عام مضى

محمد بن خالد الخضير
1432/12/27 - 2011/11/23 18:16PM
الخطبة الأولى

ان الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا "
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " أَمَّا بَعْدُ :
فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ـ وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضلالة و كل ضلالة في النار
أيها المسلمون
إنّ هذه الشمسَ التي تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربها تحمِل أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما طلوعٌ وزوال.
انظر إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال، ثم تنمو رويدًا رويدًا كما تنمو الأجسام، حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال، وهكذا عمر الإنسان.

تتجدّد الأعوام عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيام سِراعًا، فينصرم العامُ كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عُمر الإنسان، يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت. يؤمّل الإنسان بطولِ العمر، ويتسلَّى بالأماني، فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الأماني قد انهدَم.

إنّنا في هذهِ اليوم نودّع عامًا ماضيًا شهيدًا، ونستقبل عامًا مقبلاً جديدًا، فليتَ شِعري ماذا أودَعنا في عامنا الماضي؟ وماذا نستقبل به العامَ الجديد؟ قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك).
عباد الله
كيف يفرح مَن يومُه يهدِم شهرَه، وشهرُه يهدِم سنتَه، وسنتُه تهدم عمرَه؟! كيف يفرح من عُمره يقوده إلى أجلِه، وحياتُه تقوده إلى موته؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كيفَ نفرَح والموتُ من ورائنا، والقبور أمامنا، والقيامةُ موعدنا، وعلى جهنّم طريقنا، وبين يدَي ربّنا موقفنا؟!).
لقد ضربتِ الدنيا في قلوبنا بسَهم، ونصبَت في قلوبنا رايات، ليلُنا ونهارُنا في حديثٍ عن الدنيا: كم نَربح؟ كيف نجمَع؟ إن ضُرِب موعِدٌ للدّنيا بادرنا إليه مبكِّرين، وأقمَنا عند بابه فرِحين، ولا نُبقي للآخرة في قلوبنا إلاّ ركنًا ضيِّقًا وذِكرًا قصيرًا.
انظر إذا رُفع الأذان: كم ترى من المبكِّرين المسرعين؟ وفي الطرقات ترى الكثرةَ تسير بعجلةٍ للدّنيا. لقد وصّى رسولنا ابنَ عمر بوصيّة بليغةٍ تصحِّح منظورَ المسلم إلى هذه الحياةِ الدنيا حيث قال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)).
وعلى هذا فعابر السبيل يتقلّل من الدّنيا، ويقصِّر الآمال، ويستكثر من زادِ الإيمان، حديثُه تلاوةُ كتاب الله، وهمُّه المسابقة إلى الخيرات، فاليوم الذي مضى لا يعود، ولهذا يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو على فراش الموت: (اللهمّ إنّك تعلم أني لم أكن أُحبُّ البقاءَ في الدنيا ولا طولَ المكثِ فيها لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن كنتُ أحبّ البقاءَ لمكابدةِ الليل الطويل وظمَأ الهواجر في الحرّ الشديد ولمزاحمة العلماء بالرُّكَب في حِلَق الذِّكر).

عابرُ السبيل لا يدنّسُ نقاءَ النهار بآثامه، ولا يقصِّر الليلَ بغفلته ومنامه، إن دُعي إلى الطاعةِ أجاب، وإن نودِي إلى الصلاة لبّى
عباد الله
إنَّ الضغوطَ المعاشيةَ اليوميّة حالت بين العبد وبين الخلوةِ مع نفسه والحديث إليها، فهو في حالةٍ من الجري الدائم للحصول على المزيد، في سباقٍ مع الدنيا، ونهَمٍ على شهواتها، وحِرصٍ شديد هائل على أحوالها. ولهذا يقول سعيد بن مسعود رحمه الله تعالى: "إذا رأيتَ العبدَ تزداد دنياه وتنقُص آخرته وهو بذلك راضٍ فذلك المغبونُ الذي يُلعَب بوجهه وهو لا يشعر.

أخي المسلم، حاسِب نفسَك في نهاية العام لتعرفَ رصيدَك من الخير والشرّ ومدّخراتِك من الأعمال الصالحة، هذه وصيةُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسِبوا أنفسَكم قبلَ أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن).
فالمحاسبةُ تكشِف عن خبايا نفسِك، وتظهِر عيوبها، فيسهل عليك علاجُها قبل أن تندمَ لفوات الأوان، قال مالك بن دينار رحمه الله: "رحِم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا؟! ألستِ صاحبةَ كذا؟! ثم ذمَّها، ثم خطمها، ثم ألجمها كتابَ الله عز وجل، وكان لها قائدًا".

إنّ المحاسبةَ التي لا يتعدّى أثرُها دمعَ العين وحزنَ القلبِ دونَ صلاحٍ وإصلاح محاسبةٌ ميّتة، ونتيجة قاصرة. المحاسبةُ المثمِرة تلك التي تولّد ندمًا على المعصية، وتحوُّلاً إلى الخير، فهلُمّ نتساءل: حقوقُ الله هل وفّيتها؟ حقوق العباد هل أدّيتَها؟ ما حالك مع الصّلاة؟ هل تؤدّيها مع الجماعة بشروطها وأركانها وواجِباتها وخشوعِها؟ هل تسكب من خشيةِ الله الدموع، فإنّ النار لا تدخلُها عينٌ بكت من خشية الله؟ هل ما زلتَ مصِرًّا على هجر صلاتَي الفجر والعصر مع الجماعة؟ تلك صلاةُ المنافقين، ومن فاتته صلاةُ العصر حبِط عملُه، كما أخبر الصادق المصدوق .
أمازلتَ غافلاً عن تلاوةِ كتاب الله وقد كنتَ مقبِلاً عليه في شهر رمضان؟ النوافلُ والمستحبّات لِمَ تفرّط فيها وهي علامة الإيمان وطريق محبّة الرحمن؟ فقد ورد في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها)).

ما الذي أهمّك في عامك الماضي وأقضّ مضجعَك: لقمة تأكلها ولباسًا تلبسه، متعة عابرة، لذة عاجلة، مالاً تقتنيه وتجمعه، أم كان همُّك أن تحيى لله سالكًا سُبُلَ مرضاتِه وجنّاتِه؟
هل كنتَ في الماضي زارعًا للخير، تغرس بكلماتك الفضائل، وتنثر العطرَ بأفعالك، أم كنت تغرس الشرَّ والسوءَ وتؤذي إخوانك؟
ذلك ماضٍ لا حيلةَ لإرجاعه، وإن كنتَ تملك محوَ ذنوبه وسيّئاته بالتوبة والاستغفار.

أمّا عامُك الجديد فإنّك تملكه . ابدأ عامَك الجديدَ بهمّة عاليةٍ وعزيمة وقّادة، مقدِّمًا حقوقَ سيّدك وإلهك ومولاك، وحقُّه سبحانه أن يطاعَ فلا يُعصى، وأن يذكَر فلا ينسَى، وأن يُشكرَ فلا يُكفَر.
أدِّ حقوقَ والديك بالرعاية والعطفِ والحنان، وحقوقَ زوجك وأبنائك بترسيخ الإيمان والتربية الصالحة، تذكَّر أقاربَك وجيرانك، ولا تطردِ المحتاجين من الأرامل واليتامى والمساكين.
أدّ حقوقَ الخدَم والعمّال قبل أن يجفَّ عرقُهم، واحذر ظُلمَهم، فإنّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة.
أخي المسلم، وأنتَ ترى زوالَ الأيام وذهاب الأعمار ذكِّر نفسَك بحقيقة الدنيا التي تهفو إليها النفوس، ذكّرها بأنّ أيامَها ماضية وزهرتها ذاوية وزينتها فانية، مسَرّاتها لا تدوم. ذكِّرها بالنعيم المقيم في جنّات الخلود، أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد
نسير إلَى الآجال في كل لحظة وأيـامنا تطوى وهنّ مراحل

ترحل من الدنيا بزاد من التقى فعمرك أيـام وهنّ قلائـل

إنـا لنفـرح بالأيـام نقطعـهـا وكل يوم مضى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الْموت مُجتهدا فإنَّما الربح والخسران في العمل


أيها المسلمون، إن الأيام تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تبلى، والسعيد من طال عمره وحسن عمله، والشقي من طال عمره وساء عمله، فعن أبي بكرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: ((من طال عمره وحسن عمله))، قال: فأي الناس شر؟ قال: ((من طال عمره وساء عمله)) رواه الترمذي.

فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، والأعمال بالخواتيم، والمرء يموت على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه. فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يُبعث كل عبد على ما مات عليه)) أخرجه مسلم[2].

أيها المسلمون، هذا باب التوبة مفتوح، وقوافل التائبين تغدو وتروح، فالبدار البدار إلى توبة نصوح، قبل الممات والفوات، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً [التحريم:8]، وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].

وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدِك ورسولك محمّد وعلى آلِه وصحبه أجمعين.
اللهم أعِز الإسلام والمسلمين وأذِل الشرك والمشركين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وديننا بسوءٍ فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره، واجعل دائرة السوء عليه يارب العالمين.
اللهم آمِنّا في أوطاننا وأصلِحْ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة الناصحة..
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم كما أغثت بلادنا و أجسادنا بالأمطار فأغث قلوبنا بالايمان
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا ويسِّرْ أمورنا وبلِّغْنا فيما يرضيك آمالنا.

عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكَّرون. فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون
المشاهدات 3035 | التعليقات 2

اضافة ملف وورد

المرفقات

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/1/0/9/4/عام%20مضى%2029%20%20ذو%20الحجة%201432.doc

https://khutabaa.com/wp-content/uploads/attachment/1/0/9/4/عام%20مضى%2029%20%20ذو%20الحجة%201432.doc


جزاك الله خيرا ونفع بعلمك ....