عَن كُلِّ مَا سِواهَا).

وأحياناً كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يبكي عند تفكُّرِه في معاني بعض الآيات؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ عَلَيَّ», قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ, حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ», فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ, فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. رواه البخاري. وسبب بكائه  – كما قال ابن بطال رحمه الله: (لأنه مَثَّلَ لِنفسِه أهوالَ يومِ القيامة, وشِدَّةَ الحالِ الداعيةِ له إلى شهادته لأُمَّتِه بتصديقه، والإيمانِ به, وسؤالِه الشفاعةَ لَهُمْ لِيُرِيحَهم من طُول المَوقِفِ وأهوالِه، وهذا أمْرٌ يحقُّ له طولُ البكاء والحُزن).

الخطبة الثانية

الحمد لله ... أيها عباد الله .. لقد شابَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من شِدَّةِ تفكُّرِه في آيات الله؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ شِبْتَ, قَالَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ, وَالْوَاقِعَةُ, وَالْمُرْسَلاَتُ, وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ, وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» صحيح – رواه الترمذي. وفي رواية: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» صحيح – رواه الطبراني. أي: وأشْباهُها من السُّوَر, التي فيها ذِكْرُ أهوالِ القيامة, والعذاب؛ حتى شِبتُ قبلَ أوانِ الشَّيب؛ خوفاً على أُمَّتي, والأحزانُ إذا تقاحَمَت على الإنسان أسرَعَ إليه الشَّيبُ في غيرِ أوانه.

ومن ذلك: تفكُّره في هول الموت والقبر؛ عَنِ الْبَرَاءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةٍ, فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ [أي: طَرفه], فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى [أي: التراب], ثُمَّ قَالَ: «يَا إِخْوَانِي! لِمِثْلِ هَذَا فَأَعِدُّوا» حسن – رواه ابن ماجه.

وعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: «كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ, فَأَتَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَعَدَ, وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ, وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ [كعصا ونحوها], فَنَكَّسَ [أي: طأطأ رأسَه, مُتَفَكِّراً], فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ» الحديث. رواه البخاري ومسلم. قال ابن حجر رحمه الله: (لَا يُعَدُّ مِنَ الْعَبَثِ الْمَذْمُومِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقَعُ مِنَ الْعَاقِلِ عِنْدَ التَّفَكُّرِ فِي الشَّيْءِ).

وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ, فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ, فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ, كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرُ, وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ, فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا» صحيح – رواه أبو داود.

 

           

 

المرفقات

1624955787_عبادة التفكر.docx

المشاهدات 604 | التعليقات 0