عام مضى وانصرف

بسم الله الرحمن الرحيم إِخْوَةُ الإِيمَانِ وَالْعَقِيدَةِ ... هَذِهِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ مَا هِيَ إِلَّا خَزَائِنُ لِلْأَعْمَالِ، وَمَرَاحِلُ لِلْأَعْمَارِ، تُبْلِي الْجَدِيدَ وَتُقَرِّبُ الْبَعِيدَ، أَعْوَامٌ تَتْرَى وَأَجْيَالٌ تَتَعَاقَبُ عَلَى دَرْبِ الْآخِرَةِ، وَالْكُلُّ إِلَى اللَّهِ يَسِيرُ، أَيَّامٌ تَمُرُّ عَلَى أَصْحَابِهَا كَالْأَعْوَامِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الْهُمُومِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَحْزَانِ، وَأَعْوَامٌ تَمُرُّ عَلَى أَصْحَابِهَا كَالْأَيَّامِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ السَّعَادَةِ وَالسَّتْرِ وَالْعَافِيَةِ. لَقَدْ أَزِفَ رَحِيلُ عَامِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ وَثَلَاثَةِ وأَرْبَعِينَ، فَهَا هُوَ يَطْوِي بِسَاطَهُ وَيُقَوِّضُ خِيَامَهُ وَيَشُدُّ رِحَالَهُ وَ(كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا). عَامٌ كَامِلٌ مَضَى وَانْتَهَى، تَصَرَّمَتْ أَيَّامُهُ، وَتَفَرَّقَتْ أَوْصَالُهُ، وَفِي سَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ وَسُرْعَةِ تَعَاقُبِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ عِبْرَةٌ وَمُدَّكَرٌ لِلْجَمِيعِ ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾. عِبَادُ اللهِ .. بَعْدَ سَاعَاتٍ مِنْ نَهَارِ هَذَا الْيَوْمِ يَنْتَهِي عَامٌ كَامِلٌ قَدْ حَوَى بَيْنَ جَنْبَيْهِ حِكَمًا وَعِبَرًا وَأَحْدَاثًا وَعِظَاتٍ.. فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. إِنَّ تَعَاقُبَ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ عَلَى الْعَبْدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نِعْمَةً لَهُ أَوْ نِقْمَةً عَلَيْهِ، وَلَيْسَ طُولُ الْعُمْرِ لِلْعَبْدِ نِعْمَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالسَّعِيدُ مَعَ تَعَاقُبِ الْأَعْوَامِ مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ، وَالشَّقِيُّ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ، فَفِي الْحَدِيثِ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ) قِيلَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ). عِبَادَ اللَّهِ: حَرِيٌّ بِنَا وَنَحْنُ نَقِفُ عَلَى أَطْلَالِ عَامٍ مَضَى وَمَشَارِفِ عَامٍ جَدِيدٍ أَتَى، أَنْ نَقِفَ مَعَ أَنْفُسِنَا وَقَفَاتِ تَأَمُّلٍ وَمُحَاسَبَةٍ عَنْ عَامِنَا كَيْفَ انْصَرَمَ، وَعَنْ أَيَّامِهِ وَلَيَالِيهِ كَيْفَ ذَهَبَتْ. نَحْنُ بِحَاجَةٍ لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِنَا قَبْلَ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ، فَمَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ وَوَجَدَ أَنَّهُ عَلَى خَيْرٍ وَعَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ وَكُلَّمَا زَادَ عُمُرُهُ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ فَلْيَشْكُرِ اللَّهَ وَلِيَسْتَمِرَّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالتَّزَوُّدِ مِنَ الصَّالِحَاتِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، وَمَنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَتُبْ إِلَى رَبِّهِ وَمَوْلَاهُ، وَلْيَسْتَغْفِرْهُ فِيمَا مَضَى وَلْيَسْأَلْهُ السَّتْرَ وَحُسْنَ الْعَمَلِ فِيمَا بَقِيَ. وَوَاللَّهِ مَا خَفَّ الْحِسَابُ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَمَا شَقَّ الْحِسَابُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُحَاسَبَةٍ، فَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي، وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ عَمَلِي. عِبَادُ اللهِ .. طُوبَى لِعَبْدٍ انْتَفَعَ بِعُمْرِهِ فَاسْتَقْبَلَ عَامَهُ بِمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ عَلَى مَا مَضَى، وَالْعَاقِلُ مَنِ اتَّعَظَ بِأَمْسِهِ، وَاجْتَهَدَ فِي يَوْمِهِ وَاسْتَعَدَّ لِيَوْمِ رَحِيلِهِ. أَقُولُ مَا تَسْمَعُون، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.     الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَلِيلُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. مَعَاشِرُ الْمُؤْمِنِينَ .. إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْغَفْلَةِ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ يَسِيرُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ إِلَى أَجَلِهِ، يَنْقُصُ عُمْرُهُ، وَتَدْنُو نِهَايَتُهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يَتَفَكَّرُ فِي يَوْمِ الْحِسَابِ وَلَا يَتَجَهَّزُ لِيَوْمِ الْمَعَادِ، فَأَحْسِنُوا إِقَامَتَكُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ، وَتَعَاهَدُوا أَنْفُسَكُمْ بِالتَّوْبَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ حُسْنَ الْخَاتِمَةِ، وَلْيَتَفَكَّرَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ (يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ). وَاغْتَنِمُوا فُرْصَةَ الْحَيَاةِ فِيمَا يُقَرِّبُكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، وَاعْزِمُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ حَالُكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ أَنْفَعَ وَأَصْلَحَ، وَاعْمَلُوا صَالِحًا تَلْقَوْا ثَوَابَهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، وَتَأَمَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾. وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إِمَامِ الْخَلْقِ، وَسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ عَلِيمٍ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.