عالم البرزخ - سلسلة الآخرة

محجوب كوري
1446/06/11 - 2024/12/13 18:06PM

بسم الله الرحمن الرحيم

سلسلة خطب (الآخرة)

الحمد لله الذي تفرّد بالبقاء ,وقهر عباده بالموت والفناء ,أحمده سبحانه حمداً كثيراً يملأ الأرض والسماء ,وأستغفره من جميع الذنوب فهو أهل الفضل والعطاء .

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ,وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ,صلى الله عليه وسلم .

أغرُّ عليهِ للنبوَّةِ خاتَمُ       من الله مشهودٌ يلوحُ ويشهدُهُ

وضمَّ الإله اسم النبيِّ إلى اسمِهِ       إذا قال في الخمسِ المؤذنُ أشهدُ

وشقَّ له من اسمِهِ ليُجلَّه       فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمدُ

نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترةٍ       من الرسلِ والأوثانُ في الأرض تُعبَدُ

فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً       يلوحُ كما لاح الصقيلُ المهندُ

أما بعد أيها المؤمنون …أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى …

(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تُقاتِه ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون)

(يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولُوا قولاً سديداً . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكُم ومن يطعِ اللهَ ورسولَه فقد فازَ فوزاً عظيماً)

عباد الله …

   - قهر اللهُ تعالى عبادَهُ بالموتِ والفناء ,فهو ضرورة حتميّة سيمرُّ بها كلُّ إنسٍ وجانّ ,قال تعالى : (كلُّ من عليها فان (٢٦) ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام (٢٧))(الرحمن) .

ومن الأسئلة التي حيّرَت الإنسان ,على مدى الدهورِ والأزمانِ ,لماذا أنا هنا؟ وماذا بعد الموتِ ؟
والعلوم مهما تطوَّرت فإنها لا تتجاوز عالمَ الشّهادة ,وأما عالَم الغيب فهو في علم الله تعالى ,وجعل الله تعالى حَجْبه عن العباد من لوازمِ ابتلاءِ واختبارِ العباد ,قال تعالى : (ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ هدىً للمتقين (٢) الذين يُؤمنونَ بالغيبِ ..)(البقرة) .
وبابُ الغيبِ مُغلقٌ ,لا يُعلَمُ إلا بالوحي ,مما جاءَ في القرآن الكريمِ ,وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ,فالإنسان مهما تطوّر في العلوم في الدنيا لن يصل إلى حقيقة الغيب ,مثلاً :الملائكةُ عن اليمين والشمال لا يشعر بهمُ الإنسانُ ,قال تعالى : (ما يلفِظُ من قولٍ إلَّا لديهِ رقيبٌ عتيدٌ (١٨))(ق) ,والمعقّبات وهم ملائكة ,قال سبحانه : (له معقّباتٌ من بين يديهِ ومن خلفِهِ يحفظونَه من أمرِ الله (١١))(الرعد) ,وفي قولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم : (إنّي أرَى ما لا ترَون وأسمعُ ما لا تسمَعُون ,أطَّتِ السماءُ وحُقَّ لها أن تئِط ,ما فيها موضِعُ أربعِ أصابعَ إلّا وملكٌ واضعٌ جبهَته للهِ ساجِداً)(جامع الترمذي) ,وكلُّ ذلكَ لا يدخُلُ في المجال البصريّ للإنسان في الحياةِ الدّنيا .
عباد الله …

دلّتِ النصوصُ على أنَّ ما بعدَ الموتِ ,يسمَّى ( عالمُ البرزخِ ) ,قال تعالى : ( كلا إنَّها كلمةٌ هُو قائِلُها ومن ورائِهِم برزخٌ إلى يومِ يُبعَثُون (١٠٠))(المؤمنون) .
ودلّت كذلكَ على عدمِ شعورِهِ بالوقتِ ,ولا تطاولِ مئاتِ السنين ,قال تعالى : ( أَو كالذي مرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عروشِهَا قالَ أنَّى يحى هذه اللهُ بعدَ موتِها فأماتهُ اللهُ مائةَ عامٍ ثمّ بعثهُ قالَ كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعضَ يومٍ قال بل لبِثتَ مائةَ عام ٍفانظرْ إلى طعامِكَ وشرابِك لم يتسنَّه وانظرْ إلى حمارِك ولنجعلَك آيةً للناس وانظرْ إلى العظامِ كيف نُنشِزُها ثمّ نكسوها لحماً فلمَا تبيّن له قال أعلمُ أنّ الله على كلّ شئ قدير (٢٥٩))(البقرة) .
ولذلكَ في الأثرِ المرويُّ عن عليّ رضي الله عنه : (من ماتَ قامت قيامتُهُ)(معناه صحيح وفي رفعِهِ كلام) ,لأنه ليسَ بينَه وبينَها إلا باقِي سنينِ عُمُرِه .
أيُّها المؤمنون عبادَ الله …

ولمَّا يُبعَثُ الناسُ يومَ القيامةِ يشعرُون بأنَّ بقاءهم فيما مضى كالحُلْمِ العابر ,قال تعالى : (كأنَّهُم يَومَ يرَونها لم يلْبَثُوا إلا عشيةً أو ضُحَاها(٤٦))(النازعات) 
أيُّها المؤمنون عبادَ الله …

جعل اللهُ تعالى النومَ شاهِداً وعبرةً ,فالنومُ هو الوفاةُ الصُّغرى ,ويرى فيه النائمُ من العوالمِ المختلفةِ ,ولكن يبقَى لهُ ارتباطٌ بالجسدِ ,وقد يرى الرؤيَا السعيدة يرجُوا ألا تنتهي ,ويرى العذاب في نومِهِ كذلك ,وأمَّا الموتُ فهو الوفاةُ الكُبرى ,يكونُ فيه افتراقُ الروحِ والجسد .
قال تعالى : (اللهُ يتوفَّى الأنفسَ حينَ موتِهَا والتي لم تمُت في منامِهَا فيُمسِكُ التي قضى عليها الموتَ ويُرسلُ الأخرى إلى أجلٍ مسمَّى إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرُون (٤٢))(الزمر) .
عبادَ الله …

من أدلة ثبوت نعيم وعذابِ القبر في القرآن والسنّة :
   ١- قول الله تعالى ,مُخبِراً عن الرجل المؤمن ناصحاً أهلَ القرية : (اتَّبِعُوا من لا يسألُكُم أجراً وهُم مُهتدُون (٢١) وما لِيَ لا أعبُدُ الذِي فطرنِي وإلِيهِ تُرجَعُون (٢٢) ءَأتَّخِذُ من دونِهِ آلهةً إن يُرِدنِ الرّحمن بضُرٍّ لا تُغنِ عنِّي شفاعتُهم شيئاً ولا يُنقِذُون (٢٣) إنِّي إذاً لفي ضلالٍ مُبين (٢٤) إنِّي آمنتُ بِرَبَّكُم فاسمعُون (٢٥) قِيلَ ادخُلُوا الجنَّة قال ياليتَ قومِي يعلمُون (٢٦) بمَا غفَرَ لي ربِّي وجعَلَني من المُكرَمين (٢٧))(يس) .

ولمَّا قُتِلَ الشهداء في بئرِ معونة غَدْراً حدثَ لهُم ما ذكرَه أنس رضي الله عنه : (جاءَ ناسٌ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ,فقالوا :ابعثْ معنا رِجَالاً يعلمونا القرآن والسنّة ,فبعثَ إليهِم سبعِينَ رجُلاً من الأنصارِ ,يُقالُ لهمُ القرّاء ,فيهِم خالي حرام ,يقرؤون القرآنَ ويتدارسونه بالليل يتعلّمون ,وكانوا بالنهار يجيئون بالماءِ ,فيضَعُونَهُ في المسجدِ ,ويحتطبُونَ فيبيعُونَه ويشترُون به الطعام لأهلِ الصُّفَّة وللفقراء ,فبَعَثَهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم إليهِم ,فعَرَضُوا لهم فقتلُوهُم قبلَ أن يبلُغُوا المكان ,فقالوا :اللهم بلِّغ عنَّا نبيَّنا أنَّا قد لقيناكَ فرضِينَا عنك ورضيتَ عنّا ,فقال رسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم : (إنّ إخوانكُم قد قُتِلُوا وقالوا :اللهمّ بلّغ عنّا نبيّنا أنّا قد لقيناكَ فرضينا عنكَ  ورضيتَ عنّا)) رواه مسلم .
     ٢- وقوله تعالى عن آلِ فرْعون : (النّارُ يُعرَضُونَ عليها غُدُوَّاً وعشِيَّاً ويوم تقُومُ الساعةُ أدخلُوا آل فِرعَونَ أشدَّ العذاب(٤٦))(غافر) ,ويبيِّن النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله : (إذا مات أحدُكُم ,عُرِضَ عليه مقعدُهُ بالغداةِ والعشيّ ,إن كانَ من أهلِ الجنّة فمن أهلِ الجنة ,وإن كانَ من أهلِ النارِ فمن أهلِ النّار ,فيُقالُ :هذا مقعدُكَ حتَّى يبعثك الله تعالى)(متفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما) .

أسأل الله تعالى أن يقينا عذاب القبر ,وأن يجعلنا من السعداء المفلحين .
قلت ما سمعتم وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم فاستغفِرُوهُ إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه ,والشكرُ له على توفيقه وامتنانه ,وأصلي وأسلّم على عبدِهِ ورسولِهِ الداعِي إلى رِضوانِه ,وعلى آلِه وصحبه ومن اتَّبعه إلى يومِ الدينِ …

أيها المُؤمنون عبادَ الله …

-من أسبابِ عذابِ القبر :

١- ترك الصلاة ,إذ تركها كفر كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم : (بين الرجل والشرك-أو الكفر- ترك الصلاة) ,و(العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) .

٢- النميمة والغيبة ,وهي نقلُ الكلام للإفسادِ ,والغيبة ,وأذِيّة الناسِ باللسان ,وعدمُ الإستتار من بولِهِ ,عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قبرينِ فقالَ : (إنَّهما ليعذَّبان وما يُعذَّبانِ في كبير,أمَّا أحمدُهما فكان لا يستترُ من بولِهِ ,وأما الآخرُ فكان يمشي بينَ النَّاسِ بالنميمة) ,ثمَّ أخذ جريدةً رطبةً فشقَّهَا باثنتين وغرز في كلِّ قبرٍ منهما واحدة ,وقال : (لعلَّه يخفَّف عنهما ما لم ييبسا) (متفقٌ عليه) .

أيُّها المؤمنون عبادَ اللهِ …

وأمَّا نعيمُ البرزخ فأعلاهُ :

١- منزلةُ الأنبياء والمرسلين ,في الملأ الأعلى ,وقد لقيهُم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم في المعراج ,ولمَّا توفّي قال :(في الرفيق الأعلى) .

٢- منزلةُ الشهداءِ في سبيل الله عزّوجلّ ,قال تعالى : (ولا تحسبنَّ الذين قُتِلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربِّهِم يُرزَقُون (١٦٩))(آل عمران) ,وفي صحيح مسلم ,قال مسروق بن الأجدع :سألنا عبد الله رضي الله عنه عن هذه الآية : (ولا تحسَبَنَّ الذين قُتِلُوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربِّهِم يُرزقُون (١٦٩))  ,قالَ :أمَا إنَّا قد سألنا عن ذلكَ ,فقالَ : أرواحُهُم في جَوفِ طيرٍ خُضرٍ ,لها قناديلُ مُعلّقةٌ بالعرشِ ,تسرحُ من الجنَّة حيثُ شاءتْ ,ثمَّ تأوي إلى تلكَ القناديل ,فاطَّلعَ إليهُم ربُّهُم اطِّلاعةً ,فقال :هل تشتهُونَ شيئاً ؟ ,قالوا :أيّ شئٍ نشتهِي ونحنُ نسرحُ من الجنّة حيثُ شئنا ؟ ,ففعلَ ذلكَ بهِم ثلاث مرَّات ,فلمَّا رأوا أنَّهُم لن يُترَكُوا من أن يُسألوا .قالوا :يا ربِّ ,نُريدُ أن تُرَدّ أرواحُنا في أجسادِنا حتَّى نُقتَل في سبيلِك مرةً أخرى ,فلمَّا رأى أن ليس لهم حاجةٌ تُرِكوا .

اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنة   

المرفقات

1734102414_نعيم وعذاب القبر.docx

المشاهدات 225 | التعليقات 0