عاشوراء وشهر الله المحرم

1437/01/09 - 2015/10/22 22:34PM
الخطبة الأولى : عاشوراء وشهر الله المحرم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين . أما بعد :
عباد الله : إن من نعم الله على عباده أن اختص بعض الأزمنة والأمكنة بمزيد عناية وفضل، ليزداد من اغتنمها ورعى حرمتها إحسانا ، ويبوء من غفل عنها وأهملها خيبة ونقصانا .
ألا وإن من تلك الأزمنة الفاضلة التي أنعم الله بها على أمة محمد صلى الله صلى الله عليه وسلم شهر الله الحرام .
شهر الله المحرم ، شهر عظيم من أشهر العام ، وهو أحد الأشهر الحرم التي نهانا فيها مولانا أن نظلم فيهن أنفسنا ، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها .
قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " .. اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم .
عباد الله : لقد كان أهل الجاهلية يسمون شهر المحرم شهر الله الأصم لشدة تحريمه، قال عثمان الهندي : كانوا يعظمون ثلاث عشرات : العشر الأخير من رمضان ، والعشر الأول من ذي الحجة ، والعشر الأول من المحرم .
عباد الله : ومن فضائل شهر الله المحرم أنه يستحب الإكثار فيه من صيام النافلة ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ". رواه مسلم .
قال ابن رجب رحمه الله : سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشهر شهر الله المحرم فاختصه بإضافته إلى الله ، وإضافته إلى الله ، تدل على شرفه وفضله ، ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله تعالى ، وكان الصيام من بين الأعمال مختصاً بإضافته إلى الله ، ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله المختص به وهو الصوم .
وقال أيضاً رحمه الله تعالى : من صام من ذي الحجة ، وصام من المحرم ، ختم السنة بالطاعة ، وافتتحها بالطاعة ، فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة ، فإن من كان أول عمله طاعة ، وآخره طاعة ، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.
عباد الله : ومما اختص الله به شهر المحرم يومه العاشر وهو عاشوراء ، هذا اليوم الذي احتسب النبي صلى الله عليه وسلم على الله أن يكفر لمن صامه السنة التي قبله،عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء فقال : " احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ". رواه مسلم .
وقد صامه النبي صلى الله عليه سلم تعظيماً لهذا اليوم ، وهو يوم مبارك معظم منذ القدم، فاليهود أتباع موسى عليه السلام كانوا يعظمونه ويصومونه ويتخذونه عيداً وذلك لأنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام من فرعون وقومه، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى" . أخرجه البخاري .
وكذلك النصارى كان لهم حظ من تعظيم هذا اليوم ، بل قريش على وثنيتها وعبادتها الأصنام كانت تصوم يوم عاشوراء وتعظمه؛ تقول عائشة رضي الله عنها : كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية .
ونحن المسلمون أحق بصيام هذا اليوم من أولئك فهو يوم نجى الله فيه موسى ، فنحن أحق بموسى منهم فنصومه تعظيماً له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم .
عباد الله : صوم عاشوراء وإن لم يكن واجباً باتفاق جمهور العلماء فهو من المستحبات التي ينبغي الحرص عليها وذلك لما يأتي :
وقوع هذا اليوم في شهر الله المحرم الذي يسن صيامه .
ولتحري رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام هذا اليوم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال :" ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صوم يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء ". أخرجه البخاري .
ولأن صيامه يكفر السنة الماضية كما ورد في الحديث .
ولحرص الصحابة رضوان الله عليهم على صيام صبيانهم ذلك اليوم تعويداً لهم على الفضل، فعن الربيع بنت معوذ قالت : أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائماً فليصم ، قالت: فكنا نصومه بعد ، ونصوم صبياننا ونجعل لهم الكعبة من العهن ، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار .
ولما ورد عن بعض السلف من صيام عاشوراء حتى وهم في السفر ، جاء ذلك عن ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي والزهري وفيرهم رضي الله تعالى عنهم، وكان الزهري يقول : رمضان له عدة من أيام أخر ، وعاشوراء يفوت ، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر.
عباد الله : إن من فضل الله علينا أن وهبنا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة ، وهذه الذنوب التي يكفرها صيام يوم عاشوراء هي الذنوب الصغائر فقط ، أما الكبائر فلا تكفرها إلا التوبة وقبولها كما أشار إلى ذلك العلماء المحققون كابن تيمية وغيره رحمة الله على الجميع .
واستمعوا عباد الله إلى الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله وهو يحذر ممن يتصور أن صيام عرفة وعاشوراء كاف في النجاة والمغفرة حيث يقول رحمه الله : لم يدر هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة وعاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينها إذا اجتنبت الكبائر ، فرمضان إلى رمضان ، والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها،
فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر ، ومن المغرورين من يظن أن طاعته أكثر من معاصيه لأنه لا يحاسب نفسه على سيئاته ولا يتفقد ذنوبه ، وإذا عمل طاعته حفظها واعتبرها، كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ، ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم ، ويتكلم بما لا يرضاه الله طول نهاره ، فهذا أبداً يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ، ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين إلى غير ذلك من آفات اللسان ، وذلك من محض غرور ... انتهى كلامه رحمه الله .
عباد الله : وأما مراتب صيام عاشوراء فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء ، وثبت عنه أنه قال : لئن بقيت إلى قابل لأصوم من التاسع ، والحديثان في صحيح مسلم .
فصام عليه السلام اليوم العاشر فعلاً وهم بصيام التاسع، والهم هنا يأتي يحاكي الفعل، فهاتان مرتبتان ثابتتان في السنة صيام التاسع والعاشر ، ففي صيام العاشر إدراك للفضل ، وفي صيام التاسع معه تحقيق آكد لمخالفة اليهود ، وذهب بعض العلماء إلى أن مراتب صيام يوم عاشوراء ثلاثة مراتب : صيام التاسع والعاشر، أو صيام العاشر والحادي عشر ، أو صيام التاسع و العاشر والحادي عشر، وذهب فريق من العلماء إلى زيادة مرتبة رابعة وهي صيام العاشر وحده .
وهنا أمر يكثر السؤال عنه وهو ما العمل إذا اشتبه أول الشهر ؟ فلم يدر أي يوم هو العاشر أو التاسع ؟ فيقال ما ذكره الإمام احمد رحمه الله : فإن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاث أيام، وإنما يفعل ذلك ليتيقن صوم التاسع والعاشر ، فمن لم يعرف دخول هلال محرم وأراد الاحتياط للعاشر بنى على ذي الحجة ثلاثين كما هي القاعدة ثم صام التاسع والعاشر.
بارَك الله لي ولكُم في القُرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وتابَ عليَّ وعليكم إنَّه هو التوَّاب الرحيم. أقول هذا وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية عاشوراء وشهر الله المحرم
الحمد لله حمد الذاكرين الشاكرين لنعمه وآلائه, وأصلي وأسلم على أفضل خلق الله وسيد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. أما بعد
عبادَ الله: اغتنموا الأوقات الفاضلة، وبادِروا فيها بالأعمال الصالحة، فإنَّ للأوقات فرصًا ثمينة ينبغي اغتنامُها، واستدركوا ما بَقِيَ من أعماركم، فإنَّ السنين تمضي تِلوَ السنين والكثير في لهوٍ وغفلة، لا تُؤثِّر فيه الحوادث والمواعظ، قد مات قلبه فلا يحس بما يحدث وما يحيط به، همُّه إشباع بَطنِه وفَرْجِه، وما يَدرِي المسكين أنَّ هذين الأمرين قد شارَكَه فيهما الحيوان، ونَسِي أنَّ الله كرَّم بني آدم، ورزَقَهُم من الطيِّبات، وفضَّلهُم على كثيرٍٍ ممَّن خلق تفضيلاً، ليقوموا بما أوجب عليهم، وتكفَّل بأرزاقهم، فلم يخلقهم عبثًا، ولم يترُكْهم سُدًى؛ قال - سبحانه وتعالى - : ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56-58].
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((لو أنكم تتوكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا))[8]. أي: تذهب أوَّل النهار ضامرةَ البطون من الجوع، وترجع آخِرَه ممتلئة البطون.
فيا عبادَ الله: لا تُفرِّطوا في أوقاتكم، وتغفلوا عمَّا أوجب الله عليكم؛ فإنكم مسؤولون ومحاسبون على ما تقتَرِفون، وما أوجب الله عليكم لن يُؤثِّر فعله على أرزاقكم ومَعايِشكم، بل يُستعان به على ذلك، ولن تموتَ نفسٌ حتى تستكمل رزقها وأجلها، ولا تظنُّوا أنكم لو لم تشتغلوا بأمور دُنياكم عن أمور آخِرتكم لما حصلتم على هذه الأموال الطافرة، فقد تَحصُلون على أكثر منها مع اشتغالكم بأمور آخِرتكم، ثم لا تظنُّوا أنَّ جميع ما بأيديكم يُعتَبر مالاً لكم، فما لكم: منه ما أكلتم، وأبليتم، وتصدَّقتم، وباقيه للوارث، ثم لا تظنُّوا أنكم تسلَمُون من عقابه وحِسابه، وإنْ كان باقيًا لغيركم، فقد يكون وَبالاً عليكم؛ فيكون شَقاء جمعه وألم شوكه عليكم، وورقُه وثمرُه لغيركم، فيكون رزقًا لمن لم يَتعَبْ فيه، وخيرًا له إذا اتَّقى الله فيه.
فانتَبِهوا يا عبادَ الله من الغَفْلة، واغتَنِموا أوقات الفضائل والمُهلة، وحاسِبُوا أنفُسَكم فيما مضى من أعماركم، فإنْ كنتم قد ربحتم في تجارتكم مع الله فازدادوا ربحًا على ربحكم، وإنْ كنتم قد خسرتم فاتَّقوا الله في رُؤوس أموالكم، واصدُقوا مع الله في تجارتكم وضاعِفُوا الأعمال فيما تبقَّى من أعمالكم؛ ليتضاعَف الربح، وتستَعِيدوا ما خسرتم، فإنَّ التجارة الرابحة هي التجارة مع الله.
قال الله - سبحانه وتعالى - : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].

فاتقوا الله عباد الله, وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال:﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد, وعلى آله وصحبه , وارض اللهم عن البررت الأتقياء, أبي بكر وعمر وعثمان وعلي, وعن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين, وأذل الشرك والمشركين, واحم حوزة الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين. اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين. اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم, اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والأكرام.
اللهم نسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل, ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل يا أرحم الراحمين, اللهم إنا نسألك ألسنة ذاكرة صادقة, وقلوباً سليمة, وأخلاقاً مستقيمة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة، يا كريم يا رحيم. عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينها عن الفحشاء والمنكر والبغي يعضكم لعلكم تذكرون, فذكروا الله الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
المشاهدات 861 | التعليقات 1

مرحبا بالشيخ أحمد محمد مخترش وجزيت خيرا على خطبتك القيمة فقد أثريتها بالاستشهادات وطعمتها بالنقولات والأدلة فكانت رائعة فلله درك نرجو لك مزيدا من الحضور.