عامٌ مضى سنةٌ أتت - فريق الرصد

الفريق العلمي
1444/01/06 - 2022/08/04 10:41AM

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْـَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أيها المسلمون: عامٌ مضى سنةٌ أتت.. 

 

سنة مضت..  وكذا السنين.. مضيُّها طيف بسرعته خفت.. تمضي.. وتحكي كل حادثة سرت..  تمضي.. وقد كتبت من العجب العجاب وسطرت.. تمضي .. وتفشي سرها.. وتنوح لو هي أسمعت..عامٌ مضى سنةٌ أتت.. 

 

طوى عامنا بساطه، وقوض خيامه، وشد رحاله، وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، عام كامل، تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حكمًا وعبرًا، وأحداثًا وعظات؛ فلا إله إلا الله، كم سعد فيه أناس وشقي فيه أخرون؟

 

عامٌ مضى سنةٌ أتت.. 

 

حياة وموت، صرخات مولود يتنفس الحياة، وأنفاس ميت يودع الحياة؛ كم من مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى، أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم.

 

هي الحياة عبرات في لقاء محبوب، وعبرات  من لوعة الفراق، وآلام تنقلب أفراحًا، وأفراح تنقلب أتراحًا، أحد يتمنى زوال يومه ليزول معه غمه وهمه وقلقه، وآخر يتمنى دوام يومه ليتلذذ بفرحه وغبطته وسروره، وصدق الله؛ (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)[النجم: 43].

 

أَشَدُّ الْغَمِّ عِنْدِي فِي سُرُورٍ*** تَيَقَّنَ  عَنْهُ  صَاحِبُهُ   انْتِقَالا

 

عام مضى سنةٌ أتت..

 

ما هذه الأيام إلا دورة عمرية فيها العظات تبرجت؛ (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور:44]، أي؛ يعقب اللهُ بين الليل والنهار ويصرفهما، إذا أذهب هذا جاء هذا، وإذا أذهب هذا جاء هذا، ويديل الأيام بين عباده؛ (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)[الفرقان:62].

 

 يذهب أحدهما فيخلفه الآخر، هكذا أبدا لا يجتمعان ولا يرتفعان، لمن أراد أن يتذكر بهما ويعتبر ويستدل بهما على كثير من المطالب الإلهية.

 

عامٌ مضى سنةٌ أتت.. 

 

تقلب الزمان وتعاقب الليل والنهار وتحول العبد بين فرح وترح وصحة ومرض وسعة وشدة ويسر وعسر؛ كلها أقدار مقدرة؛ وآجال محتمة؛ (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)[القمر: 49].

 

وإذا أتاك من الأمور مُقدَّرٌ *** فهربتَ منه فنحوهُ تتوجّهُ

 

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[التوبة: 51].

 

وفي حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه"(رواه الترمذي).

(كَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)[الأحزاب: 38].

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن..

 

 

الخطبة الثانية:

 

عامٌ مضى سنةٌ أتت..

  

عباد الله:  ما الدنيا .. كل الدنيا وليست سنة منها أو سنيات ...؟

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20]؛ فما الظن -عبادَ اللهِ- بما نهايته اصفرارٌ وحطامٌ، مهما سبقهما من زينة وتفاخر وتكاثر.

 

ولقد مر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسوق والناس عن جانبيه، فمر بجدي أسك (صغير الأذن) ميت؛ فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم ؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به ؟ ثم قال: أتحبون أنه لكم ؟ قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً، إنه أسك فكيف وهو ميت ! فقال : "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم"(أخرجه مسلم).

 

 قال يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: مَا شُبِّهَتِ الدُّنْيَا إِلَّا كَرَجُلٍ نَامَ فَرَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ وَمَا يُحِبُّ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذِ انْتَبَهَ..

 

أحلام نوم أو كظل زائل****إن اللبيب بمثلها لا يخدع

 

عامٌ مضى سنةٌ أتت..

المرء في حياته ومعاشه، يتقلَّب بين خيرٍ وشرٍّ، ورخاءٍ وشظَفٍ، وفَتْحٍ وإغلاقٍ، وعُسْرٍ ويُسْرٍ، ومدٍّ وجَزْرٍ، هكذا هي الحياة، أيامٌ دُوَلٌ، تتقلَّب فلا تدوم على حال؛ فإن مَنْ سرَّتْه حالٌ ساءته أحوالٌ، والنسيم لا يهب عليلًا على الدَّوام؛ (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)[الانشقاق: 6].

 

إنها لَدارٌ أولُها عناءٌ، وآخِرُها فناء، حلالُها حسابٌ، وحرامها عذاب، مَنِ استغنى فيها فُتِنَ ومَنِ افْتَقَرَ حَزِنَ؛ (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *إِلَّا الْمُصَلِّينَ)[المعارج: 19 - 22].

 

ملك من ملوك الهند طلب من وزيره أنه ينقش على خاتمه عبارة لو قرأها وهو حزين يفرح ولو قرأها وهو فرح يحزن

فكتب: "هذا الوقت سيمضي".

 

ليس الذي عاش أياماً مطولة *** بل الذي عرك الأيام يدريها.

 

عامٌ مضى سنةٌ أتت..

 

والموفق من نشر ديوان أعمال جوارحه وقلبه، محاسباً ومدققاً، يلوم نفسه ويحثها؛ فإنما يَسُرَ الحساب هناك على عبدٍ داوم المحاسبة هنا؛ (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)[الشمس: 7 - 10].

وعن شداد بن أوس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الكَيِّسُ - أي: العاقل - مَن دان نفسَه - أي: حاسبها - وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتْبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأمانِيَّ"(رواه الترمذي).

 

عامٌ مضى سنةٌ أتت.. 

 

وإنما النجاة غداً لمن حاسب نفسه اليوم؛ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)[آل عمران: 30]، (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى*يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ)[الفجر: 23 - 26].

 

والتوبة عند أهل الإيمان و العقول والنهى وظيفة العمر وإكسير الحياة؛ في حديث أبي مُوسى الأَشْعَرِيِّ، -رضِي الله عنه-، عن النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِن الله تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوب مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها"(رواه مسلم).

 

والتائب من الذنب كما لا ذنب له،  ومن أصلح ما أمامه من الأيام والليالي غُفر له ما خلف وراءه من أيام التقصير والزلل، بل يحيلها الكريم -سبحانه- حسنات وطيبات؛ (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الفرقان: 70].

 

عامٌ مضى سنةٌ أتت.. 

 

والخلل والتقصير والخطأ حاصل من ابن آدم لا محاله، وإنما الشأن في المسارعة إلى التوبة والإحسان؛ فعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"(رواه أحمد).

 

عامٌ مضى سنةٌ أتت..

تقول لأحدنا؛ أعد ترتيب أولوياتك، أقبل على تنظيم ما تبعثر من حياتك؛ عُد إلى معين القرآن، اجعل لك برنامجاً معه حفظاً وتلاوة وتدبراً وفهماً وعملاً؛ فما أجمل أن يكون مشروع عمرك أن تحوي القرآن في صدرك لتحيا به من جديد؛ (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ)[الأنعام: 122].

 

فيا عبد الله: صلاتك صلاتك.. هي النجاة .. هي الفلاح .. هي الفرقان بين الكفر والإسلام .. بالمحافظة عليها مع جماعة المسلمين براءة من النفاق والفسوق .. معها تصلح كل الأحوال وتنتظم بوصلة الحياة في الاتجاه الصحيح؛ (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45]، (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)[الأعلى: 14-15].

 

أيها المسلمون: عامٌ مضى سنةٌ أتت..

 

تذكرنا أن التخطيط والاهتمام في أول العام وترتيب أهداف مع وسائلها لتحقيقها نهاية السنة تثمر نتائج مبهرة في كل المجالات الإيماني والعلمي والسلوكي والتجاري والتربوي؛ فاجعل من هذا العام عاماً مختلفاً في حياتك، بروعة التخطيط وحسن الاستثمار في دقات قلبك، ولحظات عمرك.

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

المرفقات

1659598892_عامٌ مضى سنةٌ أتت.doc

المشاهدات 472 | التعليقات 0