عالمية الأخلاق الإسلامية للشيخ السيد مراد سلامة

الشيخ السيد مراد سلامة
1440/03/13 - 2018/11/21 22:47PM

Smiley face

عالمية الأخلاق الإسلامية
للشيخ السيد مراد سلامة
الخطبة الاولى 
أما بعد:

أمة الحبيب المحبوب-صلى الله عليه وسلم – نقف اليوم مع عالمية الأخلاق في الرسالة الإسلامية لنتعرف على جانب مشرق من جوانب الشريعة الغراء، لنتعرف على الأخلاق التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم – وكيف كانت تلك الأخلاق عالمية في طبعها فهي لا تفرق بين عربي ولا عجمي ولا بين أبيض ولا أسود ولا بين مسلم و كافر فالأخلاق في الإسلام تتسم بالثبوت فهي ثابتت لا تتغير و لا تتلون

يقول الرافعي-رحمه الله-لو أنني سئلت أن أُجمل فلسفة الدين الإسلاميَّ كلها في لفظين، لقلتُ أنها: ثبات الأخلاق، ولو سئل أكبر فلاسفة الدنيا أن يوجز علاج الإنسانية كله في حرفين، لما زاد على القول إنه ثباتُ الأخلاق، ولو أجتمع كلُّ علماء أوربا ليدرسوا المدنية الأوربية ويحصروا ما يعوزها في كلمتين لقالوا: ثباتُ الأخلاق.

وقديماً حارب المسلمون، وفتحوا العالم، ودوّخوا الأمم، فأثبتوا في كل أرض هدى دينهم وقوة أخلاقهم الثابتة، وكان من وراء أنفسهم في الحرب ما هو ورائها في السَّلم، وذلك بثبات باطنهم الذي لا يتحول، ولا تستخفه الحياةُ بنزقها، ولا تتسفّهُه المدنيات فتحمله على الطيش.([1])

  • يقصد بثبات الأخلاق الإسلامية إن الفضائل الأساسية للمجتمع من صدق ووفاء وأمانة وعفة وإيثار من الفضائل الاجتماعية المرتبطة بنظام الشريعة العامة كالتسمية عند الطعام وإفشاء السلام وتحريم الخلوة بالأجنبية، كلها أمور لا يستغني عنها مجتمع كريم، مهما تطورت الحياة، وتقدم العلم بل تظل قيما فاضلة ثابتة.

اعلموا يا رعاكم الله: أن الأخلاق في الإسلام لا تتغير ولا تتطور تبعا للظروف الاجتماعية والأحوال الاقتصادية، بل هي حواجز متينة ضد الفوضى والظلم والشر، كما قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]

وإليكم أيها الأحباب صورا مشرقة من الأخلاق الإسلامية التي اتسمت بالعالمية:

 أولا: الرحمة رحمة عالمية: الرحمة في الإسلام خلق عظيم بل قصر وحصر الله الرسالة و الرسول في كلمة واحدة ألا و هي الرحمة فقال سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]

قال ابن عباس في تفسيرها:" من آمن بالله ورسوله تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما كان يصيب الأمم في عاجل الدنيا من العذاب من الخسف والمسخ والقذف فذلك الرحمة في الدنيا " ومصداق هذا في كتاب الله عز وجل حيث قال: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ [الأنفال: 32، 33].

وها هو صلى الله عليه وسلم يعلنها رحمة عامة بكل من في الأرض من إنس وحيوان وهوام وجماد فيأمرنا ويحضنا على الرحمة بالجميع لننال رحمة الله -تعالى – عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما -: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله» ([2])

شمولية رحمته –صلى الله عليه وسلم-العالمين جميع العالم: والرحمة التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم-عم نورها جميع تلك العوالم رحمة حتى بالطير:

عن ابن مسعود -رضي الله عنه -قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تُعَرِّشُ [([3]) فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((من فجع هذه بولدها ؟، ردوا ولدها إليها)). ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: ((من حرق هذه؟)) قلنا: نحن قال: ((إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار)) ([4])

 رحمة بالمخالفين من الأمم والشعوب التي لم تؤمن به:

وهام بعض الصحابة –رضي الله عنهم – يسألون النبي – صلى الله عليه وسلم-أن يدعو على المشركين بالهلاك والعذاب فكان رد النبي الأواب – صلى الله عليه وسلم أنه لم يبعث لعانا وإنما هو رحمة ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» .([5])

وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر -رضى الله عنه -أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتولة، فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل النساء والصبيان".([6])

رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم بغلامٍ يهودي:

أيها الأحباب: وتشمل الرحمة المهداة مخالفيه من اليهود من أهل الكتاب فيعود مرضاهم ويتفقد  أحوالهم

كان غُلامٌ يهوديّ يَخدُمُه صلى الله عليه وسلم فمَرِضَ, فأتاهُ النبيّ صلى الله عليه وسلم يَعودُهُ, فقعَد عندَ رأسهِ فقال لهُ: «أسلِمْ». فنظَرَ إلى أبيهِ وهوَ عندَهُ, فقال له: أطِعُ أبا القاسِم صلى الله عليه وسلم، فأسلمَ، فخَرَجَ النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «الحمدُ للّهِ الذي أنقَذَهُ منَ النار»([7])

عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها) ([8])

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه ، على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إن دوسا عصت وأبت ، فادع الله عليها ، فقيل : هلكت دوس ، قال : ( اللهم اهد دوسا وأت بهم ) ([9]) رواه البخاري

ثانيا: العدل عادلة عالمية

اعلم بارك الله فيك: أن العدل أساس الملك و بالعدل قامت السماوات والأرض و الشريعة الغراء جاءت لتعمم العدل على جميع العالمين على المسلمين و غير المسلمين على المحاربين و غير المحاربين فهي بحق شريعة عالمية عادلة يقول الله تعالى﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58]

العدل أساس الملك:

مع كل الناس كافرهم ومؤمنهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، أبيضهم وأسودهم، الرئيس والمرؤوس، الحاكم والمحكوم، كيف؟ قال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8] أي: لا تحملكم عداوتكم وخصومتكم لقوم على ظلمهم، بل يجب العدل مع الجميع سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء.

قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

يقول الرب تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8]،

وقال ابن كثير: "ومن هذا قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يَخْرُص على أهل خيبر ثمارَهم وزرعهم، فأرادوا أن يَرْشُوه ليَرفُق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخَلْق إليَّ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض" ([10])

هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله -يأمر مناديَه أن يُنادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، قام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: وما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس، ما تقول؟ قال: نعم، أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى، فقال عمر: نعم، كتاب الله أحق أن يُتَّبع من كتاب الوليد، قم فاردُد عليه ضيْعتَه فردَّها عليه. ([11])

اشتكى يهودي عليًّا إلى عمر رضي الله عنهما، وكان جالسًا بجانبه، فقال له عمر: "قم يا أبا الحسن، قف بجانب اليهودي موقف القضاء"، وبعد تبرئة علي باعتراف اليهودي، لاحظ عمر على وجه عليٍّ تَغيُّرًا، فقال له: "أوَقد ساءك أني أوقفتك بجانب اليهودي موقف القضاء"، فقال علي: "لا، وإنما خشيت ظنَّ اليهودي مُحاباتي عليه؛ لما ناديته باسمه، وناديتني بيا أبا الحسن"، وهذا عمر رضي الله عنه أيضًا يقول في رسالته إلى أبي موسى الأشعري يوصيه: "ساوِ بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك".

مَلْكنا فكان العدلُ منا سجيَّة    فلما ملكتُم سال بالدم أبطحُ
وحلَّلتم قتْلَ الأسارى وطالما    غدونا على الأسرى نَمُن ونَصفَحُ
فحسْبُكم هذا التفاوتُ بينَنا     فكل إناء بالذي فيه يَنضحُ". ([12])

يقول غوستاف لوبون: "فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين راحمين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سَمْحا مِثل دينهم"؛ ([13])

ويقول أحد الكتاب الأمريكيين المعاصرين، وهو آندرو باترسون: "إن العنف باسم الإسلام ليس من الإسلام في شيء، بل إنه نقيض لهذا الدين الذي يعني السلام لا العنف"؛ ([14])

ثالثا: خلق الوفاء وفاء عالمي شمولي

و من الأخلاق العالمية التي هي من أسس الأخلاق في الإسلام الوفاء بالعهود و المواثيق   ولقد أمر المولى سبحانه عباده بالوفاء ونهاهم عن الغدر ونقض العهود فقال سبحانه﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34].

وقال سبحانه﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ ﴾ [النحل: 91].

وقال﴿ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأنعام: 152].

وقال سبحانه﴿ وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 95]، ومن هنا وجب على كل مسلم ومسلمة الوفاء بالعهود التي أخذها الله علينا وأخذناها على أنفسنا.

والذي يتدبر القران الكريم والسنة النبوية المطهرة ليجد أن الوفاء ليس مقصورا على المسلمين أنفسهم بل هو عام لكل إنسان على ظهر الأرض فيجي الوفاء بالعهد ولا ينظر إلى دين المعاهد ولا لونه ولا وطنه فالكل سواء أمام شريعة رب الأرض والسماء

قال -تعالى -: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91].

تعال أخي المسلم إلى سيرة مَن علَّم البشريَّة الوفاء بالعهد، إلى سيرة سيِّدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - لنأخذ موقفًا واحدًا من المواقف العظيمة التي جسَّد فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خُلق الوفاء بالعهد.

قبل غزوة "بدر" يخبره حذيفة بن اليمان، والحديث في "صحيح مسلم": أن كفَّار "قريش" قد أخذوه قبل أن يدخل المدينة هو وأبا حُسَيل، فقالوا إنكم تريدون محمدًا، قلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عَهْد الله وميثاقه لننصرفَنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معك يا رسول الله.

فماذا قال لهما صاحب الوفاء يا تُرى؟ ماذا قال لهما مَن بعثه الله ليتممَ به مكارم الأخلاق؟ ومع أنه كان في أشد الحاجة إلى الرجال ليقاتلوا معه ضد المشركين، المشركين الذين أخرجوه من مكة، الذين سفكوا دماء المسلمين واستحلوا أموالهم، وعذبوهم أشد العذاب، وبالرغم من كلِّ هذا، قال لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ((انصرفَا نَفِي لهم بعَهْدِهم، ونستعين الله عليهم))([15]).

يرسل إليه أبو عبيدة بن الجرَّاح يستفتيه في فتوى غريبة جدًّا، ويقول له: إنَّ أحد الجنود قد أمَّن قرية من بلاد العراق على دمائهم وأموالهم وهي في طريقنا، فماذا نصنع؟ وتأمَّل معي في هذا الموقف الغريب: جندي - لا يُعرف اسمه - من جيش المسلمين يُعطي الأمان لقرية بأكملها، وربَّما هذه القرية إن لم تفتح فقد تكون ثغرة عظيمة يتضرَّر بها المسلمون كثيرًا إذا انقلبت عليهم.

فبماذا أجابه الفاروق عمر -رضي الله عنه؟ قال بعد حمد الله والثناء عليه: "إن الله - تعالى - قد عظَّم الوفاء، ولا تكونون أوفياء حتى تفوا، فأوفوا لهم بعهدهم واستعينوا الله عليهم".([16])

وفاء مع المؤمنين ووفاء مع المخالفين

وتأمل في قول الله -عز وجل -: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58].

قال أبو جعفر الطبري: "يقول تعالى ذكره: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ ﴾ - يا محمد - مِن عدوٍّ لك بينك وبينه عهد وعقد: أن ينكث عهده، وينقض عقده، ويغدر بك، وذلك هو الخيانة والغدر: ﴿ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾ يقول: فناجزهم بالحرب، وأَعْلِمْهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم بما كان منهم من ظهور أمارِ الغدر والخيانة منهم، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبين أن يغدر به، فيحاربه قبل إعلامه إياه أنه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد.

كان من شروط صلح الحديبية أن يردَّ المسلمون من جاءهم من قريش مسلمًا دون أن يأذن أولياؤه، فلما عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم المعاهَدةَ مع سهيل بن عمرو، جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلن إسلامه، فلما رأى سهيل أبا جندل، قام إليه فضرب وجهه ثم قال: يا محمد، قد لجَّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا، قال: ((صدقت))، فقام إليه فأخذ بتلابيبه، وصرخ أبو جندل بأعلى صوته: يا معاشر المسلمين، أتردونني إلى أهل الشرك فيفتنوني في ديني؟! فزاد الناس شرًّا إلى ما بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله - عز وجل - جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نغدر بهم)).([17])

ومن صور الوفاء التي حث عليها الله وأمر بها الوفاء مع العدو وعد الغدر والخيانة، يقول المولى سبحانه وتعالى ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4].

ومن صور الوفاء مع العدو أيضاً أن معاوية -رضي الله عنه -كان بينه وبين الروم أمد، فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول:" الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: " من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم، عهدهم على سواء " فبلغ ذلك معاوية فإذا الشيخ عمرو بن عبسه "([18])

وفي خلافة عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى عدي بن أرطأة: "وانظر من قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه ([19])

ومن عجائب ما يؤثر إبان فتح الأندلس أن امرءًا أسبانياً اعتدى على فتى من العرب وقتله، ثم فر هاربا حتى رأى بستاناً فلجأ إليه فدخله فوجد فيه شيخاً جليلاً فاستجار به ليجيره من شر أعدائه فخبأه الرجل في مكان منفرد، ثم ارتفع الصياح بفناء البستان ودخل نفر من الناس يحملون القتيل فنظره الشيخ فوجده ابنه، واعتقد أن ذلك الشاب الذي التجأ إليه هو الذي قتل ابنه، فأخذ منه الحزن مأخذه، ولكن الشيخ قد أخفى حزنه وانتظر حتى أقبل الليل وهدأت الأصوات ثم قام ودخل على الفتى وأنبأه بنبئه الحادث المؤلم فهلع فؤاد الفتى لهول المصاب، وكاد يموت من الخوف ولكن الرجل رأى من الوفاء أن يؤمن ويهدئ روعه حتى سرى عنه، ثم قال: ما كنت لأخفر ذمتي وأنقض عهدي معك، ولكن لا آمن عليك من قومي أن يقتلوك فخذ مؤونة سفرة وارحل عني والله ولي أمري".

أقول قولي وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والإيمان، ولك الحمد أن جعلتنا من أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أما بعد:

رابعا: الإحسان إحسان عالمي:

ومن الأخلاق الرفيعة التي جاء بها دين الإسلام خلق الإحسان وعندما نقلب صفحات القران الكريم والسنة المطهرة نرى بوضوح أن هذا الخلق خلق عالمي عاش تحت مظلته الناس قاطبة بل تعداهم حتى شمل الحيوان الأعجمي

ويتضح ذلك في فتح مكة حينما دخلها رسول الله والمسلمون، وقد أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم سادة مكة، فقال لهم: "ما تظنون أنى فاعلٌ بكم" قالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم. فقال قولته المشهورة والتي دان له بها أهل قريش من المشركين بعد فتح مكة، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".([20])

يقول ول ديورانت: "لقد كان أهل الذمة (المسيحيون والزردشتيون واليهود والصابئون) يتمتَّعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح لا نجد نظيرًا لها في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحرارًا في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم، وكانوا يتمتَّعون بحُكْم ذاتي يخضعون فيه لعلمائهم وقضاتهم وقوانينهم" ([21])

وهذا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه يُوصِي أسامةَ بن زيد وجيشه: "يا أيها الناس، قفوا؛ أُوصِكم بعشرٍ، فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغدِروا ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تَعقِروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مُثمِرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسَهم في الصوامع، فدَعُوهم وما فرَّغوا أنفسهم له"([22])

مرّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلي ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه فوالله ما أنصفناه، أن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" والفقراء هم المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه (([23])

 

[1] -مجلة الرسالة/العدد 115

[2] -أخرجه الحميدي (591) و (592). وأحمد (2/ 160) (6494).

[3] -أي: ترفرف بأجنحتها. انظر: معالم السنن 2/ 245.

[4] -أخرجه: البخاري في " الأدب المفرد " (382)

[5] -أخرجه مسلم (4/ 2006، رقم 2599)

[6] - أخرجه مالك «الموطأ» (277). وأحمد (2/22) (4739)

[7] - أخرجه: البخاري 2/118 (1356) .

[8] - أخرجه أحمد (4/89 ، رقم 16862) ، وأبو داود (3/356 ، رقم 3806) .

[9] - أخرجه البخاري (3/1073 ، رقم 2779) ، ومسلم (4/1957 ، رقم 2524)

[10] - تفسير القرآن العظيم (1: 565).

[11] - البداية والنهاية؛ ابن كثير (9: 213).

[12] - علي الطنطاوي، الفتح الإسلامي، مجلة الرسالة.. السنة: 14، العدد: 662.

[13] - حضارة العرب، غوستاف لوبون، ص 720.

[14] -  (لا سكوت بعد اليوم؛ بول فندلي، ص: 91 ).

[15] - صحيح الإمام مسلم (12/ 144) .

[16] - ((مصنف ابن أبي شيبة)) (12/453 و454) ، ((مصنف عبد الرزاق)) (5/222) ، ((سنن سعيد بن منصور)) (2/274) ، ((الأموال)) (ص200، رقم 500) .

[17] -مسند أحمد (18413) بسند صحيح، وأصله عند البخاري في صحيحه.

[18] - الأموال لابن زنجويه (1/ 170)

[19] - كتاب الأموال، أبو عبيد، ص: (57).

[20] - ابن الأثير- الكامل (2/ 252) .

[21] - خلاصة التحقيقات في الرد على الشبهات والتصورات ص 66

[22] - صور من تسامح الحضارة الإسلامية مع غير المسلمين، سلامه الهرفي صـ62 ، نقلاً عن تاريخ الطبري (3/227)

[23] -كتاب الخراج، أبو يوسف، ص: (126).

المرفقات

الأخلاق-الإسلامية

الأخلاق-الإسلامية

المشاهدات 1741 | التعليقات 0