عاشوراء ونصر فلسطين
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ وجعلَ الظلماتِ والنورَ، الحمدُ للهِ كما ينبغي لجلالِ وجهِه، وعظيمِ سُلطانِه، الحمدُ للهِ حمدُ الشاكرينَ، والشكرُ له شكرُ الحامدينَ، أهلٌ هو أن يُعبدَ، وأهلٌ هو أن يُحمدَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، له الحمدُ في الأولى والآخرةِ وله الحُكمُ وإليه تُرجعونَ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، أعظمَ الحامدينَ، وأكثرَ الشاكرينَ، أثنى على ربه حَمداً، فزاده تَشريفاً ومجداً، اللهمَّ صلِّ على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلمَ تسليماً كثيراً .. أما بعد:
أيُّها الأحبَّةُ .. ونَحنُ نَنتَظرُ يَومَ عَاشوراءَ الكَريمَ، يومَ التَّمكينِ والنَّصرِ العَظيمِ، عِندَمَا أَنجى اللهُ تَعَالى نَبيَّهُ مُوسى الكَليمَ، وأَغرقَ فِرعونَ صَاحِبَ الفِعلِ الأَثيمِ، دَعونَا نَربِطُ أَحدَاثَ المَاضي بأحدَاثِ الحَاضرِ، ونَستَشرفُ المُستَقبلَ في النَّظرِ إلى سُنَّةِ اللهِ القَاهرِ، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً).
تَأَمَلوا في هَذا المَوقفِ لِمُوسى عَليهِ السَّلامُ: (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ)، فَقَتَلَ رَجُلاً قِبطيَّاً بِالخَطأِ، ولَمَا ذَكَّرَهُ فِرعونُ بِتَربيتِهِ لَه، وعَابَ عَليهِ هَذا العَملَ، قَالَ لَهُ مُوسى:) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ)، فَكَنتُ مُخطِئاً في قَتلِ رَجلٍ وَاحدٍ، وَأَما أَنتَ يَا فِرعونُ: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، فَكَيفَ أَصبحَ لَكَ الحَقُّ أن جَعلتَهم عَبيداً لَكَ وسَخَّرتَهم في شَاقِّ الأعمَالِ، وقَتلتَ أبنَاءَهم بِغَيرِ حَقٍّ، وأبقيتَ نِسَاءَهم، ثُمَّ تَعيبَ عَليِّ نَفسَاً واحدةً قَتلتَها بِالخَطأِ، فَأيُّ مِيزانٍ تَزِنُ فِيهِ الأمورَ يَا فِرعونُ.
واليَومَ نَرى الآلافَ مِنَ الأَطفالِ والنِّساءِ وكِبارِ السِّنِّ يُقتَلونَ دُونَ ذَنبٍ أو جَريمةٍ، إلا بِسَببِ فِعلِ يَومٍ وَاحدٍ مِن مَجموعةٍ قَليلةٍ، قَد تَكونُ أَصابتْ أو أَخطأتْ في اجتِهَادِها، ولَكِنْ أَخبِروني: مَن يَصبرُ عَلى هَذا العَدوِّ الغَاشمِ وَهو مِن سِنينَ عَديدةٍ يَسومُهم سُوءَ العَذابِ نَهَاراً ولَيلاً، أَسراً وتَعذيباً قَتلاً، واعتداءً عَلى الأرضِ والمُمتَلَكاتِ، وانتِهَاكاً لِلمَساَجدِ واِلمُقدَسَاتِ، لا يَرقبُ فِيهِم عَهداً ولا اتفَاقيَاتٍ، ولا يَردَعُه قَانونٌ ولا عُقوباتٌ، ثُمَّ يَأتي من يُطَالبُ بِضبطِ النَّفسِ.
وأَما المَوقِفُ الثَّاني: فَهو لِفِرعونَ وَهو يُقدِّمُ لِمُوسى عَليهِ السَّلامُ تِلكَ الخِدمَةَ الخَطيرةَ، بِتَهيئةِ وَسَائلِ الإعلامِ الكَبيرةِ، لِعَرضِ مَا عِندَه مِن الحقِّ والهُدى، قَالَ: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى * قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى)، واجتمع النَّاسُ مِن أَقطَارِ البَّرِ والبَحرِ، وظَهَرَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَّاطِلَ والسِّحرَ.
وَهَكَذا عِندَمَا جَاؤوا بِالإعلامِ الدَّوليِّ لِيَرى مَا فَعَلَهُ طُوفانُ الأقصى في مُستَوطَناتِهم، فَرأى أَحدَاثاً غَامضةً، مِن اختِراقٍ لأَحدَثِ أَجهزةِ المُراقبةِ، ووصولٍ إلى أَكثرِ الأمَاكنِ المُحصَّنَّةِ، بِأَفرادِ جَيشٍ عَاديٍّ، وسِلاحٍ مَحَليٍّ، مَعَ عَدَدِ قَتلى غَيرِ دَقيقٍ، وعَدَدَ أَسرى لَيسَ بِالكَثيرٍ، ولَكِنْ عِندَمَا نَظَرَ الإعلامُ في الجِهَةِ المُقَابلةِ رأى مَا تَتَقَطَّعُ لَهُ القُلوبُ، وتَدمَعُ لَهُ العُيونُ، وتَذهلُ مِنهُ العُقولُ، عَشَراتُ الآلافِ مِن الأشلاءِ المُبَعثرةِ، وآلافٌ مِن البُيوتِ وقُرى كَاملةٌ مُدَمَّرَةٌ، مُستَشفيَاتٌ قَد قُصِفَتْ، ومَدارسُ قَد استُهدِفَت، وقَطعٌ لإمدادَاتِ الطَّعامِ والشَّرابِ والدَّواءِ، وكلُّ ذلَكَ يُبثُّ لِلعَالمِ عَلى الهَواءِ.
وَكَما: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)، فَإنَنا نَرى مِن قُوَّةِ الصَّبرِ في أَهلِ فِلسطينَ، ما أَثَارَ الدَّهشَةَ في عُقولِ العَالمينَ، ثَباتٌ كَثَباتِ الجِبالِ، شُيوخٌ ونِساءٌ وأطفَالٌ، كَلِمَاتُ الحَمدِ والثَّناءِ، وثِقَةٌ بِوَعدِ ربِّ السَّماءِ، وكَم مِن دَعوةِ مَظلومٍ، قَد اختَرَقتْ في آخرِ اللَّيلِ الغُيومَ، حَتى وَصَلَتْ لِرَبِّ العَالمينَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي لأنصُرَنَّكِ ولو بَعدَ حِينٍ.
وبَينَ تِلكَ المَواقفِ المُزعِجَةِ، تَأتي البَشائرُ المُبهِجَةُ، (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى)، وكَمَا ظَهَرَ كَيدُ البَاطلِ عِندَمَا ألقى مُوسى عَصَاهُ، ظَهَرَ الدِّينُ الحَقُّ عِندَمَا ألقى اللهُ تَعالى هُداهُ، فَدَخلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ أَفواجاً بِما رأوا مِن ثَباتِ أهل الحقِّ، وبِما رأوا مِن ظُلمِ البَاطلِ، وهَكَذا يَنتَشِرُ الإسلامُ في الأَرجَاء، عِندَمَا تَسيلُ دِماءُ الشُّهَداءِ، (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ والمسلماتِ من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمدُ الشَّاكرينَ، وأُثني عليه سبحانَه ثناءَ الذاكرينَ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه إمامَ الشاكرينَ وقُدوةَ الموحدينَ، فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلِه وأصحابِه أجمعينَ، ومن اتبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ .. أما بعد:
مِن فَوائدِ أحدَاثِ فِلسطينَ، هُو ظُهورُ أَمرِ المُنَافقينَ، وكَعَادَتِهم في نَصرِ إخوانِهم الذينَ كَفروا من أهلِ الكِتابِ بِالقَلمِ واللِّسانِ، لأنَّهم لَيسوا أَهلاً لِنُصرَتِهم بالسَّيفِ والسِّنانِ، كَما كَشَفَ اللهُ تَعالى حَالَهم فَقَالَ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)، وَظَهَرتَ وَاضِحةً الصُّورةُ القَبيحَةُ لِلكَيانِ المُحتَلِّ، والتي حَاولوا أن يُزَيِّفوها بِالكَذبِ والدَّجَلِّ، فلا تَطبيعَ يَنفَعَ مَعهُ ولا سَلامَ، ولا مَحبةَ يَستَحِقُّها مِنَّا ولا وِئامَ.
وهَكَذا يأتي عَاشوراءُ في كُلِّ عَامٍ بِذِكرى النَّصرِ لأهلِ الحقِّ الصَّابرينَ، ولَيتَ اليَهودُ يَتَذَكَّرونَ كَيفَ نَصَرَهم اللهُ تَعالى عِندَمَا كَانوا مَظلومينَ، فَقَد سَألَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ الْيَهُودَ عَنْ صِيَامِهم يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِيهِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ) فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِه، وَكَانَ يَنوي صِيَامَ التَّاسعِ مُخَالفةً لليَهودِ، وقالَ عليه الصلاةُ والسلام: (صِيَامُ يَوْمِ عَاشوراءَ إنِّي أحْتَسِبُ على الله أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ).
لِمَ الحُزنُ .. والدَّمعُ الذي يَتَحدَّرُ؟ *** وَقَلبُكَ مِنْ فَرطِ الأَسى يَتَفَطَّرُ
لِمَ اليَأسُ والبُؤسُ المُقيمُ .. أَلا تَرى *** بِأنَّ وُعودَ اللهِ لا تَتَغيَّرُ
إذا اكتَبَرَ الأَعداءُ عَدَّاً وَعُدَّةً *** فَلا تَنسَ أَنَّ اللهَ أَعلَى وَأَكبَرُ
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وَأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، وَدَمِّرْ أَعداءَ الدِّينِ، اللهمَّ مُنزلَ الكِتابِ، وَمُجريَ السَّحابِ، وَهَازمَ الأَحزابِ، سَريعَ الحِسابِ، اهزمْ اليَهودَ وَزَلزِلهُم، اللهمَّ عَليكَ بِهم فَإنهم لا يُعجِزونكَ، اللهمَّ أَنزلْ عَليهم رِجزَكَ وَغَضبَكَ وَمَقتَكَ وَبَأسَكَ وَعَذابَكَ إلهَ الحَقِّ، اللهمَّ أَنتَ مَولانا وَنَصيرَنا، وَأَنتَ حَولَنا وَقُوتَنَا، نَسألُكَ رَبَّنا أَن تُفرجَ عن إخوانِنا المستضعفينَ في فِلسطينَ، اللهمَّ تَقبلْ من قُتلَ مِنهم، واشفِ جَرحَاهم، وَعَافِ مُبتلاهم، وَفُكَّ أَسراهم، واجعلْ لهم مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرجَاً، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخرجًا، اللهمَّ انصرهم على عَدوِّكَ وَعَدوِّهم، اللهمَّ أَمدَهم بِمَددٍ من عِندِكَ، وَجُندٍ من جُندِكَ، اللهمَّ يَا حَيُّ يَا قَيومُ، يَا قَويُّ يَا عَزيزُ، انصرْ عِبادَكَ المُوحدينَ في فِلسطينَ وفي كُلِّ مَكانٍ، اللهمَّ مَن أَرادَنا وَأَرادَ دِينَنا وبِلادَنا وَأَمنَنا بِسوءٍ فَأشغله بِنفسِهِ، وَاجعلْ كَيدَهُ في نَحرِهِ، واجعلْ تَدبيرَهُ تَدميراً لَهُ يَا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ وَفِّقْ وَليَ أَمرِنَا لِمَا تُحبُّ وَتَرضَى، اللهمَّ أَمدَهُ بِعَونِكَ وَتَوفيقِكَ، واجعلْ عَملَهُ في رِضَاكَ يَا أَكرمَ الأَكرمينَ، اللهمَّ أَصلحْ لَهُ البِطانةَ، واصرِفْ عَنه بِطانةَ السُّوءِ يَا رَبَّ العَالمينَ، اللهمَّ اغفر للمسلمينَ والمسلماتِ والمؤمنينَ والمؤمناتِ، وَأَلِّفْ بِينَ قُلوبِهم، وَأَصلحْ ذَاتَ بَينِهم، واهدِهم سُبلَ السَّلامِ، اللهم اغفر لَنا ولِوَالدينا ولِجميعِ المسلمينَ بِرحمتِكَ يَا أَرحمَ الرَّاحمينَ.
المرفقات
1720608522_عاشوراء ونصر فلسطين.docx
1720608545_عاشوراء ونصر فلسطين.pdf