طهور إن شاء الله

ناصر محمد الأحمد
1437/10/28 - 2016/08/02 02:09AM
طهور إن شاء الله
2/11/1437ه
د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: إنّ البشرَ قاطبةً مجمعون إجماعًا لا خِداج فيه على أنّ الصحّة تاجٌ فوق رؤوس الأصحّاء لا يراه إلا المرضى، وأنّ الصحّة والعافية نعمةٌ مغبون فيها كثيرٌ من النّاس.
الأمراضُ والأسقامُ عبادَ الله أدواء منتشرةٌ انتشارَ النّار في يابِس الحطَب، لا ينفكّ منها عَصر، ولا يستقلّ عنها مِصر، ولا يسلم منها بشرٌ ولا يكاد، إلاّ من رحم الله، إذ كلّها أعراض متوقّعة، وهيهات هيهاتَ أن تخلوَ الحياة منها، وإذا لم يُصَب أحدٌ بسيلِها الطامّ ضربَه رشاشها المتناثرُ هنا أو هناك، وثمانيةٌ لا بدّ منها أن تمرَّ على الفتى، ولا بدّ أن تجريَ عليه هذه الثمانية:
سرورٌ وهمٌّ واجتماعٌ وفرقةٌ ويسرٌ وعسرٌ ثمّ سُقمٌ وعافية
أيها المسلمون: لماذا خلق الله المرض؟.
لابد أن تعلم أيها المسلم بأن الله عز وجل وعلا هو الذى يخلق الشر كما يخلق الخير. ويوجد المرض كما توجد الصحة والعافية. هذا هو معتقد أهل السنة والجماعة في باب القدر: أن تؤمن بالقدر خيره وشره.
فالمرض الذي يصيب الإنسان وإن كان شراً من بعض الجوانب فإن فيه خير من جوانب أخرى من تمحيص الذنوب وتكفير السيئات ورفع الدرجات وغيرها مما نعلمها أو لا نعلمها.
فنقول بأن الله جل وعلا خلق المرض لحكم وأسباب منها:
أولاً: حتى يعرف العبد حقيقة نفسه:
وأنه ضعيف سريع العطب. فبعض الناس يغفل عن هذه الحقيقة، يسير على الأرض وكأن لا أحد غيرُه، يتكبر على الناس، يتطاول على عباد الله، بل ربما احتقر الناس وانتقصهم وربما طعن في أحسابهم وأنسابهم، بل ربما تعدى الأمر إلى ظلمهم وأكل حقوقهم وأموالهم بالباطل، كل هذا وغيره وهو لم ينتبه لقول الله جل وعلا: (وخلق الإنسان ضعيفا). تمر عليه لحظات غفلة وجحود، يرى العبد فيها نفسه أنه قد استغنى عن الناس فيظن غباءً منه أنه قد استغنى عن الله جل وعلا أيضاً، فكان لابد من المرض لهذه النوعية من البشر.
ثانياً: خلق المرض حتى يعرف العبد عِظم نعمة العافية:
فكثير من الناس لا يعرف عظم نعمة العافية الذي هو فيه إلا إذا أصيب بمرض. البعض يظن جهلاً منه أن النعمة في المال فقط فإذا فقد نعمة المال أساء الظن بربه وأظهر التسخط والتضجر، كحال ذلك الرجل الذى جاء يشكو حاله إلى صاحبه مما ابتلاه الله من الفقر، فقال له صاحبه: أتحب أن يكون عندك مائة ألف دينار وأنت أعمى العينين قال: لا. قال أتحب أن يكون عندك مائة ألف دينار وأنت مقطوع اليدين قال: لا. قال أتحب أن يكون عندك مائة ألف دينار وأنت مقطوع الرجلين قال: لا. قال أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك كل هذه النعم.
وذُكر أن والياً استضاف أعرابياً على مائدته وعليها من ألوان الطعام والشراب، فقال الوالي مفتخراً وممتناً: ما تقول في الطعام يا أعرابى؟ فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنما طيبته العافية. وصدق الشاعر:
ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريضٍ يجد مراً به الماء الزلالا
وهذا صحيح فالمريض حتى الماء الزلال يجده مراً في فمه.
ويقال بأن أحد الخلفاء عاد من رحلة صيد وكان في أشد حالات العطش فطلب كوب ماء فلما جيء به كان بجواره أحد العلماء فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، لو مُنعت هذا الماء، فهل تشتريه بنصف ملكك؟ قال نعم أشتريه بنصف ملكى. فلما شرب قال: هنأك الله يا أمير المؤمنين، فهل تشتري خروجه بعافية بنصف ملكك لو احتبس عنك البول؟ قال: نعم أشتريه بنصف ملكي. قال: فاتق الله في ملك لا يعدل شربة ولا بولة.
ثالثاً: خلق المرض أيضاً حتى نعرف حقيقة الدنيا وتفاهتها:
دنيا فيها من الأسقام والأوجاع والآلام والمشاكل والمصائب ما الله به عليم، دنيا لا تساوى عند الله جناح بعوضة، وإلاّ لما أوجد وخلق فيها هذه الأشياء، لو كانت تزن وتستحق شيئاً لطهّرها من هذه الأمور كالدار الآخرة، لكن لتفاهتها وحقارتها وُجد فيها كل شىء ومن ضمنها الأمراض. أفتستحق مثل هذه الدار أن يَقتل بعضنا بعضاً لأجلها، أو تخون أيها المسلم أو تغدر أو تسرق أو تحتال أو تكذب لأجل هذه الدنيا، بل هل تستحق أن تسهر الليالى والأيام مشغول الفكر والقلب والبدن لدنيا فيها الأمراض والآلام والمصائب.
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
ويقول آخر:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودُورنا لخراب الدهر نبنيها
والنفس تكلف بالدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
فلا الإقامة تنجي النفس من تلف ولا الفرار من الأحداث ينجيها
وكل نفس لها دور يصبحها من المنية يوماً أو يمسيها
رابعاً: خلق المرض تكفيراً لسيئات المسلم:
وتطهيراً له من الذنوب ورفعاً لدرجاته عند الله تبارك وتعالى: قال : "ما مِن مسلمٍ يصيبه أذًى من مرض فما سواه إلاّ حطّ الله به سيّئاته كما تحطّ الشجرة ورقَها" رواه البخاري ومسلم.
وقال رجل لرسول الله : أرأيتَ هذه الأمراضَ التي تصيبنا، ما لنا بها؟ قال: "كفارات"، قال أبي بن كعب: وإن قلَّت؟! قال: "وإن شوكةً فما فوقها". رواه أحمد.
وعادَ رسول الله مريضًا من وَعكٍ كان به، فقال صلوات الله وسلامه عليه: "أبشِر فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: هي ناري أسلّطها على عبدي المؤمن في الدنيا، لتكونَ حظَّه من النار في الآخرة". رواه أحمد وابن ماجة.
ودخل رسولَ الله على أمّ السائب فقال: "ما لك يا أمّ السائب تُزَفزفين؟" قالت: الحمّى لا بارك الله فيها، فقال: "لا تسبِّي الحمّى، فإنّها تُذهِب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبثَ الحديد". رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد بسند حسن، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل أخذتك أم ملدم؟ قال: وما أم ملدم؟ قال: حر بين الجلد واللحم، قال: ما وجدت هذا قط، قال: فهل أخذك هذا الصداع؟ قال: ما الصداع؟ قال: عرق يضرب على الإنسان في رأسه، قال: ما وجدت هذا قط. فلما ولى قال: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا".
ولما كانت الأمراض مكفرة لسيئات العبد، طلبها بعض الصحابة. فعن أبى سعيد قال: قال أبي: يا رسول الله، ما جزاء الحمى؟ قال: "تجري الحسنات على صاحبها". فقال: اللهم إني أسالك حمى لا تمنعني خروجاً في سبيلك. قال: فلم يُمَسّ أبي قط إلا وبه حمى. رواه الطبراني في الأوسط.

بارك الله ..


الخطبة الثانية:
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: إن المريض يجب عليه أشياء:
أولاً: أن يرضى بقضاء الله وقدره ويصبر على مرضه:
قال عليه الصلاة السلام: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". رواه مسلم.
ثانياً: أن يحسن الظن بربه عز وجل حال مرضه:
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى". رواه مسلم.
ثالثاً: ينبغى على المريض أن يكون بين الخوف والرجاء:
يخاف عقاب الله على ذنوبه ويرجو رحمة ربه، لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو بالموت فقال: "كيف تجدك؟" قال: والله يا رسول الله إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمّنه مما يخاف". رواه الترمذي.
رابعاً: يجب على المريض أنه مهما اشتد به المرض فلا يجوز له أن يتمنى الموت:
لحديث أم الفضل رضى الله عنها أن رسول صلى الله عليه وسلم دخل عليهم وعباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي فتمنى عباس الموت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم لا تتمنّ الموت، فإنك إن كنت محسناً فإن تؤخر تزداد إحساناً إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئاً فإن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك، فلا تتمنّ الموت". وقال صلى الله عليه وسلم: "فإن كان لابد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خير لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي". رواه البخاري.
خامساً: يجب على المريض أن يكثر حال مرضه من التوبه والاستغفار والتشهد:
لأنه لا يدري ربما لا يقوم من مرضه هذا، وتكون نهايته في هذه الحياة بسبب هذا المرض الذى أصابه.
سادساً: إحذر أيها المريض الشكوى لغير الله جل وعلا:
لا تشتكي ما بك إلى المخلوقين: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) الشكوى التى فيها السخط وعدم الرضا بقضاء الله عز وجل وإظهار الجزع لا يجوز في دين الإسلام، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض يعوده قاله له: "لا بأس طهور إن شاء الله" قال: قلتَ طهور؟ كلا بل هي حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فنعم إذاً". وعند الطبراني من حديث شرحبيل والد عبد الرحمن، أن الأعرابي المذكور أصبح ميتاً. وكلام الأعرابي واضح فيما أظهره من الجزع وعدم الرضى والصبر بقضاء الله عز وجل.
سابعاً: لا يجوز للمريض أن يفكر في الإنتحار:
كالذى يخبره الطبيب أن به مرضاً خبيثاً فلا يتحمل الأمر ويجد أنه لا نجاة له إلا أن ينتحر ويكون بذلك قد خسر الدنيا والآخرة، أما خسرانه في الدنيا بفوات ثواب الأجر على المصاب، وأما خسارة الآخرة، فالعذاب الذي ينتظره يوم القيامة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من تردى من جبل فهو يتردى منه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن تحسّى سمّا فسمّه بيده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن توجأ بحديدة - أي طعن نفسه بحديدة - فحديدته بيده يتوجأ فيها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا". رواه البخارى ومسلم.
ثامناً: لا يجوز للمريض أن يأتي الكهان والسحرة والعرافين:
ومع الأسف أن هناك من يعتقد بأن شفاءه عند هؤلاء الدجاجلة، فيأيتهم لما يجد من الآلام وربما لم يُكتب له الشفاء في علاج المستشفيات، فيأتي من ينصحه أن يذهب إلى هؤلاء، فيأخذون أمواله ويزيدون في بلائه ومرضه، وفوق هذا يعبثون بدينه وإيمانه، يقول عليه الصلاة والسلام: "من أتى ساحراً أو كاهناً أو عرافاً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد".
تاسعاً: يجب على المريض إذا كان عليه حقوق فليؤدها إلى أصحابها:
إن تيسر له ذلك وإلا أوصى بها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو ماله فليؤدها إليه قبل أن يأتي يوم القيامة، لا يُقبل فيه دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه وأعطي صاحبه وإن لم يكن له عمل صالح، أُخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه". رواه ابن حبان.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما المفلس: قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". رواه مسلم.
عاشراً: يجب على مريض البدن أن يستعجل في كتابة الوصية:
إذا لم يكن قد كتبها خصوصاً إذا كان لها تعلق بحقوق الآخرين لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما حق إمرئ مسلم يبيت ليلتين له شئ يريد أن يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه". قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي". رواه الشيخان.
الحادي عشر: ينبغي على المريض أن يحرص على التداوي والأخذ بالأسباب:
لما رواه أبو داود في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء علمه من علمه وجهله من جهله، فتداوا عباد الله ولا تتداوا بحرام". فالحذر الحذر أيها المسلم أن تتداوى بما حرم الله جل وعلا، وعليك الاستشفاء بما أباح الله من العقاقير الطبية مما يصفه الثقات من الأطباء، ولا تغفل الاستشفاء بآيات الله عز وجل وبالأدعية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني عشر: يجب على المريض أن لا يهمل الصلاة ولا يتساهل بالطهارة:
فيجب أن يصلَّى في وقتها إن استطاع، فإن لم يستطِع جمع بين الظهر والعصرِ وبين المغرب والعشاء رخصةً من الشارع الحكيم. كما يجِب عليه أن يتطهّر للصلاة التطهّرَ الشرعي، فإن لم يستطع فإنّه يتيمّم، فإن لم يستطع فإنّه يصلّي على حاله، ولا يدع الصلاة تفوت عن وقتها بأي حال من الأحوال، والله جل وعلا يقول: (فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُم) [التغابن:16]، ويقول سبحانه: (لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة:233].

اللهم ..
المشاهدات 1628 | التعليقات 0