طول الامل والاستعداد للموت

محمود الطائي
1435/01/05 - 2013/11/08 19:34PM
من تأمل حال الناس اليوم ، ورأى مَن حوله من القريب و البعيد ، كيفَ أن مصائب الدنيا تحيط ُ بهم من كل جانب ، بل وفي كل لحظة ، وأن في تقلباتها دروساً وعبر ، وآيات لمن تأمل ونظر .

، فكيف الامانُ فيها ، والمَنايا تخطف الصغير قبل الكبير والصحيحَ قبل السقيم ، ولازلنا في بحر الأماني سابحون ، وفي ظلمة الشهوات سائرون ، وعلى شئم المعصية عاكفون، فهذا الزمان عزني وألهاني ، وأغرقني و أنساني ، وأحزنني و أبكاني.

فبينما النفس تأمل فيها الأماني ، إذ هجم عليها المنون.. فكانت كأن لم تكون..


عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
(( خَطَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الْوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الْوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الْوَسَطِ، وَقَالَ: هَذَا الْإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ، أَوْ قَدْ أَحَاطَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الْخُطَطُ الصِّغَارُ الْأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا ))

وعن انس ٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قال النبي صلى الله عليه وسلم " يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مِنْهُ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ وَالأَمَلُ .
إلامَ تُغَرُّ بالأمل ِ الطويل ِ
وليس إلى الإقامة ِ من سبيل ِ
فدَعْ عنك التعلُّلَ بالأماني
فما بعدَ المشيبِ سوى الرحيلِ
أتأمَنُ أن تدومَ على الليالي
وكم أفنيْنَ قبلك من خليلِ
وما زالتْ بناتُ الدهر ِ تُفني
بني الأيام ِ جيلا ً بعد جيل ِ

يقول الله تعالى عن مشهدٍ عظيم من مشاهد يوم
القيامة ، وموقفٍ رهيب من مواقفِ الحسرةِ والندامة ، يصور فيه حالَ أهلِ الآمالِ الطويلة ، والأماني البعيدة.

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا ، انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ ، قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ، فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ ، بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ، يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ ، قَالُوا بَلَى ، وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ ، وَتَرَبَّصْتُمْ ، وَارْتَبْتُمْ ، وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ، حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ

فطول الأمل سببُ كل بليةٍ ورزية ، يقول الله تعالى: ﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ﴾
وقال جل وعلا عنه: ﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾
ومن أطال الأمل أساء العمل يقول الله تعالى : " ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ "
فنسينا ان هذه الدنيا... إما موتُ فجأة... أو مرضٌ بغتة ، ونحن في غفلة نائمون ..وفي الغي تائهون، فإنا لله وإنا إليه راجعون..
فقد اجتنى الناس من البنيانِ ما لم يسكنوه .
وجمعوا من الأموالِ ما لم يأكلوه .
وطلبوا من الآمالِ ما لم يدركوه
بنى عبد الله ابن مسعود بيتاً ، فدعا عمار ابن ياسر وقال:كيف ترى هذا البيت؟؟ فقال عمار: بنيتَ شديداً وأمّلتَ بعيداً وتموتُ قريباً .
وقال وهبٌ ابن مُنبه : لبث نوحٌ في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم ليس له بيتٌ يسكن فيه؟ فقيل له يا نبي الله لو اتخذت بيتا .. فقال: اليوم أموت... غدا أموت.. حتى أتاه الموت ولم يتخذ بيتا .

خطب الامام علي ٌ رضي الله عنه بالناس فقال : يا أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل وإتباع الهوى ، فأما طول الأمل فينسي الآخرة وأما أتباع الهوى فيبعد عن الحق.
وهل أهلكَ الناسَ اليوم إلا طولُ الأملِ وإتباعُ الهوى .
قال احد السلف
لو أملت أن أعيش شهرا لرأيت أني قد أتيت عظيما وكيف أمل ذلك وأنا أرى الفجائع تنزل بالخلائق آناء الليل والنهار .
ونحن في هذا البلد الاولى بنا ان نكون على أهبِ الاستعداد للقاء الله تعالى ففي كل يوم لنا ميتا نشيعه
ولكن قست قلوبنا وزين لنا الشيطان أعمالَنا
فـآه من شدة غفلتنا وقلةِ زادنا ؟
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا
واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أمــا ترين المــنايا كيف تلقُـــطنا لقــــطاً
وتُلحـِـقُ أُخــرانا بأولانا
في كل يوم لــنا ميـتاً نشـــيعه
نــرى بمصــرعه آثــــارَ موتــانا
يا نفس ما لي وللأموال أتــركها خلفي
وأخرج من دنياي عريانا
أبعد عمرٍ قــد قضّيْته لَعِـــباً
قد آن أن تقصـري قد آن قد آنا
أين الملوكُ وأبنــاءُ الملوكِ ومـن
كانت تَخـِــرُ له الأذقــانُ إذعـانا
خـلوا مدائنَ كان العــــزُ مَفرِشُـها
واستفرشوا حُفراً غبراً وقيعانا
يا راكضاً في ميادين الهوى مرحـاً
ورافــلاً في ثياب الغيِّ نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب
يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا

كانوا قديماً يتواصون فيما بينهم (( احرص على الموت توهب لك الحياة ))
، واليوم نحن لا نبالي أي حياةٍ نحياها ، المهم أنها حياة بأي حالٍ من الأحوال ، فنصبح ونمسي ولاهم لنا سوى الدنيا وحُطامِها ،
لا إله إلا الله كيف لا نرى حالنا.. والموت أمامنا .. والقبر منامُنا .. والقيامَة موقفُنا وجسرُ جهنَّم طريقُنا.. ولا ندري ما يفعَلُ بنا .
تيبست شفتي وتاهت أحرفي وجلا وكادت تنطفئ كلماتي..
لما ذكرت الموت في أهواله
وذكرت هول النزع والسكرات..
يقول ثابت البناني :

كنا إذا صرنا في جنازة ، لا نرى إلا باكياً متقنعاً ، وكنا لا ندري من نُعزي لكثرة الباكين .


انظر الى جنائزنا اليوم ، والله ترى عجب العجاب ، فالضاحكين والمبتسمين يمنةً ويسرة ، بل والله تسمع الغيبة والنميمة وقد تسمع البيع والشراء في وقت تجهيز القبر ،

إن لم يكن الموت فأي واعظٍ يعظنا

، ألا إني نهيتكم عن
زيارة القبور ، ألا فزوروها ، فإنها تذكركم بالآخرة
كم منا ذهب الى المقبرة بنية تذكر الاخرة ؟

ياعين فلتبكي ولتذرفي الدمعا
ذنبا احاط القلب اصغى له سمعا
اين الدموع على الخدين كم سالت
فالنفس للعصيان يارب قد مالت
هل يترى اصحو من سكرة الشهوة
ام ياترى ابقى في هُوة الشقوة
كيف القدوم على الجبار بالذلل
ام كيف القاه من دونِما عمل
قلبي لما يلقى قد آن بالشكوة
دمعي جفا عيني من قلة التقوى
لكنَّ من ارجوه لا يغلق البابا
التوب يا رحمنُ فالقلب قد تابا

فيا معشر كبار السن إذا استوي الزرع فليس له إلا الحصاد ..يا معشر الشباب قد يبلغ الزرع آفة قبل حصاده فيهلك ..
كم تركوا من جنات وعين و زروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهيين فذلك وأورثناها قوما آخرين ..
شتان بين أمان وأماني ....
شتان بين تهجُم عليه المنايا وأمانيه حسان ، وبين من تهجُم عليه المنايا وأمانيه نزعات الشيطان ..
من منا كانت أمانيهِ للآخرة من منا ادخر أمواله ليوم القيامة ، هب إننا بنينا البيوت واشترينا السيارات وأمنا مستقبل الاولاد ثم ماذا ؟ وجاءت سكرة الموت بالحق ، ماذا سنأخذ الدور ام القصور ، الاموال ام الاولاد ؟ هنا نقول ياليتني قدمت لحياتي
فيا عبد الله لا تخرج من الدنيا مفلسا مع المفلسين ، انما اعمل لأن تكون رابحاً بالتجارةِ مع رب العالمين
فلا تغادر الدنيا الا وقت اوقفت لك وقفا ًفي سبيل الله أياً كان بسيطا ، ومهما كان رخيصاً ، فالعبرة بصدق النوايا لا بكثرة العطايا .
فقد يسبق دينارا ألف دينار والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ ، أوْ أَصْغَرَ ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ) أي بقدر عُشِ طائر
فكيف بالذي ينفق الملايين ابتغاءَ مرضاتِ الله ؟
واسمعوا ياعباد الله لقصة ًمن أعظم قصص الوقف في هذه الأمة ، وكيف ان الله تعالى يربي صدقة عبده كما يربي احدنا فُلوه حتى يكون مثل الجبل او اعظم

لما هاجر المسلمون إلى المدينة كانوا يشعرون بالضيق من الماء التي يشربونها كونهم تعودوا على شرب ماء زمزم في مكةالمكرمة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم واخبروه بضيقهم و أن هناك بئراً تسمى بئر رومة في المدينة طعمه يشبه إلى حد كبير طعم ماء زمزم.
إلا أن هذه البئر يملكها يهودي وهو يبيع الماء بيعاً ولو كان مقدار كفِ اليد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( من يشتري بئر رومة، فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين ) فاشتراها عثمان رضي الله عنه وأوقف البئر للمسلمين .
ومرت السنوات حتى أصبحت النخيل تنمو حول هذه البئر، وكلُ حقبة تأتي عبر التاريخ وتهتم بهذا الأمر حتى بلغت عدد النخيل اكثر من الف نخلة.


وأصبحت الدولة ممثلة بوزارة الزراعة تبيع التمر بالأسواق وما يأتي منه من إيراد يوزع نصفه على الأيتام والمساكين والنصف الأخر يوضع في حساب خاص في البنك بإسم عثمان بن عفان تديره وزارة الأوقاف.
وفي وقتنا هذا أصبح يوجد بالبنك ما يكفي من أموال لشراء قطعة أرض في المنطقة المركزية المجاورة للحرم النبوي،وانتم تعلمون غلاء هذه المنطقة ، وفعلا تم شراء الأرض وتم التعاقد مع شركة لبناء عِمارة فُندقيّة كبيرة لإستثمار هذه الاموال،
والبناء الان في مراحله النهائية ، والامر معروف لمن ذهب للمدينة النبوية ، وسوف يتم تأجيره لشركة فندقية من فئة الخمس نجوم التي من المتوقع أن تأتي بإيراد سنوي يقارب 50 مليون ريال ، نصفها للأيتام والمساكين والنصف الاخر تودع في البنك .
والأرض مسجلة رسميا بالبلدية باسم عثمان بن عفان .
بماذا وصلوا لهذا ؟
أموالٌ تنفق في سبيل الله لأكثر من عشرة قرون، انه الصدق مع الله .
فبادِر يا عبد الله قبل ان تبادَر ، ولاتقل ليس لدي اموال .
اجعل ماتعلمته صدقة جارية في سبيل الله ، استخدم وجاهتك ومكانتك في سبيل الله ، دُلَّ على الخير فالدالُّ على الخير كفاعله ، ولاتحقرنَّ من المعروف شيئا ، والله عملٌ صغير خالصٌ لوجه الله تعالى يرفعك في اعلى المنازل بإذن الله ، واسمع لهذا الحديث العظيم يقول النبي صلى الله عليه وسلم
" إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْبَلُ الصَّدَقَاتِ، لَا يَقْبَلُ مِنْهَا إِلَّا الطَّيِّبَ، وَيَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي الرَّجُلُ مُهْرَهُ أَوْ فَصِيلَهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لَتَصِيرُ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلَ أُحُدٍ.
ومصداق هذا قول الله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}

﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
المشاهدات 3784 | التعليقات 2

خطبة قيمة ونافعة شيخ نسيم ولست النسيم الذي بين يدي المطر بل أنت الغيث المدرار.

وفقك ربي


جزاك الله خيرا أخي العزيز استاذ زياد
نسأل الله تعالى الاخلاص والقبول
والله انا اجمع خطب عدة واخذ منها مع تصرف يسير
فالفضل لله من قبل ومن بعد