ظلمات الظلم
عبدالله بن عبدالرحمن الرحيلي
ظلمات الظلم
ألقيت في جامع حمراء الأسد – المدينة المنورة
عبد الله بن عبد الرحمن الرحيلي
17/ 2/ 1443
عناصر الخطبة:
1-بيان شناعة الظلم وحرمته.
2-عاقبة الظلم في الدنيا.
3-عاقبة الظلم في الآخرة.
4-صور الظلم.
5-إجابة دعوة المظلوم.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- حقَّ التقوى؛ واستحيوا من الله حق الحياء، فاحفظوا الرَّأْسَ وما وعى، واحفظوا البَطنَ وما حوى، واذكروا الموتَ والبِلى .
عباد الله.. كبيرة من كبائر الذنوب والعصيان، وسبب عظيم للخسران والحرمان، ذب عظيم يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ، وَيُسَبِّبُ الْقَطِيعَةَ والعداوات، إنه أصل كل شر وبلاء، ورأس كل بؤس وَشَقَاءٍ، به فساد الدين والدنيا، وينال به صاحبه العذاب الأليم في الأخرى.
يجلب غضب الرب؛ ويورث ظلمة القلب.
نزَّهَ الله نفسَه عنه؛ فلا يخاف العبد ظلما ولا هضما، وجعله سبحانه على عباده محرما؛ فقال الله في الحديث القدسي: "يا عبادي: إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تَظَالَموا".
إنه الظلم يا عباد الله.
حرمه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان شيئا يسيرا قال عليه الصلاة والسلام ( مَن اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا ؟ فقال ( وإن قضيبا من أراك )
عباد الله..
إن الظَّالِمُ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَلَا يَهْدِيهِ، مَحْرُومٌ مِنَ الْفَلاَحِ أن يأتيَه، وما من ظالم إلا سيبتلى بأظلم منه يسلط عليه. قال تعالى (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظّالِمِينَ) [آل عمران: 57]، وقال عز وجل: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ) [البقرة: 258]، وقال سبحانه: (إِنَّه لَا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ) [الأنعام: 21]
توعَّدَهم الله بسُوء المُنقلَبِ والعذاب، فإن الظالمَ ينتظرُ العقابَ، والمظلومَ ينتظرُ النصرَ ويرجو الثواب.
قال عز وجل (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) [الشعراء: 227].
نفوس دنيئة خبيثة، جبلت على الفساد، وانطوت على الحسد والأحقاد،
يظلمون الناس بالليل والنهار، تذهب اللذات، وتبقى الحسرات والأوزار.
يُحِيطُ الظلم بِصَاحِبِهِ وَيُفْسِدُ عَلَيْهِ حاله، تزُولُ بِهِ عنه النِّعَمُ، وَتَنْزِلُ بِهِ النِّقَمُ.
يُمهِلُه الله ولا يهمله، يستدرجه ويملي له؛ حتى إذا أخذه بالعذاب لم يفلته.
قال النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ اللهَ لَيُملي للظَّالم حتَّى إذا أخَذَه لم يُفْلِته)) ، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. [هود: 102].
وأما يوم القيامة.. يوم يأتي المؤمنون يسعون بأنوارهم، فإن الظالمين يتيهون متخبطين في ظلمات ظلمهم.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ".
إن الظلمة المعتدين؛ يأتون يوم القيامة مفلسين.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما لأصحابه: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاع، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".
يفضح الله الظالم المعتدي يوم القيامة على رؤوس الخالق؛ قال عليه الصلاة والسلام ( والله لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْكُمْ شيئا بِغَيْرِ حَقِّهِ إلا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يوم الْقِيَامَةِ فَلَأَعْرِفَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ أو بَقَرَةً لها خُوَارٌ أو شَاةً تَيْعَرُ ) .
متوعدون بدخول النار وبئس المصير، قال صلى الله عليه وسلم ( إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة )
عباد الله.. للظلم صور كثيرة، وأنواع متعددة، فاعرفوها واحذروها.
احذروا الشرك بالله تعالى؛ فإنه أظلم الظلم وغاية الخسران.
واحذروا ظلم النفس بالذنوب والعصيان؛ بتضييع العبادات، والإغراق في المحرمات.
واجتنبوا ظلم العباد بالغيبة والقذف والسباب؛ أو السخرية والتنابز بالألقاب، فإنه موصل إلى أليم العذاب.
ومن الظلم المبين: تتبع عورات المسلمين، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين،
والاعتداء على حقوق الآخرين؛ فمن اقتطع ولو شيئا يسيرا منها فإنه يحمله على عاتقه يوم الدين، ويُطوَّق به عنقُه خزيا له بين العالمين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"
ومن الظلم: الغش في المعاملات، والمماطلة في رد الدّين، قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَطْل الغنيِّ ظلم "
ومن عظيم الظلم والاعتداء: أكل مال الأيتام والضعفاء.
احذروا - عباد الله - ظلم الوالدين بعقوقهما والإساءة إليهما، واتقوا ظلم الأولاد بترك النفقة عليهم، أو تعنيفهم والدعاء عليهم، أو عدم العدل بينهم.
واحذروا ظلم البنات بعضلهن عن الزواج.
واجتنبوا ظلم العمال والخدم والسائقين؛ بعدم إعطائهم أجورهم؛ أو بخسهم حقوقهم؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ((ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة -وذكر منهم-؛ ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)).
واتقوا ظلم الزوجات؛ بعدم الإنفاق عليهن، أو ضربهن وإيذائهن، أو إهانتهن وانتقاص حقهن؛ وتذكروا قدرة الله عليكم.
تذكُّروا عاقبة الظلم الوخيمة في الدنيا، ومآلَه الشنيعَ في الأخرى.
قال سفيان الثوري - رحمه الله -: (إن لقيت الله تعالى بسبعين ذنباً فيما بينك وبين الله تعالى؛ أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد)
إن التسلط على الضعفاء من العباد، يودي بصاحبه إلى أشنع حال ومصير، إنها سنة الله التي لا تبديل فيها ولا تغيير.
فاذكر عبد الله هذه المواعظ والزواجر، واعلم أن الظالم تدورُ عليه الدوائرُ.
اللهم إنا نعوذ بك أن نظلِم أو نُظلَم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العظيم الديان، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله سيد ولد عدنان، صلى الله وسلَّم عليه وعلى جميع الآل والصحب ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد..
أيها المؤمنون.. إن دعوةَ المظلوم سهامٌ لا تُخطِئ وإن طال الدهر، وسلاحٌ على الظالمِ لا يُبقِي ولا يذر، قال -صلى الله عليه وسلم- "واتَّقِ دعوةَ المظلومِ؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ".
الله أكبر! دعوات لا ترد، ومظالم لا تضيع، ونداءهم لا يخيب.
"دعوةُ المظلومِ تُحمَلُ على الغَمام، وتُفتحُ لها أبوابُ السماوات، ويقول الربُّ -جل وعلا-: وعزَّتي! لأنصُرنَّكِ ولو بعد حينٍ".
فيا بشرى المظلومين، ويا بؤس الظالمين.
قال بعضهم: ما هبت أحدا قط هيبتي رجلا ظلمته وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله، يقول لي: حسبي الله، الله بيني وبينك.
فيا من ظَلم غيره! كيف تنامُ قرير العين ووراءك من ظلمته يدعو عليك.
كن على حذَر من سهام الليل, فكم بدَّلَت من نعيم, وأعقبت من جحيم.
لا تحتقر دعاء المظلوم! فشرر قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك.
سهام أدعيته مصيبة وإن تأخر الوقت.
وقد رأيت شؤم الظلم ولكن لست تعتبر!
احذر عداوة من ينام وطرفه باك يقلب وجهه في السماء، يرمي سهاما ما لها غرض سوى الفؤادِ منك والأحشاء .
اخشَ على نفسِكَ سهما من تلك السهام، تسري بليلٍ والناسُ نِيامٌ، دعوة نسيتَها وأمنت منها، لم ينسها الله ولم يغفَل عنها .
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا *** فالظلم مرتعه يفضي إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه *** يدعو عليك وعين الله لم تنم
أما والله إنّ الظّلم لؤم ... وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدّين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا ... غدا عند الإله من الملوم
قال معاوية رضي الله عنه: (إني لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصراً إلا الله).
سبحان الله ! كم بكت في تنعم الظالم عين أرملة، واحترقت كبد يتيم، وجرت دمعة مسكين، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) [ص:88]
وبعد .. فاتق الله عبد الله؛ واذكر الموت وسكرته، والقبر وظلمته، والصراط وزلته.
اذكر قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " لَتُؤَدَّنَّ الحقوقُ إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقَاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء"
تفقد نفسك! وانظر تعاملك مع أهلك وولدك ومن تحت يدك، وتحلل ممن ظلمت، وانج اليوم بنفسك، قبل أن تقف بين يدي ربك؛ فيسألك ويحاسبك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كانت عنده مظلِمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلِمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه))
ثم صلوا وسلموا عباد الله.. على نبيكم محمد رسول الله.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداءك أعداء الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتهم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا ووالدينا عذاب القبر والنار.
المرفقات
1632681133_خطبة ظلمات الظلم.docx
1632681133_خطبة ظلمات الظلم.pdf