عَاشُوراءُ... وحِفظُ يَدِ الـمُنعِمِ..
نايف بن حمد الحربي
1436/12/29 - 2015/10/12 06:14AM
(عَاشُوراءُ... وحِفظُ يَدِ الـمُنعِمِ..) جامع العزيزية: 07/01/1436هـ
الحمدُ للهِ طَاعَتَهُ برسْمِ الـمَكرُمَاتِ ضَرَّج, والحمدُ للهِ جعلَ الاتِسَاقَ بَادِياً في سُلُوكِ مَن بإحدَاهِمَا على الآخرةِ عَرَّج, والتَنَاقُضَ لازِماً لِمَن بينهما في الواقِعِ فَرَّج, فالحمدُ للهِ على كُلِّ حال: ما اطمَأنتْ نَفْسُ قَارنٍ, وما مُفَاصِمٌ على نَفْسِهِ حَرَّج, وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه, وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد :
فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، بها أُمِرتُم, وعليها الظَفَرَ وُعِدْتُم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ...}.
معاشر المسلمين:
حِفْظُ يَدِ الـمُنعِمِ, سَبَبٌ مِن أسبابِ بَقَائِهَا, مَكرَمَةٌ في الأخلاقِ, وقُربَةٌ في الأعمالِ, بل هو في حَقِّ اللهِ هَادٍ لِعِبَادَتِه {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * ...} {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} بَلْ إنَّ أَسمَى صُوَرِ التَرابُطِ بينَ الطَاعَةِ ومَكَارِمِ الأخلاقِ, هي تِلكَ الصورةِ التي تَكُونُ شَرْعِيَّةُ العِبَادَةِ فيها إنِّمَا جَاءتْ ابتِدَاءً لِتَقرِيرِ هذهِ الكَرِيمَةِ مِن كَرَائِمِ الأخلاقِ, وهذا هو ما جاءتْ بهِ هذهِ الشَريعَةُ الغَرَاءُ في هذا الخُلُقِ خَاصَّة, وشَواهِدُهُ فيها لا تَكَادُ تَخفَى, لكِنْ دَعُونَا نُرجِئُ الحَدِيثَ عنها قليلاً, لِنَقتَطِفَ الآنَ بَعضَاً مِن زُهُورِ الأدَبِ والأَثَرِ حَولَ هذا الخُلُق, خُلُقُ: شُكُرِ الـمُنْعِمِ..
الشُكرُ يَفتَحُ أَبواباً مُغَلَّقَةً ... للهِ فيها على مَن رَامَهُ نِعَمُ.
فبَادِرَ الشُكرَ واستَغلِق وَثَائِقَهُ ... واستَدفِعِ اللهَ ما تَجرِي بهِ النِقَمُ.
جاءَ عندَ البُخَاري مِن حَديثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رضي اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» وما ذَاك؛ إلا لأنَّ للـمُطعِمِ يَدٌ عِندَهُ, حينَ أَجَارَهُ لَمَّا رَجَعَ مِن الطائفِ لِيَدخُلَ مَكَّةَ وكانَ قد مَنَعَتهُ قُرَيش.
جاءَ في مَنثُورِ الحِكَم: "لا خيرَ في مَعروفٍ إلى غَيرِ عَرُوف" وجاءَ في صَحيحِ الأثَر: "لا يَشْكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ النَّاسَ"
فَكُنْ شَاكِراً لِلمُنعِمِينَ لِفَضلِهِم ... وأَفضِل عَليهِم إذا قَدِرتَ وأَنعِمِ.
ومَن يَكُنْ ذَا شُكرٍ فَأهلُ زِيَادَةٍ ... وأَهلٌ لِبَذِلِ العُرفِ مَن كَانَ يُنعِمِ.
جاءَ عندَ ابنِ أبي شَيبَةَ, والنسَائي, وأصلُهُ في الصحيحينِ مِن حَديثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ للأنصَارِ يَومَ حُنَين: "لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ: أَلَمْ نَجِدْكَ طَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ , وَمُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ , وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ , وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ".
قالَ أبو حَاتِم: "الحُرُّ لا يَكفُرُ النِعمَة, ولا يَتَسَخَطُ عِندَ الـمُصِيبَة"ا.هـ, وفي أدبِ الـمَاوَردِي: أنَّ الحَجَاجَ أُتِي بأُنَاسٍ مِن الخَوارجِ وكانَ فيهم صَديقٌ لَهُ, فأمَرَ بِقَتلِهِم سِواه, فقد عَفَى عنهُ وأَطلَقَهُ, فَرَجَعَ ذلِكَ الرَجُلُ إلى قُطْرِي بنِ الفُجَاءَة, فقالَ لَهُ قُطرِي: عُد إلى قِتَالِ عَدَوِّ الله! فقالَ الرَجُل: هَيهَات, غَلَّ يَداً مُطلِقُهَا, واستَرَقَّ رَقَبَةً مُعتِقُهَا.
ومَن يُسدِ مَعرُوفاً إليكَ فَكُن لَهُ ... شَكُوراً يَكُن مَعرُوفُهُ غيرُ ضَائِعِ.
ولا تَبخَلَنَّ بالشُكرِ والقَرضَ فاجْزِهِ ... تَكُن خَيرَ مَصنُوعٍ إليهِ وصَانِعِ.
وفي البخاري مِن حَديثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ مُنتَصِراً لأبي بكرٍ -رضي اللهُ عَنْهُ- في مُخَاصَمَةٍ بينَهُ وبينَ أحَدِ الصحابةِ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» ولمـَّا ظَنَّتْ عائشةُ أنَّ بِها فَضلاً على خَديجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- فحملَتْهَا الغِيرَةُ على قَولِ ما قالت, قال النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُدَافِعَاً عن خَدِيجَةَ وهيَ تَحتَ الثَرَى: "مَا أَبْدَلَنِي اللهُ خَيْرًا مِنْهَا، وقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ" أخرجَهُ الإمَامُ أحمدُ مِن حديثِ عائشة.
إذْ الـمَرءُ لَمْ يَشكُرْ قليلاً أَصَابَهُ ... فليسَ لَهُ عِندَ الكَثِيرِ شُكُورُ.
ومَن يَشكُرِ الـمَخلُوقَ يَشكُر لِرَبِهِ ... ومَن يَكفُرِ الـمَخلُوقَ فهوَ كَفُورُ.
قِيلَ لِسعيدِ بنِ جُبير: الـمَجُوسِي يُوليني مَعروفاً أفاشكُرُهُ؟ قالَ: نَعَم.
جَاءَ عِندَ أبي داوودَ وغيرِهِ مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ" وجَاءَ عِندَ مُسلمٍ: أنَّ رَبِيعَةَ بنِ كَعبٍ خَدَم النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيلَةٍ, فقالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سَلْ" أي: سَلنِي مَا أُكَافِئُكَ بهِ نَظِيرَ خِدمَتِكَ لي.
حَافِظ على الشُكرِ تَستَجزِل بِهِ القَسَمَا ... مَن ضَيَّعَ الشُكرَ لَم يَستَكمِلِ النِعَمَا.
الشُكُرُ للهِ كَنزٌ لا نَفَادَ لَهُ ... مَن يَلزَمِ الشُكَرَ لَمْ يَكسَبْ بِهِ نَدَمَا.
وعلى كُلٍّ: فقد قالَ بَعضُ الحُكَمَاء: على قَدرِ الـمَغَارِسِ يَكونُ اجتِنَاءُ الغَارِس.
ولا غَروَ بأنَّ شَرَّ الرِجالِ: مُجَازِ سِنمَار, ومُتَقَمِصٌ مِن أخلاقِ العَذَارَ: خِصلَةَ الكُفرَان, ومِن طِبَاعِ السِباعِ: وَفَاءَ أُمِّ عَامِرٍ.
لَعمرُكَ ما المعرُوفُ في غَيرِ أهلِهِ ... وفي أهلِهِ إلا كَبعضِ الوَدَائِعِ.
فَمُستَودَعٌ ضَاعَ الذي كانَ عِندَهُ ... ومُستَودَعٌ مَا عِندَهُ غَيرُ ضَائِعِ.
وما الناسُ في شُكرِ الصَنِيعَةِ عِندَهُم ... وفي كُفرِهَا إلا كَبعضِ الـمَزَارِعِ.
فَمَزرَعَةٌ طَابَتْ وأضعَفَ نَبتُهَا ... ومَزرَعَةٌ أَكدَتْ على كُلِّ زَارِعِ.
أقول هذا القول, واستغفر الله لي ولكم...
الحمد لله مُولي النعمة, ودافعِ النقمة, واسعِ الرحمة, وصلى اللهُ وسلَّمَ على خيرِ البَرِيَّة, وأزكى البَشَرِيَّة, وعلى عِتْرَتِهِ الطَاهِرَةِ الزَكِيَّة, ومَن سارَ على طَرِيقَتِهِ السَوِيَّة..
أما بعد : أهلَّ الإسلام.. لَعَلَّ فيما أَسلفنَا مِن حديثٍ عن مَعرِفَةِ الجميلِ لأهلِهِ: إعلاءٌ لِقِيَمَةِ هذا الخُلُقٍ في النفوس, لكن لعلَّهُ لا يختلفُ بيننا اثنان, على أنَّ أعظمَ ما يُعلي قيمَةَ هذا الخُلُق: هو عِلمُنَا أنَّ ثَمَّةَ عِبَاداتٌ قائِمَةٌ الآنَ بِذاتِها, إنِّمَا شُرِعتْ أَسَاساً لِتقريرِ هذا الـمَعنى في النفوس, ولكم أنْ تَتَأمَّلُوا:
فسَجدةُ "ص" قالَ عنها النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا» فأنتَ حينما تَسجُدُ للتلاوَةِ في سورةِ "ص" تُقِرُّ للهِ بالجميل, حيثُ قَبِلَ تَوبةَ داوود, فهل تَستَشعِر هذا المعنى حِينَ سُجودك؟
بَلْ صَلاةُ الضُحى, التي هيَ صَلاةُ الآوابين, هل تَعلَم الحِكمَةَ الأصليةَ مِن مَشروعِيَتِهَا؟ تَأمَّل: جاءَ في صحيحِ مُسلِمٍ مِن حَديثِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» فأنتَ حِينما تَركَعُ رَكعَتي الضُحى, تَحمَدُ اللهَ بلِسَانِ حَالِكَ أنْ لم يَجعَل جَسَدَكَ صَفِيحاً واحِدا, وإنِّمَا أَنعَمَ عليكَ بثلاثمائةٍ وسِتينَ مِفصِلا, أفلا يَحمِلُكَ هذا على مُكَافأةِ مَن أَحسَنَ إليك؟
بَلْ حُسُنْ القضَاء: بأنْ تُؤدِي إلى مَن استَلَفتَ مِنهُ خَيراً مِمَّا أَخذت, مِن غَيرِ شَرطٍ, ولا مُواطَأة, هو أَمرٌ قد أَقَرَّتهُ الشَرِيعَةُ, حيثُ جاءَ في صحيحِ مُسلِمٍ مِن حَديثِ أَبِي رَافِعٍ: «إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» وأظُنُّ أنَّ دَلالَتَهُ على الـمُرادِ ظَاهِرَة.
وأَظهَرُ مِنهُ في الدَلاَلةِ, ما جاءَ مِن حديثِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في سجودِ الشُكر: "أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ أَوْ بُشِرَّ بِهِ، خَرَّ سَاجِداً، شُكْراً لِلَّهِ", وما جاءَ في مُسلِمٍ من حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا, أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا», ومِن أذكَارِ الصبَاحِ والمساء: "اللهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ", فَكُلُّ هذهِ العِبَادَات إنِّمَا شُرِعَتْ على سبيلِ: شُكرِ الـمُتَفَضِّل, أفلا تُحيي في نَفسِكَ خُلُقَاً كَريماً, هو: حِفظُ المعروفِ لأهلِهِ؟
وتَأمَّلُوا أخيراً أهلَ الإسلام: فصيامُ عَاشُوراءَ, الذي تَواتَرتْ الأحاديثُ في بيانِ مَشرُوعِيَتِهِ, في الصِحَاحِ, والسُنَنِ, والـمَسَانِيد, وجَاءَ في فَضلِهِ حديثُ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» وجاءَ صِيَامُهُ على مَرتَبتَين:
الأكمَلُ: أنْ يَصُومَ التَاسِعَ, والعاشِر, وبهذا يُحَصِّلُ أَجرَ تَكفيرِ السنةِ الماضية, وأجرَ مُخَالَفَةِ اليهود.
ودُونَهَا في الفضلِ: أنْ يَصُومَ العَاشِرَ وَحدَّهُ, فهذا يَحصلُ لَهُ أجرُ تَكفِيرِ السَنَةِ الماضية, دُونَ أَجرُ المخَالَفَة, وليسَ في إفرَادِهِ العَاشِرَ بالصومِ مَحظُور, أمَّا مَن زَعَمَ بأنَّ مَرَاتِبَ صِيَامِ عاشوراء ثلاثاً, أو أربعاً, مُستَدِلاً بحديث: "صُومُوا يَوماً قبلَهُ, ويَوماً بَعْدَهُ" وحَدِيث: "صُومُوا يَوماً قَبلَهُ, أو يَومَاً بَعْدَهُ" فقد أخطأَ فيما ذَهَبَ إليه؛ إذْ أنَّ كِلا الحَديثينِ ضَعِيف, والضَعِيفُ لا تَقُومُ بهِ حُجَّةٌ.
فهذا اليومُ -يوَمُ عاشوراء- وما رُتِّبَ على صِيَامِهِ مِن الأجرِ, إنِّمَا شُرِع إقراراً لِخُلُقِ شُكْرِ الـمُنعِمِ في النفوس, فقد جَاءَ في الصحيحينِ مِن حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ»
فَدِيْنٌ شَرَائِعُهُ تُؤَصِّلُ لِمَكَارِمِ الأخلاق, هل تَرونَ في الوجُودِ دِيْناً أحسَنَ مِنْهُ؟!
أصلحَ اللهُ الحال, ونفعَ بالمقال, وأجارنا مِن غَلَبَاتِ الهوى, وميلِهِ إذا مَال..
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين, ...
وكتب/ نايف بن حمد الحربي.
الحمدُ للهِ طَاعَتَهُ برسْمِ الـمَكرُمَاتِ ضَرَّج, والحمدُ للهِ جعلَ الاتِسَاقَ بَادِياً في سُلُوكِ مَن بإحدَاهِمَا على الآخرةِ عَرَّج, والتَنَاقُضَ لازِماً لِمَن بينهما في الواقِعِ فَرَّج, فالحمدُ للهِ على كُلِّ حال: ما اطمَأنتْ نَفْسُ قَارنٍ, وما مُفَاصِمٌ على نَفْسِهِ حَرَّج, وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه, وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد :
فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، بها أُمِرتُم, وعليها الظَفَرَ وُعِدْتُم {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ...}.
معاشر المسلمين:
حِفْظُ يَدِ الـمُنعِمِ, سَبَبٌ مِن أسبابِ بَقَائِهَا, مَكرَمَةٌ في الأخلاقِ, وقُربَةٌ في الأعمالِ, بل هو في حَقِّ اللهِ هَادٍ لِعِبَادَتِه {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * ...} {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} بَلْ إنَّ أَسمَى صُوَرِ التَرابُطِ بينَ الطَاعَةِ ومَكَارِمِ الأخلاقِ, هي تِلكَ الصورةِ التي تَكُونُ شَرْعِيَّةُ العِبَادَةِ فيها إنِّمَا جَاءتْ ابتِدَاءً لِتَقرِيرِ هذهِ الكَرِيمَةِ مِن كَرَائِمِ الأخلاقِ, وهذا هو ما جاءتْ بهِ هذهِ الشَريعَةُ الغَرَاءُ في هذا الخُلُقِ خَاصَّة, وشَواهِدُهُ فيها لا تَكَادُ تَخفَى, لكِنْ دَعُونَا نُرجِئُ الحَدِيثَ عنها قليلاً, لِنَقتَطِفَ الآنَ بَعضَاً مِن زُهُورِ الأدَبِ والأَثَرِ حَولَ هذا الخُلُق, خُلُقُ: شُكُرِ الـمُنْعِمِ..
الشُكرُ يَفتَحُ أَبواباً مُغَلَّقَةً ... للهِ فيها على مَن رَامَهُ نِعَمُ.
فبَادِرَ الشُكرَ واستَغلِق وَثَائِقَهُ ... واستَدفِعِ اللهَ ما تَجرِي بهِ النِقَمُ.
جاءَ عندَ البُخَاري مِن حَديثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ -رضي اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» وما ذَاك؛ إلا لأنَّ للـمُطعِمِ يَدٌ عِندَهُ, حينَ أَجَارَهُ لَمَّا رَجَعَ مِن الطائفِ لِيَدخُلَ مَكَّةَ وكانَ قد مَنَعَتهُ قُرَيش.
جاءَ في مَنثُورِ الحِكَم: "لا خيرَ في مَعروفٍ إلى غَيرِ عَرُوف" وجاءَ في صَحيحِ الأثَر: "لا يَشْكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ النَّاسَ"
فَكُنْ شَاكِراً لِلمُنعِمِينَ لِفَضلِهِم ... وأَفضِل عَليهِم إذا قَدِرتَ وأَنعِمِ.
ومَن يَكُنْ ذَا شُكرٍ فَأهلُ زِيَادَةٍ ... وأَهلٌ لِبَذِلِ العُرفِ مَن كَانَ يُنعِمِ.
جاءَ عندَ ابنِ أبي شَيبَةَ, والنسَائي, وأصلُهُ في الصحيحينِ مِن حَديثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ للأنصَارِ يَومَ حُنَين: "لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَصَدَقْتُمْ: أَلَمْ نَجِدْكَ طَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ , وَمُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ , وَعَائِلًا فَآسَيْنَاكَ , وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ".
قالَ أبو حَاتِم: "الحُرُّ لا يَكفُرُ النِعمَة, ولا يَتَسَخَطُ عِندَ الـمُصِيبَة"ا.هـ, وفي أدبِ الـمَاوَردِي: أنَّ الحَجَاجَ أُتِي بأُنَاسٍ مِن الخَوارجِ وكانَ فيهم صَديقٌ لَهُ, فأمَرَ بِقَتلِهِم سِواه, فقد عَفَى عنهُ وأَطلَقَهُ, فَرَجَعَ ذلِكَ الرَجُلُ إلى قُطْرِي بنِ الفُجَاءَة, فقالَ لَهُ قُطرِي: عُد إلى قِتَالِ عَدَوِّ الله! فقالَ الرَجُل: هَيهَات, غَلَّ يَداً مُطلِقُهَا, واستَرَقَّ رَقَبَةً مُعتِقُهَا.
ومَن يُسدِ مَعرُوفاً إليكَ فَكُن لَهُ ... شَكُوراً يَكُن مَعرُوفُهُ غيرُ ضَائِعِ.
ولا تَبخَلَنَّ بالشُكرِ والقَرضَ فاجْزِهِ ... تَكُن خَيرَ مَصنُوعٍ إليهِ وصَانِعِ.
وفي البخاري مِن حَديثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ مُنتَصِراً لأبي بكرٍ -رضي اللهُ عَنْهُ- في مُخَاصَمَةٍ بينَهُ وبينَ أحَدِ الصحابةِ: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» ولمـَّا ظَنَّتْ عائشةُ أنَّ بِها فَضلاً على خَديجَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- فحملَتْهَا الغِيرَةُ على قَولِ ما قالت, قال النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُدَافِعَاً عن خَدِيجَةَ وهيَ تَحتَ الثَرَى: "مَا أَبْدَلَنِي اللهُ خَيْرًا مِنْهَا، وقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ" أخرجَهُ الإمَامُ أحمدُ مِن حديثِ عائشة.
إذْ الـمَرءُ لَمْ يَشكُرْ قليلاً أَصَابَهُ ... فليسَ لَهُ عِندَ الكَثِيرِ شُكُورُ.
ومَن يَشكُرِ الـمَخلُوقَ يَشكُر لِرَبِهِ ... ومَن يَكفُرِ الـمَخلُوقَ فهوَ كَفُورُ.
قِيلَ لِسعيدِ بنِ جُبير: الـمَجُوسِي يُوليني مَعروفاً أفاشكُرُهُ؟ قالَ: نَعَم.
جَاءَ عِندَ أبي داوودَ وغيرِهِ مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ" وجَاءَ عِندَ مُسلمٍ: أنَّ رَبِيعَةَ بنِ كَعبٍ خَدَم النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ لَيلَةٍ, فقالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سَلْ" أي: سَلنِي مَا أُكَافِئُكَ بهِ نَظِيرَ خِدمَتِكَ لي.
حَافِظ على الشُكرِ تَستَجزِل بِهِ القَسَمَا ... مَن ضَيَّعَ الشُكرَ لَم يَستَكمِلِ النِعَمَا.
الشُكُرُ للهِ كَنزٌ لا نَفَادَ لَهُ ... مَن يَلزَمِ الشُكَرَ لَمْ يَكسَبْ بِهِ نَدَمَا.
وعلى كُلٍّ: فقد قالَ بَعضُ الحُكَمَاء: على قَدرِ الـمَغَارِسِ يَكونُ اجتِنَاءُ الغَارِس.
ولا غَروَ بأنَّ شَرَّ الرِجالِ: مُجَازِ سِنمَار, ومُتَقَمِصٌ مِن أخلاقِ العَذَارَ: خِصلَةَ الكُفرَان, ومِن طِبَاعِ السِباعِ: وَفَاءَ أُمِّ عَامِرٍ.
لَعمرُكَ ما المعرُوفُ في غَيرِ أهلِهِ ... وفي أهلِهِ إلا كَبعضِ الوَدَائِعِ.
فَمُستَودَعٌ ضَاعَ الذي كانَ عِندَهُ ... ومُستَودَعٌ مَا عِندَهُ غَيرُ ضَائِعِ.
وما الناسُ في شُكرِ الصَنِيعَةِ عِندَهُم ... وفي كُفرِهَا إلا كَبعضِ الـمَزَارِعِ.
فَمَزرَعَةٌ طَابَتْ وأضعَفَ نَبتُهَا ... ومَزرَعَةٌ أَكدَتْ على كُلِّ زَارِعِ.
أقول هذا القول, واستغفر الله لي ولكم...
الحمد لله مُولي النعمة, ودافعِ النقمة, واسعِ الرحمة, وصلى اللهُ وسلَّمَ على خيرِ البَرِيَّة, وأزكى البَشَرِيَّة, وعلى عِتْرَتِهِ الطَاهِرَةِ الزَكِيَّة, ومَن سارَ على طَرِيقَتِهِ السَوِيَّة..
أما بعد : أهلَّ الإسلام.. لَعَلَّ فيما أَسلفنَا مِن حديثٍ عن مَعرِفَةِ الجميلِ لأهلِهِ: إعلاءٌ لِقِيَمَةِ هذا الخُلُقٍ في النفوس, لكن لعلَّهُ لا يختلفُ بيننا اثنان, على أنَّ أعظمَ ما يُعلي قيمَةَ هذا الخُلُق: هو عِلمُنَا أنَّ ثَمَّةَ عِبَاداتٌ قائِمَةٌ الآنَ بِذاتِها, إنِّمَا شُرِعتْ أَسَاساً لِتقريرِ هذا الـمَعنى في النفوس, ولكم أنْ تَتَأمَّلُوا:
فسَجدةُ "ص" قالَ عنها النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «سَجَدَهَا دَاوُدُ تَوْبَةً وَنَسْجُدُهَا شُكْرًا» فأنتَ حينما تَسجُدُ للتلاوَةِ في سورةِ "ص" تُقِرُّ للهِ بالجميل, حيثُ قَبِلَ تَوبةَ داوود, فهل تَستَشعِر هذا المعنى حِينَ سُجودك؟
بَلْ صَلاةُ الضُحى, التي هيَ صَلاةُ الآوابين, هل تَعلَم الحِكمَةَ الأصليةَ مِن مَشروعِيَتِهَا؟ تَأمَّل: جاءَ في صحيحِ مُسلِمٍ مِن حَديثِ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» فأنتَ حِينما تَركَعُ رَكعَتي الضُحى, تَحمَدُ اللهَ بلِسَانِ حَالِكَ أنْ لم يَجعَل جَسَدَكَ صَفِيحاً واحِدا, وإنِّمَا أَنعَمَ عليكَ بثلاثمائةٍ وسِتينَ مِفصِلا, أفلا يَحمِلُكَ هذا على مُكَافأةِ مَن أَحسَنَ إليك؟
بَلْ حُسُنْ القضَاء: بأنْ تُؤدِي إلى مَن استَلَفتَ مِنهُ خَيراً مِمَّا أَخذت, مِن غَيرِ شَرطٍ, ولا مُواطَأة, هو أَمرٌ قد أَقَرَّتهُ الشَرِيعَةُ, حيثُ جاءَ في صحيحِ مُسلِمٍ مِن حَديثِ أَبِي رَافِعٍ: «إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» وأظُنُّ أنَّ دَلالَتَهُ على الـمُرادِ ظَاهِرَة.
وأَظهَرُ مِنهُ في الدَلاَلةِ, ما جاءَ مِن حديثِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في سجودِ الشُكر: "أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَتَاهُ أَمْرٌ يَسُرُّهُ أَوْ بُشِرَّ بِهِ، خَرَّ سَاجِداً، شُكْراً لِلَّهِ", وما جاءَ في مُسلِمٍ من حديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا, أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا», ومِن أذكَارِ الصبَاحِ والمساء: "اللهُمَّ مَا أَصْبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، فَمِنْكَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ", فَكُلُّ هذهِ العِبَادَات إنِّمَا شُرِعَتْ على سبيلِ: شُكرِ الـمُتَفَضِّل, أفلا تُحيي في نَفسِكَ خُلُقَاً كَريماً, هو: حِفظُ المعروفِ لأهلِهِ؟
وتَأمَّلُوا أخيراً أهلَ الإسلام: فصيامُ عَاشُوراءَ, الذي تَواتَرتْ الأحاديثُ في بيانِ مَشرُوعِيَتِهِ, في الصِحَاحِ, والسُنَنِ, والـمَسَانِيد, وجَاءَ في فَضلِهِ حديثُ أَبِي قَتَادَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» وجاءَ صِيَامُهُ على مَرتَبتَين:
الأكمَلُ: أنْ يَصُومَ التَاسِعَ, والعاشِر, وبهذا يُحَصِّلُ أَجرَ تَكفيرِ السنةِ الماضية, وأجرَ مُخَالَفَةِ اليهود.
ودُونَهَا في الفضلِ: أنْ يَصُومَ العَاشِرَ وَحدَّهُ, فهذا يَحصلُ لَهُ أجرُ تَكفِيرِ السَنَةِ الماضية, دُونَ أَجرُ المخَالَفَة, وليسَ في إفرَادِهِ العَاشِرَ بالصومِ مَحظُور, أمَّا مَن زَعَمَ بأنَّ مَرَاتِبَ صِيَامِ عاشوراء ثلاثاً, أو أربعاً, مُستَدِلاً بحديث: "صُومُوا يَوماً قبلَهُ, ويَوماً بَعْدَهُ" وحَدِيث: "صُومُوا يَوماً قَبلَهُ, أو يَومَاً بَعْدَهُ" فقد أخطأَ فيما ذَهَبَ إليه؛ إذْ أنَّ كِلا الحَديثينِ ضَعِيف, والضَعِيفُ لا تَقُومُ بهِ حُجَّةٌ.
فهذا اليومُ -يوَمُ عاشوراء- وما رُتِّبَ على صِيَامِهِ مِن الأجرِ, إنِّمَا شُرِع إقراراً لِخُلُقِ شُكْرِ الـمُنعِمِ في النفوس, فقد جَاءَ في الصحيحينِ مِن حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ»
فَدِيْنٌ شَرَائِعُهُ تُؤَصِّلُ لِمَكَارِمِ الأخلاق, هل تَرونَ في الوجُودِ دِيْناً أحسَنَ مِنْهُ؟!
أصلحَ اللهُ الحال, ونفعَ بالمقال, وأجارنا مِن غَلَبَاتِ الهوى, وميلِهِ إذا مَال..
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين, ...
وكتب/ نايف بن حمد الحربي.
المرفقات
841.doc