عاشوراء بين أهل السنة وأهل البدعة. 6/1/1438هـ

عبد الله بن علي الطريف
1438/01/06 - 2016/10/07 07:07AM
عاشوراء بين أهل السنة وأهل البدعة. 6/1/1438هـ
أما بعد أيها الإخوة: وتدور الأيام دورتها وتمضي الشهور شهرا بعد شهر، وينقضي عام ويبدأ عام جديد، ويفتح الله تعالى لعباده من خزائن جوده وفضله؛ فالأيام خزائن الأعمال، والموفق من استثمر خزائن العمر بالخير.. فأمضى وقته بطاعة وكف نفسه عن معصية.. قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحتَ؟ قال: ما ظَنُّك برجل يرتَحِلُ كلَّ يومٍ مرحلةً إلى الآخرة.!؟
وقال الحسن: إنَّما أنت أيامٌ مجموعة، كلّما مضى يومٌ مضى بعضُك.. وقال: الموتُ معقود في نواصيكم والدنيا تُطوى مِن ورائكم.
وهذه الأيام والشهور تتفاضل، ومن أفضل الشهور عند الله شهر الله المحرم.. فقد سماه النبيُ صلى الله عليه وسلم شهر الله المحرم فقد قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلَاةُ اللَّيْلِ" رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قال ابن رجب رحمه الله: "وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواص مخلوقاته"..
ويدل هذا الحديث على أن أفضل عمل يتطوع به في شهر الله المحرم الصوم، وعلى هذا فيكون صوم شهر الله المحرم من الصيام المستحب، لأنه أفضل الصيام بعد الفريضة.. فيا أهل الصيام هلموا إلى بغيتكم فأنتم في أيام قَصُرَ نهارُها واعتدلَ جوُها وزادَ فضلُها..
وأفضل أيام الصيام في هذا الشهر صيام عاشوراء.. قال ابن قدامة -رحمه الله-: "عَاشُورَاءَ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَالْحَسَنِ; فعن ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِصَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ الْعَاشِرِ مِنْ الْمُحَرَّمِ". رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ, وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وصححه الألباني.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: "مَا هَذَا" قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: "فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ". وفي رواية: "هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ".. رواه البخاري.
وفي رواية مسلم: "هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ". وفي رواية للبخاري فقال لأصحابه: "أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا".
أيها الإخوة: لقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحرى صيام هذه اليوم ويأمر بصيامه، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ" رواه البخاري.
ومعنى يتحرى أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبةِ فيه. وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ"رواه مسلم.
وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة، والله ذو الفضل العظيم.
ايها الإخوة: قال ابن القيم في كتابه زاد المعاد عن صيام عاشوراء: مَرَاتِبُ الصَوْمِ ثَلَاثَةٌ أَكْمَلُهَا: أَنْ يُصَامَ قَبْلَهُ يَوْمٌ وَبَعْدَهُ يَوْمٌ: [أي يصوم التاسع والعاشر والحادي عشر]..
وَيَلِي ذَلِكَ أَنْ يُصَامَ التّاسِعُ وَالْعَاشِرُ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ.. [وهذا أفضل من أن يصوم العاشر والحادي عشر]
وَيَلِي ذَلِكَ إفْرَادُ الْعَاشِرِ وَحْدَهُ بِالصّوْمِ.. وقال شيخ الإسلام: "صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَلا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ". وقال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله: "والراجح أنه لا يكره إفراد عاشوراء".
أيها الإخوة: هذه مكانة عاشوراء وفضله لدى أهل السنة يقتفون فيها هدى نبيهم وسلف الأمة، ومن هدي المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كذلك الإكثار من الصيام في شهر الله المحرم..
فيعلم من ذلك أن نعمَ الله تقابلُ بالشكر، وأعظم الشكرِ عبادة الله تعالى والتقرب إليه بما يحب، لا بالفرح المصحوب بالأشر والبطر وكفر النعمة..
ويعلم منه كذلك أن انتصار المؤمنين في أي ملة قبل ملة الإسلام هو نصر لنا يستحق الحمد والشكر..
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: أما ما وقع في الأمة في يوم الجمعة يوم العاشر من المحرم سنة إحدى وستين بكربلاء من أرض العراق من فتنةٍ قُتل فيها سيدُ المسلمين في عصره، ريحانة المصطفى صلى الله عليه وسلم الزاهد العابد المبشَّر بالجنة سبط رسول الله الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه وأمه.. فهو حدث جلل ومصيبة عظمى.. يبوء بإثمها من اقترفها.. لكنها لا تكون سبباً لحزن دائم يتجدد كل عام.. ونياحة ومظاهر مؤلمة من تعذيب النفس لا يقبلها عقل ولا يقرها الدين. وقد نسج المبتدعة قصصاً هي من الكذب السمج في يوم مقتل الحسين رضي الله عنه، وكيف أثر قتل الحسين رضي الله عنه في الكون، فأثر على السماء والأرض، حتى يظن من قرأها أن منزلة الحسين عند الله أعلى من منزلة الرسل عليهم السلام، والسابقين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وما زال هؤلاء المبتدعة يذكرونها، بل ويزيدون عليها بما لا يصدقه عقل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: "وأكثر ما روي في قتله أي الحسين رضي الله عنه من الكذب مثل كون السماء أمطرت دما، فإن هذا ما وقع قط في قتل أحد! ومثل كون الحمرة ظهرت في السماء يوم قتل الحسين، ولم تظهر قبل ذلك! فإن هذا من الترهات فما زالت هذه الحمرة تظهر، ولها سبب طبيعي من جهة الشمس فهي بمنزلة الشفق!". أهـ
وقال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية: ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذبا فاحشا، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وأن أرجاء السماء احمرت، وأن الشمس كانت تطلع وشعاعها كأنه الدم، وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب ضرب بعضها بعضا، وأمطرت السماء دماً أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ، ونحو ذلك.
وقولهم: أن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دما، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يَمس زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذ إلا احترق من مسه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط، وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم. إلى غير ذلك من الأكاذيب، والأحاديث الموضوعة، التي لا يصح منها شيء.
أما ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وإخباره بمكان قتل الحسين رضي الله عنه فهو آية من آيات الله أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن علي رضي الله عنه قال: "دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَغْضَبَكَ أَحَدٌ، مَا شَأْنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ؟ قَالَ: "بَلْ قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلُ، فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الْفُرَاتِ" رواه أحمد وغيره، وصححه الألباني وشاكر.
أيها الإخوة: أما أهل السنة والجماعة فيعدُّون قتل الحسين رضي الله عنه فاجعةً عظيمة، وجرحًا غائرًا في جسد الأمة، وقاتليه، قال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما مَن قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً، وعزاء أهل السنة والجماعة في الحسين أنه عاش حميدًا، ومات شهيدًا، ولا يقولون إلا ما يُرضِي ربهم: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لا يضربون لهذه المصيبة خدًّا، ولا يشقُّون لها جيبًا، ولا يحيون معها معالم الجاهلية الأولى".
فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل الفردوس الأعلى مثواه.. وقال رحمه الله ملخصًا ما مرّ بأول هذه الأمة من الفتن والأحداث ومقتل الحسين رضي الله عنه، وماذا فعلت الطوائف بسبب ذلك فقال: "فَصَارَتْ طَائِفَةٌ جَاهِلَةٌ ظَالِمَةٌ إمَّا مُلْحِدَةٌ مُنَافِقَةٌ، وَإِمَّا ضَالَّةٌ غَاوِيَةٌ, تُظْهِرُ مُوَالاتَهُ, وَمُوَالاةَ أَهْلِ بَيْتِهِ تَتَّخِذُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمَ مَأْتَمٍ وَحُزْنٍ وَنِيَاحَةٍ, وَتُظْهِرُ فِيهِ شِعَارَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ لَطْمِ الْخُدُودِ, وَشَقِّ الْجُيُوبِ, وَالتَّعَزِّي بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ.. فَكَانَ مَا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ لأَهْلِ الضَّلالِ وَالْغَيِّ مِنْ اتِّخَاذِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ مَأْتَمًا, وَمَا يَصْنَعُونَ فِيهِ مِنْ النَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ, وَإِنْشَادِ قَصَائِدِ الْحُزْنِ, وَرِوَايَةِ الأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا كَذِبٌ كَثِيرٌ وَالصِّدْقُ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ إلا تَجْدِيدُ الْحُزْنِ, وَالتَّعَصُّبُ، وَإِثَارَةُ الشَّحْنَاءِ وَالْحَرْبِ, وَإِلْقَاءُ الْفِتَنِ بَيْنَ أَهْلِ الإِسْلامِ, وَالتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلَى سبِّ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ.. وَشَرُّ هَؤُلاءِ وَضَرَرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الإِسْلامِ, لا يُحْصِيهِ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ فِي الْكَلامِ".ا.هـ.
والعجيب أنهم يشنّعون على أهل السنة صيام هذا اليوم شكرًا لله على نجاة موسى وقومه.. نسأل الله لهم الهداية.. ونعوذ بالله من الغواية..

المشاهدات 1142 | التعليقات 0