ظاهرة المبالغة في الصلح والحث على العفوا والصفح

عبدالله منوخ العازمي
1440/12/23 - 2019/08/24 13:49PM

ظاهرة المبالغة في الصلح والحث على العفوا والصفح) )

 

لخطبة الأولى

 

إنّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ، ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفسنَا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا مَنْ يهدِهِ اللهُ فلَا مُضِلّ لهُ ومنْ يُضلِلْ فَلا هاديَ لهُ،

 وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنّ محمّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ بعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وأصحابهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا،

 أمّا بعدُ:

 فاتّقوا اللهَ أيها المؤمنونَ

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} 
عبادَ اللهِ 
جاءتْ الشّريعةُ بالمحافظةِ على الضروراتِ الخمسِ:

 

 الدِّينِ والنّفسِ والعقلِ والعرضِ والمالِ،

 

والمجتمعُ المسلمُ يرتكزُ على قواعدَ متينةٍ يلزمَ المحافظةُ عليها، حتى ينعمَ بالحياةِ الآمنةِ المستقرةِ،

 
وقدْ جاءَ الإسلامُ بتحريمِ الاعتداءِ على النفسِ البشريةِ بغيرِ حقٍّ، ورتّبَ على هذه الجريمةِ الشنعاءِ حكمَ القصاصِ،

 الذي أوجبهُ من أجلِ صيانةِ دماءِ النّاسِ والمحافظةِ على أرواحِهِم، والقضاءِ على الضغائنِ والأحقادِ التي تثيرُها عصبيةُ الجاهليةِ؛ قال تعالى:

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}

 ، فعندما يُؤْخَذُ الجاني بجنايتهِ يرتدعُ كلُّ مَنْ يهمُّ بقتلِ أخيهِ المسلمِ أو يهمُّ بالاعتداءِ على أي نفسٍ معصومةٍ،

 

 فيَكُفُّ الظالمُ عن الإقدامِ على القتلِ خوفاً منَ القَصاصِ، وفي كَفِّهِ وارتداعِهِ عن الإقدامِ على القتلِ حياةٌ حقيقيةٌ لهُ ولمن أرادَ قتلَه ولأفرادِ المجتمعِ أيضًا

 
عبادَ اللهِ: إنَّ منْ حقِّ أولياءِ المقتولِ طلبَ القصاصِ منَ القاتلِ وهوَ حقٌ مشروعٌ لا غُبارَ عليهِ، لقولِ اللهِ تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} 
وجعلَ لهم الخيرةَ بينَ القصاصِ والدِّيةِ والعفوِ، فقالَ جلّ وعلَا:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}

 

وقالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: ( مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيرِ النظرينِ إِمّا أَنْ يفدي أو يُقاد )

 

 فالعفوُ كلمَا كانَ عنْ جنايةٍ عُظْمَى كانَ الثوابُ عند اللهِ تعالى أعظمَ، كما قال جلّ وعَلَا {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }

وقالَ صلّى الله عليهِ وسلّمَ: (مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بعفوٍ إِلّا عِزًّا)(رواه مسلم 
وَإِذَا أسْقطَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتولِ حقَّهم الشّرْعِي فِي القَصَاصِ بالعفوِ عن القاتلِ، فلا يُسْقِطُ ذلكَ حقَّ المقْتُولِ منَ القصاصِ يومَ القيامةِ، فعن ابنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: قال رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:(أَوّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ)(رواه البخاري ومسلم
عبادَ الله: 
وَعَلَى الرّغْمِ مِنْ حِرْصِ الشّارِعِ الْحَكِيمِ على العفوِ، إِلّا أَنّ كَثِيرًا مِنْ أولياءِ الدمِ في زمانِنا هذا أصبحَ همُّهُم الأكبرُ هو الحصولُ على ديةٍ كبيرةٍ لا يتحمّلُها القاتلُ من أجلِ التنازلِ عنِ القصاصِ، وأصبحَ الأمرُ وكأنَّهُ تجارةٌ عندَ أهلِ المقتولِ؛ فتجدُهم يطالبونَ بملايينِ الريالاتِ  

، وكأنَّهم في مزادٍ علنِيٍ
ولا شكًّ أنًّ لهم حقَّ المطالبةِ بما يريدونَ من مبلغِ الديةِ، لكنَّ هذا الأمرَ أصبحَ يُؤَرّقُ المجتمعَ لما فيه من تكليفِ النّفسِ ما لا تطيقُ، وكذلكَ تكليفِ المجتمعِ بما لا يطيقُ.

 وأسبابُ ذلك كثيرةٌ، منها


الأول: الجهلُ بأهميةِ العفوِ والصفحِ والتسامحِ، وضعفُ اليقينِ بما عندَ اللهِ منَ الأجرِ والمثوبةِ لمن عفى عن أخيهِ المُسلمِ


الثاني: وقوفُ كثيرٍ من أهلِ الخيرِ مع القاتلِ وتعاونِهم معه لرفعِ القصاصِ عنه حرصًا على حياتِهِ منْ أجل أسرتِهِ، فيستغلُّ أهلُ المقتولِ ذلك بالمزايدةِ في طلبِ الأموالِ الكثيرةِ، فيصبحُ الأمرُ وكأنَّهُ تجارةٌ بينَ أهلِ القتيلِ وأهلِ القاتلِ

عبادَ اللهِ
لقدْ كفلَ الإسلامُ لأولياءِ الدمِ التنازلَ عن حقِّ القصاصِ نظيرَ مقابلٍ ماليٍ يتمُّ الاتفاقُ عليهِ مع ذوي الجاني، وأنّ القصاصَ من الجاني على النفسِ وما دُونَها من الجراحاتِ حقٌّ خاصٌّ للمجني عليه أو للورثةِ، إِلّا أنَّ مَا طرأَ على هذا الأمرِ من المبالغاتِ والمزايداتِ قد حرفتهُ عن مسارِهِ، فأصبحَ البعضُ من ضعافِ النفوسِ لا تهمُّهم الجرائمُ،

 

 فيرتكبونَها مَا داموا متأكِّدينَ منْ وجودِ منْ يسعى لدى أهلِ الخيرِ والإحسانِ في فكّ رقابِهِم، فيأخذونَ الأموالَ المخصّصة للزّكَوَاتِ والصّدَقَاتِ لِسَدّ مبلغ القصاصِ عنهم


عبادَ اللهِ: إنَّ ظاهرةَ طلبِ الدياتِ الكبيرةِ أصبحتْ مقلقةً لأولياءِ القاتلِ وجماعتِهِ، وعندما يوافقُ أولياءُ الدمِ على التنازلِ لا ينظرونَ إلى مقدارِ مَا يُدفعُ فهم يريدونَ إنقاذَ الجاني منَ القصاصِ،

 

 وفي الغالبِ أنَّ القاتلَ لا يدفعُ شيئًا بل الّذِي يتحمّلُ عنهُ ذلكَ أُنَاسٌ لا ذنبَ لهم فيما أقدمَ عليهِ،

 

 ومنْ هُنا فإنّ توعيةَ المجتمعِ بهذا الموضوعِ أمرٌ مهمٌ وتوعيةُ الناسِ بما وردَ في الشرعِ الحكيمِ من حثٍّ على الخيرِ وتغليبِ جانبِ مَا عندَ اللهِ خيرٌ مما يأخذهُ الوليُّ أوْ منْ لهُ صلةٌ بالقتيلِ،

 

وأن يكونَ العفوُ والتسامحُ هو السمةُ الغالبةُ بينَ الناسِ

أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}


باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكمْ بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكرِ الحكيمِ أقولُ ما سمعتمْ فاستغفروا اللهَ يغفر لي ولكم إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ

 
الخطبةُ الثانيةُ


الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمرسلين، نبيِّنا محمد صلى الله عليه وآلهِ وصحبهِ أجمعين،

 أما بعدُ 
فاتَّقوا اللهَ عبادَ اللهَ:

 

واعلمُوا أنَّ بيانَ فضيلةِ خُلُقِ العفوِ وتذكيرِ النّاسِ بذلِكَ وبالنُّصوصِ الحاثّة عليهِ يعودُ بأثرٍ إيجابيٍ كبير، وكذلك بذلُ الجاهِ والشّفَاعَاتِ للعفوِ ابتغاءَ وجهِ اللهِ أوْ الرّضَا بالدّيَةِ الشّرْعِيّةِ المحدّدَةِ،

 

أوالصُّلح على مال غير مبالغ فيهِ مبالغةً فاحشةً،

 

ولقد ندب الشارع إلى حث الأولياء على الصلح والتنازل لوجه الله أو أخذ دية القتل العمد,

 

 وإنَّ من الخصالِ الحميدةِ والأخلاقِ الكريمةِ التي ينبغي على كلِّ مسلم أن يتحلى بها صفةَ العفوِ وهي "التجاوزُ عن الذنبِ وتركُ العقابِ عليه" لأنَّ اللهَ عفوٌ يحبُّ العفوَ

 

أسألُ اللهَ -تعالى- أن يحفظَ علينَا دينَنا وأمنَنا واجتماعَ كلمتِنا ووحدةَ صفِنا، إنّهُ وليُّ ذلكَ والقادرُ عليهِ. هذا وصلّوا وسلّموا على الحبيبِ المصطفى فقدْ أمركم اللهُ بذلكَ فقالَ -جلّ مِنْ قائلٍ عليمًا-: (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً



المرفقات

العفو-2

العفو-2

المشاهدات 1374 | التعليقات 0