عباداتٌ ليليَّةٌ

عبدالمحسن بن محمد العامر
1445/03/27 - 2023/10/12 22:38PM

الحمدُ للهِ الموفِّقِ للطاعاتِ، الهادي إلى طريقِ الجناتِ، وأشهدُ أنْ لا إله إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ربُّ البرياتِ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ أعطاهُ ربُّه أَشرفَ المقاماتِ؛ والفردوسَ الأعلى مِنَ الجنّاتِ، صلى اللهُ وسلّمَ عليه عددَ ما أُدِّيتِ العباداتِ، وما لَهَجتِ الأَلْسُنُ بالدَّعواتِ، وعلى آلهِ وصحابتِه أولى المكرُماتِ، وعلى التّابعينَ ومِن تبعهمْ بإحسانٍ إلى يومِ البعثِ بعدَ الصعقِ والمماتِ ..

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكمْ ونفسي بتقوى اللهِ تعالى؛ فالتقوى سببٌ للطاعاتِ، وعَوْنٌ على العباداتِ، وبرهانٌ على صدقِ النياتِ؛ قالَ تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: قالَ صهيبٌ الروميُّ رضيَ اللهُ عنه لامرأتِه وقَدْ عَاتبتْهُ في كثرةِ سَهَرِهِ: إنَّ اللهَ جعلَ الليلَ سكناً إلّا لصهيبٍ، إنَّ صُهيباً إذا ذَكَرَ الجنَّةَ طَالَ شَوقُهُ، وإذا ذَكَرَ النَّارَ طَارَ نَومُه.

نعمْ إنَّ العبادَةَ في الليلِ لها طَعْمٌ خاصٌّ، وأثرُها في النَّفْسِ عظيمٌ، وتقويْمُها للسلوكِ كبيرٌ، ومردودُها على نهارِ العُبّادِ واضحٌ جليٌّ؛ يجدونَ ذلك عندما ينطلقونَ إلى أعْمالِهم، ويَنْهَمِكُونَ في طلبِ معاشِهم، فقد قالَ النّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ لعليٍّ وفاطمةَ رضيَ اللهُ عنهما؛ حينما سألاهُ خادماً: "ألَا أُعَلِّمُكُما خَيْرًا ممَّا سَأَلْتُمَانِي؟ إذَا أخَذْتُما مَضَاجِعَكُما تُكَبِّرَا أرْبَعًا وثَلَاثِينَ، وتُسَبِّحَا ثَلَاثًا وثَلَاثِينَ، وتَحْمَدَا ثَلَاثًا وثَلَاثِينَ؛ فَهو خَيْرٌ لَكُما مِن خَادِمٍ" رواه البخاريُّ

الليلُ ــ عبادَ اللهِ ــ حافلٌ بعباداتٍ جليلةٍ، متنوعةٍ؛ لا يتركُها إلا محرومٌ، ولا يُضيِّعها إلا مغبونٌ، ولا يُفُوِّتُها إلا مُقصِّرٌ خاسرٌ.

عبادَةُ الليلِ؛ عبادَةُ مَنْ جاهدوا أنفسهم، ودَحروا الشياطينَ، وتقربوا إلى ربِّهم بالأعمالِ الصالحات؛ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: "ذُكِرَ عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ رَجُلٌ نَامَ لَيْلَةً حتَّى أَصْبَحَ، قالَ: ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ في أُذُنَيْهِ، أَوْ قالَ: في أُذُنِهِ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

فقد ذكرَ جماعةٌ مِنْ أهلِ العلمِ أنَّ المقصودَ: أنَّه نامَ عن صلاةِ التّهجّدِ؛ قالَ القرطبيُّ ــ رحمه اللهُ ــ معناهُ: (أنَّ الذيْ يَنامُ الليلَ كُلَّهُ ولا يَستيْقِظُ عندَ أذانِ المؤذنينَ ولا تِذْكَارِ المُذَكِّرِيْنَ؛ فكأنَّ الشّيطانَ سَدَّ أُذُنِيْهِ بِبَوْلِه) انتهى.

وعباداتُ الليلِ تبدأُ مِنْ صلاةِ المغربِ، ومِنْ ثَمَّ يبدأُ وقتُ قيامِ الليلِ، فعن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: "جِئْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ قَامَ يُصَلِّي، فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ" رواه الإمامُ أحمدُ وصححَه الألبانيُّ.

وجاءَ عن أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه، وعِكرمَةَ، ومحمدِ بنِ المُنكدِرِ، وأبي حازمٍ، وقتادةَ؛ في معنى قولِه تعالى: "تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" قالوا: هو الصلاةُ بينَ العِشاءَينِ.

وقالَ تعالى مُثْنِيَاً على قيامِ الليلِ: "إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً" قالَ ابنُ كثيرٍ: (والمقصودُ أنَّ قيامَ الليلِ هو أشدُّ مُواطأةً بينَ القلبِ واللسانِ، وأَجْمَعُ على التّلاوةِ) انتهى.

ومما يؤكِّدُ على هذا المعنى؛ أنَّ جبريلَ ــ عليه السلامُ ــ كانَ يُدارِسُ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ القرآنَ في ليالي رمضانَ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: "وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

فقراءةُ القرآنِ بالليلِ تَفْضُلُ على قراءَتِه بالنهارِ، في رمضانَ وسائرِ أشهرِ العامِ.

وقيامُ الليلِ أشملُ مِنَ التّهجّدِ، فقيامُ الليلِ يشملُ كلَّ طاعةٍ تُعْمَلُ فيه، وكلُّ عملٍ صالحٍ يؤدَّى خلالَ الليلِ، أمّا التهجّدُ فالمقصودُ فيه صلاةُ الليلِ خاصةً، وقّيدَهُ بَعضُهُمْ بِكَونِهِ صلاةُ الليلِ بعدَ نومٍ. 

وفي التهجُّدِ عونٌ للمسلمِ على مواجهةِ مصاعبِ الحياةِ وفِتَنِها، وعلى شدائدِ الأمورِ ومَشَاقِّ الدنيا، فعن أمِّ سلمةَ رضيَ اللهُ عنها قالتْ:" اسْتَيْقَظَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَيْلَةً فَزِعًا، يقولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الخَزَائِنِ، ومَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الفِتَنِ، مَن يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ - يُرِيدُ أزْوَاجَهُ لِكَيْ يُصَلِّينَ - رُبَّ كَاسِيَةٍ في الدُّنْيَا عَارِيَةٍ في الآخِرَةِ" رواه البخاريُّ، ففي هذا الحديثِ بيانُ أنَّ الصَّلاةَ في  الليلِ تُنْجي مِن الفِتَنِ وتَعصِمُ مِن المِحَنِ.

وقدْ حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الزوجينِ على تنشيطِ بعضِهِمَا على الصلاةِ في الليلِ والتّهجُّدِ؛ ولو بِنَضْحِ الماءِ على بعضهما؛ فعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: "رحِمَ اللَّهُ رجلًا قامَ منَ اللَّيلِ فصلَّى وأيقظَ امرأتَهُ فصلَّتْ؛ فإن أبَتْ نضحَ في وجهِها الماءَ رحِمَ اللَّهُ امرأةً قامَت منَ اللَّيلِ فَصلَّتْ وأيقَظَتْ زَوجَها فإنْ أبَى نضَحَتْ في وجهِهِ الماءَ" رواهُ أبوداود وصحّحهُ الألبانيُّ.

ومِنْ عباداتِ الليلِ: الوترُ، وهو مِنْ قيامِ الليلِ، إلا أنَّ وقتَه لا يبدأُ إلَّا بعدَ صلاةِ العشاءِ، وهو مِنْ أعْظمِ القُرُباتِ إلى اللهِ تعالى، حتّى رأى بعضُ العلماءِ – وهم الحنفيّةُ – أنَّه مِنَ الواجباتِ، ولكنَّ الصحيحَ أنَّه مِنَ السننِ المؤكدةِ التي يَنْبغِي على المسلمِ المحافظةُ عليها وعدمُ تركِها.

قال الإمامُ أحمدُ ــ رحمه الله ــ :(من تركَ الوترَ فهو رجلُ سوءٍ لا ينبغي أنْ تُقْبَلَ له شهادةٌ)

عبادَ اللهِ: ومَنْ عَجِزَ أو ضَعُفَ عن الَّتّهجُّدِ والصلاةِ؛ فلا يَعْجَزُ عن الذِّكرِ والُّدّعاءِ ولاستغفارِ؛ فذلكَ مِنْ عباداتِ الليلِ الجَلِيْلَةِ القَدْرِ؛ العظيْمَةِ النّفْعِ والأثرِ؛ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمِ: "يَنْزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالَى كُلَّ لَيْلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنْيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، يقولُ: مَن يَدْعُونِي، فأسْتَجِيبَ له؟ مَن يَسْأَلُنِي فأُعْطِيَهُ؟ مَن يَستَغْفِرُني فأغْفِرَ له؟" رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

ومِنْ عباداتِ الليلِ ما جاءَ مِنْ ذكرٍ ودعاءٍ عندَ الاستيقاظِ مِنَ النومِ؛ فعن عُبَادَة بْن الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:"  مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ"  رواه البخاري، وهذا الذي فهِمَه أهلُ العلمِ، ففسّروا به قولَ اللهِ تعالى: "وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ"

ودعاءُ جوفِ الليلِ أقرَبُ إلى مُوافَقةِ استِجابةِ اللهِ وأَرْجى في الإجابةِ؛ فعن أبي أُمَامَةَ الباهليِّ رضيَ اللهُ عنه قال: "قِيلَ يا رسولَ اللهِ: أيُّ الدعاءِ أسمَعُ قال جَوفَ الليلِ الآخِرِ ودُبُرَ الصلواتِ المكتوباتِ" رواهُ الترمذيُّ وحسّنه، وحسّنه الألبانيُّ.

ومِنْ عباداتِ الليلِ: الوضوءُ قبلَ النومِ، لينامَ على طهارةٍ، فعن عبداللهِ بنِ عبّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "طَهِّروا هذِهِ الأجسادَ طَهَّرَكُمُ اللَّهُ؛ فإنَّهُ ليسَ من عبدٌ يبيتُ طاهرًا إلَّا باتَ معَهُ في شعارِهِ ملَكٌ ولا ينقَلبُ ساعةً منَ اللَّيلِ إلَّا قالَ: اللَّهُمَّ اغفِر لعبدِكَ فإنَّهُ باتَ طاهرًا" رواه الطبراني وحسَّنه الألبانيُّ.

وكذلك مِن عباداتِ الليلِ: قراءَةُ الآيتينِ الأخيرتينِ مِنْ سورةِ البقرةِ؛ فعن أبي مسعودٍ عقبةَ بنِ عمروٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ: "الآيَتانِ مِن آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، مَن قَرَأَهُما في لَيْلَةٍ كَفَتاهُ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ. ومعنى كفتاهُ: أي أنَّ مَن قَرَأهما في لَيلةٍ حَفِظَتاه مِن الشَّرِّ، ووَقَتاه مِن المَكْروهِ، وقيلَ: أغْنَتاه عن قيامِ اللَّيلِ؛ وذلك لِمَا فيهما مِن مَعاني الإيمانِ، والإسْلامِ، والالْتِجاءِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، والاسْتِعانةِ به، والتَّوكُّلِ عليه، وطلَبِ المَغفِرةِ والرَّحْمةِ منه. وفي أيِّ ساعةٍ مِنَ الليلِ قرأهما أدركَ هذا الأجرَ والفضلَ، إلّا أنَّ قراءتهما أوّل الليلِ أفضلْ.

ومِنْ عباداتِ الليلِ: أذكارُ النومِ، وهي كثيرةٌ؛ فعلى المسلمِ أنْ يجتهدَ في قولِ ما يستطيعُ منها، ولا ينشغلُ بشيءٍ غيرِها قبلَ نومِه، ومِنَ البلوى في هذا الزمانِ؛ انشغالُ المسلمِ بجوّالِه إذا خَلَدِ إلى فراشِه؛ ولا يَدَعُهُ حتى يغلبَ عينيهِ النومُ، فلا حصانةَ الأذكارِ أدركَ، ولا أجرَهَا نالَ.

ومِنْ عباداتِ الليلِ الخاصَّةِ بالمسافرِ إذا كانَ في آخرِ الليلِ أنْ يقولَ ما كانَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ يقولُه في مثلِ تلك الحالِ؛ فعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه: "أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ كانَ إذَا كانَ في سَفَرٍ وَأَسْحَرَ، يقولُ: سَمِعَ سَامِعٌ بحَمْدِ اللهِ وَحُسْنِ بَلَائِهِ عَلَيْنَا، رَبَّنَا صَاحِبْنَا وَأَفْضِلْ عَلَيْنَا، عَائِذًا باللَّهِ مِنَ النَّارِ" رواه مسلمٌ

باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسّنّةِ، ونفعنا بما فيهما مِنَ العِبَرِ والحكمَةِ.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم إنَّه كانَ غفَّاراً.

 

الخطبةُ الثّانيةُ:

الحمدُ للهِ حمدَ العابدينَ، والشكرُ للهِ شُكرَ المُقِرِّينَ الخاضِعينَ، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ إله الأولينَ والآخرينَ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ المبعوثُ للثقلينِ؛ صلى اللهُ وسلّمَ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ، وعلى التّابعين ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ..

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ 

نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ"

معاشرَ المؤمنينَ: ومِنْ عباداتِ الليلِ التي فيها أجرٌ عظيمٌ للمحتسبينَ، عبادةُ المُرَابَطينَ في الثغورِ وعلى الحدودِ، وعلى حفظِ أمْنِ البلدِ، وحمايةِ الأموالِ والأرواحِ؛ مِنَ العساكِرِ والجنودِ، ومثلُهم؛ الأطباءُ والمُمَرِّضونَ المُناوِبُونَ على صحَّةِ المرضى المنوَّمينَ، وغيرُهم مِمَنْ يقومُ على مصالحِ المسلمينَ في ساعاتِ الليلِ؛ فهؤلاءِ وإنْ كانوا يَتَقَاضَوْنَ رواتبَ وأُجوراً على أعملِهم؛ إلّا أنَّهم إذا أحسنوا النيّةَ، واحتسبوا الأجرَ؛ فإنَّهم ينالونَ أجراً عظيماً، وثواباً كبيراً بإذنِ اللهِ.

عبادَ اللهِ: لمّا تركَ الناسُ عباداتِ الليلِ؛ أصابَهم الفَرَاغُ الرُّوحيُّ والعاطِفِيُّ، ولمّا تركوا دُعاءَ الليلِ؛ تَعَسَّرَتْ أمورُهُم، وخيَّمَتْ عليهم همومُهم، وصَعُبَ عليهم تربيةُ أولادِهم، رُويَ أنَّ الصّحابيَّ الجليلَ عبدَاللهِ بنَ مسعودٍ - رضيَ اللهُ عنْه - أنَّه كانَ يُصلي مِنَ الليلِ، وابْنُه الصّغيرُ نائمٌ، فينظرُ إليه قائلاً: مِنْ أجلكَ يا بنيَّ، ويتلو وهو يبكي "وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا"

لقد أفرطَ كثيرٌ مِنَ الناسِ بالسهرِ؛ حتّى تركوا كثيراً مِنْ عباداتِ الليلِ، وصاروا إذا أووا إلى بُيُوتِهم؛ وإذا بهم كسالى قد أنْهَكَهُمُ التّعبُ، وأضناهُمُ السّهرُ، وأرْهَقَهُمُ السَّمَرُ، ولم يَتَبقَّى لديهم نشاطٌ للعبادَةِ، ولا قوَّةَ على الطّاعةِ.

قالَ الفضيلُ بنُ عياضٍ ــ رحمهُ اللهُ ــ: إذا لمْ تَقدرْ على قيامِ الليلِ وصيامِ النَّهارِ؛ فاعلمْ أنَّكَ مَحْرُوْمٌ، وقدْ كَثُرتْ خطيئتكَ.

 وكانَ للحسنِ بنِ صالحٍ جاريةٌ فبَاعَها مِنْ قومٍ، فلَّما كانَ في جوفِ الليلِ قامتْ الجاريةُ فقالتْ: يا أهلَ الدارِ؛ الصلاةَ الصلاةَ، فقالَ صاحبُ الدارِ: أصبحنا؟ أَطَلَعَ الفجرُ؟ فقالتْ: وما تُصَلُّونَ إلّا المكتوبةُ؟ قالوا: نَعم، فرَجَعَتْ إلى الحسنِ فقالتْ: يا مولايَ بِعْتَنِي مِنْ قَوْمٍ لا يُصَلُّونَ إلَّا المكتوبة؛ رُدَّني؛ فَرَدَّها .
وبَعدُ يا عبدَ اللهِ: اجعلْ لكَ حظّاً مِن عباداتِ الليلِ؛ مِنْ صلاةِ قيامٍ، وتهجُّدٍ، ووترٍ، ومِنْ ذِكْرٍ، ودُعاءٍ، واستغفارٍ، ومِن أعمالٍ صالحةٍ، وقُرَبٍ نافعَةٍ، ونيّةٍ صادِقةٍ؛ فإنَّ المسلِمَ إذا نوى عند نومِه نيّةً صادقةً أنْ يقومَ للتّهجّدِ، ولم يقُمْ؛ فإنَّ أجرَه يكتبُ له؛ عن أبي الدّرداء رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلَّم: "مَن أتى فراشَه وَهوَ ينوي أن يقومَ يصلِّي منَ اللَّيلِ، فغلَبتهُ عيناهُ حتَّى أصبحَ كُتِبَ لَه ما نَوى وَكانَ نومُهُ صدقةً عليهِ من ربِّهِ عزَّ وجلَّ" رواه النّسائيُ وابنُ ماجه، وصحّحَه الألبانيُّ.

هذا وصلوا وسلموا على رسولِ الله ....

المشاهدات 750 | التعليقات 0