" عاشورا ومصارع الظالمين" د. صالح دعكيك

شادي باجبير
1446/04/22 - 2024/10/25 21:24PM

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة " عاشورا ومصارع الظالمين" د. صالح دعكيك، مسجد آل ياسر، المكلا،12/7/2024م

*الحمد لله رب العالمين.

   يوم عاشورا، وهو اليوم العاشر من شهر المحرم أول الشهور العربية، كان يوما من أيام الله العظيمة، جرت فيه أحداث جسام، بين موسى وقومه، وبين رأس الطغيان في عصره فرعون الذي نصب نفسه إلها!!

   لقد مرت سنوات طويلة من الاستضعاف والاضطهاد، الذي مارسه فرعون وحاشيته، على موسى عليه السلام وبني إسرائيل، قبل بعثة موسى وبعده ، ذلك أن: (فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

      وقد مرت بموسى ومن معه مع فرعون أحداث كثيرة، طالت سنواتها، وجاء في نهاية المطاف أمر الله وسنته الماضية، بنهاية وزوال ملك فرعون، وهو في أشد قوته وجبروته واستعلائه، حيث لم يستطع موسى وبنو إسرائيل المكوث في مصر لكثرة ما أصابهم من البلاء والمحن المتكررة، فقرر موسى الخروج، ولكن طغيان فرعون، وعمى بصيرته، وصل إلى منتهاه، فلم يترك القوم ليختاروا وطنا آخر، ويكون قد تخلص منهم، ولكنه أراد الإمعان في إذلالهم ليستأصلهم، (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ). الشعراء (53-56).

  فرفع موسى يديه داعيا: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) وجاء الجواب: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ).

   ولحق فرعون وجنوده وجحافله أولئك المستضعفين الفارين بدينهم مع رسولهم، فجاء وقت شروق الشمش، والمطاردة على أشدها، (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِين)َ، واقترب جيش فرعون منهم، وقد بلغت القلوب الحناجر، وإذا بالبحر من امامهم، والجبال من حولهم، وجيش فرعون من خلفهم، فلا إله إلا الله، إنها نهاية مخيفة محققة، يقص القرآن تلك اللحظات فيقول: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67). الشعراء.

     كما جاء تصوير موقف فرعون، وحاله عند الملاحقة في سورة يونس: ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)).

      فسبحان الله العظيم، وجل في علاه، فلا يزال ذاك الفرعون المتأله المتغطرس في متحف مصر إلى يومنا.

    إنه حدث عظيم وكبير، جرى في الدنيا في يوم من الأيام، وسجله القرآن، كما سجلته دواوين تاريخ الأمم، إنه حقا لا توجد قصة من قصص الأنبياء احتفى بها القرآن، وكررها كقصة سيدنا موسى عليه السلام، وما ذلك إلا لأخذ العبرة والعظة والدروس، ليعمق في الأمة مفهوم الحق المنتصر أهله بعد النكال، والباطل المنتفش الذي يصل الى نهايته في أوج انتفاخه، وما فرعون إلا نموذج للطواغيت والمتجبرين في الأرض، الذين من فرط جبروتهم واستعلائهم، واستسلام الشعوب لهم ادعوا الألوهية.  

    ومنذ أن نجى الله موسى ومن معه، كان أتباعه وغيرهم كقريش، يصومون يوم عاشورا شكرا لله تعالى، وتخليدا لتلك الذكرى.

    أخرج البخاري (2004) ومسلم (1130) وأبو داود (2444) من حديث عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما: قال: «قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم- المدينةَ، فرأى اليهودَ تصومُ عاشوراء، فقال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنْجَى اللهُ فيه موسى وقومه، وغرَّق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومُهُ، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، فصامه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-، وأمر بصيامه».

    لقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام يوم عاشورا يوما للعبادة بالصوم، والفرح بنجاة موسى وإغراق فرعون، ويوما للتأمل في سبب تعظيم هذا اليوم، ألا وهو انتصار الحق على الباطل، ليكون يوم عاشورا ملهما للأمة حينما تواجه المتكبرين في الأرض على منهج فرعون وطريقته، فعاشوراء حدث قديم، لكنَّه بمغزاه متجدِّدٌ عبر الأمصار والأعصار، إنه يوم انتصر فيه الحق على الباطل.

   ومما نستهدي به من عبر ودروس عاشورا ونستلهمه:

أولا: من ملهمات عاشورا:

   وهو الملهم الأعظم موجه للمقهورين المظلومين، المستضعفين والمغلوبين في الأرض، الذين يحملون مشاعل الهداية للعالمين، بأن الله تعالى يمهل ولا يهمل، ويرى ويسمع، ويجيب الدعاء، إنه يجب عليهم أن يوقنوا بأن الله منجز وعده رسله، وأنه حق على الله نصر المؤمنين، والتمكين لهم، متى نصروه، ومتى آمنوا وعملوا الصالحات، قال تعالى حاكيا عن موسى تضرعه بعد سني العذاب والبلاء: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89). يونس.

   نعم الإيمان والاستقامة والصبر على التمسك بالحق والتوحيد، وعدم اتباع أهل الأهواء، طريق عظيم، به يُستنزل النصر من الله الكريم.

    إن يوم عاشورا سلوى لمن حطّم الطغيان قلبه، وبارقةُ أمل لمن اعتصر اليأس نفسه، وشعاعُ نور لمن ضل طريق الحق، ومشى في موكب الظالمين.

ثانيا: من ملهمات عاشورا:

    أن سقوط المتجبرين قد يكون أسرع مما يتوقعون وهم في نشوة قرب الانتصار، فقد أخذالله فرعون وجنوده في لمحة بصر، وهو في أشد سطوته، وعنفوان قوته، وأوج انتصاره، في لحظة يقينه بأنه منتصر لا محالة، لم يبق معه حينما واجههم البحر إلا أن يحس رؤوسهم، ويقطع أجسادهم، وينهي وجودهم، كان أقرب ما يكون إلى نصر رخيص ، فأراد الله أن يلقنه درس الموت المهين في وحل البحر، ويغرقه وسط جنوده وحاشيته، وسقط  فرعون من أعلى نقطة جبروت يمكن أن يصل إليها إنسان، بعد أن ادعى الألوهية!!

   فيالله ، كم يحلم الله على أناس عصوا تجبروا وتسلطوا وظلموا وأداروا ظهورهم لحلم الله، فحاق عليهم مكرهم وظلمهم، (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله).

   فلا ينبغي أن يستبعد أهل الإيمان زوال الباطل وهو في أعتى أيامه وأقواها، إن موسى لما دعا الله وهو في أحلك المواطن، حينما قال له قومه:( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ )، أجاب داعيا بقلب ولسان اليقين: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) قال أهل العلم: والله ما انتهى موسى من نون سيهدين حتى أوحى الله إليه بقوله: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْر ). بالفاء التي تدل على الترتيب والتعقيب، سرعة إليه بأن الفرج جاء من عند الله جل في علاه.

فالزم يديك بحبل الله معتصما  ***  فإنه الركن إن خانتك أركان

من استجار بغير الله في فزع   *** فإن ناصره عجز وخذلان

  ثالثا: من ملهمات عاشورا:

      أن كل ما في هذا الكون مسخر لله جل وعلا، والكون كله جندي من جنود الله جل وتعالى، يسخره كيف يشاء، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ). ِ [المدثر:31]

  والله عزوجل يهلك المتجبرين بأصغر خلقه، بالريح أهلك الله قوم عاد، بالصيحة قوم تمود، وبالحاصب قوم لوط، وبالماء أهلك الله جل وعلا به قوم نوح، وأغرق به فرعون وقومه، إنه ما أهون الخلق على الخالق حين يعصونه ويستكبرون عن عبادته، قال تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). العنكبوت (40).

    بارك الله لي ولكم في القرآن الكرين، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ....

 

 

((الخطبة الثانية))

  رابعا: من ملهمات عاشورا:

    إن مما نستلهمه من قصة يوم عاشورا أنه نستشرف الأمل بعد الصبر والثبات، وكيف ننظر ولادة النور من رحم الظلمات، إننا يجب أن نتفاءل بخروجِ الخيرِ من قلبِ الشَّر، وإطلال الفَرج من عمق الأزماتِ.

    إن لله في كونه وفي خلقه شئونا، فكم من منحة خرجت من بعد محنة، وكم من أمل جاء بعد الألم، إن المؤمن ينبغي أن يعيش في تفاؤل دائم، وإن أحلكت الظلمات، فالفجر لا يبزغ إلا بعد شدة الظلمة، قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

ولرب نازلة يضيق بها الفتى ***  ذرعا وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ***  فرجت وكان يظنها لا تفرج

   إن أمتنا هذه أمة مرحومة، كم أقامها الله بعد كبوات، وكم أفاقها الله بعد غفوات، وكم نصرها بعد مذلات، أمة تمرض لكن لا تموت، وتغفل لكن لا تسقط، أمة لا يُدرَى خيرُها في أوّلها أم في آخِرها، أمة منصورة ما استمسك بكتابربها، وهدي نبيها صلى الله عليه وسلم،﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾. المجادلة: (21).

    يوم عاشوراء حُقَّ لكل مؤمن أن يعرف قدره ومقداره،

   ينبغي وأن يجعل من يوم عاشورا معلما من معالم الاستيقاظ بعد الغفلة، والأمل بعد اليأس، وشحذ للهمم نحو المستقبل، ويوما للعبادة بالصوم، وتذكيرا بآيات الله في الكون.

   ثبت في الصحيحين البخاري (2006)، ومسلم (1132) عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره، إلا هذا اليوم: يوم عاشوراء، وهذا الشهر؛ يعني: شهر رمضان).

وقد ذكر بعض الفقهاء أن صيام عاشوراء ثلاث مراتب:

1ـ صوم التاسع والعاشر والحادي عشر، وقد ذكر ذلك الشافعي وغيره.

2ـ صوم التاسع والعاشر، وهو الذي جاء فيه حديث: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع). رواه مسلم (1134).

3ـ صوم العاشر وحده. [زاد المعاد:2/76]. ولا يكره إفراد اليوم العاشر بالصوم البتة.

  اللهم أعنا على طاعتك، وجنبنا مساخطك، وألهمنا رشدنا يارحمن.

  ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

        والحمد لله رب العالمين.

المشاهدات 26 | التعليقات 0