ضوابط العزلة والخلطة || كتبه: عصام خضر

الفريق العلمي
1439/07/09 - 2018/03/26 12:41PM

الحمد لله والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

فإن العُزلة موجودة منذ عهد الرِّسالات،بَيْد أن الرسل والأنبياء أنفسهم عليهم الصلاة والسلام لما رأوا تكذيب قومهم لهم، واستمرارهم على كفرهم، وعدم الانقياد لطاعة ربهم، اعتزلوهم ومايعبدون من دون الله عزوجل، فحَاق بقومهم ماكانوا به يستهزؤون، وحل بساحتهم العذاب الهُون.

قال تعالى:" فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا"، (مريم:49)

وقال موسى عليه السلام:"وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ"، (الدخان :21)

 

ولقد جاء في خبر من قبلنا أنهم ترهبنوا، فكانوا يفرون إلى الجبال والصحاري ليخلصوا من الفتنة في دينهم، فيقطعون أنفسهم عن مخالطة الناس، وعن الزواج والنسل.

 

ولقد بقيت من العزلة بقايا في شرعنا، وجاءت بها نصوص وآثار، وجاءت بضدها نصوص أيضا وآثار، فكان أن تنازعهما طرفان من أهل العلم- رحمهم الله-، فبين مستحب لها على المخالطة، وبين مستحب للمخالطة على العزلة، والأمر لابد له من ضابط وإلا خرج عن حد الشرع، فبعض الصالحين قد يدفعه يأسه من عدم قدرته على التغيير إلى اعتزال أهل الباطل ولو كانوا من قرابته وإن كان يستطيع أن يغير من واقع من حوله وهدايتهم لكن مع شيء من الجهد والتعب فأحببت هنا بيان أحكام و ضوابط العزلة والخلطة الشرعية.

 

 

العزلة - بالضم - في اللغة: "تَعَاَزَلَ القومُ انْعَزَلَ بَعْضُهم عن بَعَض والعُزْلةُ الانْعِزال نفسُه يقال العُزْلةُ عِبادة وكُنْتُ بمَعْزِلٍ عن كذا وكذا أَي كُنْتُ بموْضع عُزْلةٍ منه واعْتَزَلْتُ القومَ أَي فارَقْتهم وتَنَحَّيت عنهم "[1].

 

وفي الاصطلاح: "هي الخروج عن مخالطة الخلق بالانزواء والانقطاع" [2].

 

ونقصد بحديثنا عن العزلة هنا العزلة الدينية عزلة عن الشرِّ وفضولِ المباحِ، وهي ممّا يشرحُ الخاطر ويُذهبُ الحزن وهي الواردة في الأثر عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- :"خذوا حظكم من العزلة".وقال "العزلة راحة من خليط السوء"[3].

والحظ النصيب، فكأنه يقول لكل مسلم نصيب في العزلة فليأخذ نصيبه منها ولا يفرط فيه، فعندما يخلو الإنسان بنفسه يراجعها ويحاسبها وفي ذلك سبيل لإصلاحها.

 

"ونسب إلى محمد بن سيرين و سعيد بن المسيب قولهما: "العزلة عبادة." وذكر عبد الله بن حبيق قال قال لي يوسف بن أسباط قال لي سفيان الثوري وهو يطوف حول الكعبة والذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة وقال بعض الحكماء الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت والعاشرة عزلة الناس قال وعالجت نفسي على الصمت فلم أظفر به فرأيت أن العاشرة خير الأجزاء وهي عزلة الناس.

 

قال أبو عمر- ابن عبد البر: وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك وإن كنت بين ظهرانيهم ذكر ابن المبارك قال حدثنا وهيب بن الورد قال جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال إن الناس قد وقعوا فيما فيه وقعوا وقد حدثت نفسي أن لا أخالطهم فقال لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ولا بد لهم منك ولك إليهم حوائج ولهم إليك حوائج ولكن كن فيهم أصم سميعا أعمى بصيرا سكوتا نطوقا وقال ابن المبارك في تفسير العزلة أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت"[4].

 

وهذ الذي نقله ابن عبد البر عن وهب وابن المبارك هي المفاصلة والعزلة الشعورية التي تحدث عنها سيد قطب -رحمه الله- و أسيء فهمها وهو الإحساس بعدم الانسجام، مع هذا النسق الاجتماعي، أو ذلك النظام الأخلاقي، والاختلاف مع هذا المجتمع في مسائل جوهرية وهو يعني بالضرورة عزلة شعورية، تشعرنا أننا لا ننتمي لذلك المجتمع، (ثقافيًا وأخلاقيًا). لكننا في الوقت نفسه نتفاعل مع مؤسساته التعليمية والاقتصادية، والسياسية كذلك.

 

كما أننا نتمنى في الوقت نفسه، صلاحه وهداية أفراده، للحق الذي لدينا. هكذا ينبغي أن تُفهم العزلة الشعورية. أما الذين فهموا (العزلة الشعورية).. إن وجدوا، على أنها إنزواء وهجر للمجتمع، وقطيعة مع أفراده، فهذه مشكلتهم في الفهم، وتعبيرًا عن طبيعة شخصياتهم، التي لا تمثل بالضرورة إلا نفسها. لقد ساعد مفهوم العزلة الشعورية، الكثير منا أن يحافظ على كيانه متزنًا، وعلى قناعته سليمة، في معظم فترات حياتهم. ولم يمنعهم ذلك، أن يتفاعلوا مع البيئات التي وجدوا أنفسهم فيها. إن مفهوم العزلة الشعورية، بعبارة أخري، هو نفسه.. أن يتمعر وجهك، لحد من حدود الله ينتهك. وهو نفسه أن تكره أن تعود إلي الكفر، بعد أن هداك الله للإسلام، مثلما تكره أن تلقي في النار. وهو نفسه الولاء لأهل التوحيد، والبراء من أهل الشرك، حتى وأنت تعيش بين ظهرانيهم، وتتعامل معهم، وتأكل من طعامهم.

 

ونقل ابن حجر والعيني عن قوم: تفضيل العزلة، لكن يشترط أن يكون عارفا بوظائف العبادة التي تلزمه وما يكلف به، لما فيها من السلامة المحققة وذلك عند ظهور الفتن وفساد الناس، إلا أن يكون الإنسان له قدرة على إزالة الفتنة، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها بحسب الحال والإمكان.

 

قال الكرماني: المختار في عصرنا تفضيل الانعزال لندرة خلو المحافل عن المعاصي[5]، واحتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا"،(سورة مريم :48 ). وبحديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- قال قلت يا رسول الله ما النجاة قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك[6].

 

 

وقال ابن عبد البر في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم" ألا أخبركم بخير الناس منزلا رجل آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله ألا أخبركم بخير الناس منزلة بعده رجل معتزل في غنيمة له يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئا" "وأما قوله "خير الناس بعده رجل معتزل في غنيمة له" ففي ذلك حض على الانفراد عن الناس واعتزالهم والفرار عنهم وقد فضلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-كما ترى وفضلها جماعة العلماء والحكماء لا سيما في زمن الفتن وفساد الناس وقد يكون الاعتزال عن الناس مرة في الجبال والشعاب ومرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت وقد جاء في غير هذا الحديث إذا كانت الفتنة فاخف مكانك وكف لسانك ولم يخص موضعا من موضع.." [7].

 

قال النووي:" قوله صلى الله عليه و سلم ( ثم مؤمن فى شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره ) فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط وفى ذلك خلاف مشهور فمذهب الشافعى وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال فى زمن الفتن والحروب أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص وقد كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك.."[8].

 

وأما في غير الفتن فقد اختلف العلماء في المفاضلة بين العزلة والخلطة:

فذهب إلى اختيار العزلة، وتفضيلها على المخالطة: سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، وداود الطائي، والفضيل بن عياض، وسليمان الخواص، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وبشر الحافي.

 

وذهب إلي فضل المخالطة:سعيد بن المسيب، والشَّعبي، وابن أبي ليلى، وهشام بن عروة، وابن شبرمة، وشُريح القاضي، وشريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد ابن جنبل، وجماعة.

 

والصواب أن يقال أنه لا يمكن التفريق بينهما ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر، فلكل منهما أثر على المجتمع والفرد في تربية النفس.

 

وقال ابن حجر نقلاً عن الخطابي: " أن العزلة والاختلاط يختلفان باختلاف متعلقاتهما، فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعلق بطاعة الأئمة وأمور الدين وعكسها في عكسه وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان فمن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق المسلمين من العيادة وشهود الجنازة ونحو ذلك والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة، لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء، فيقتصر منه على ما لا بد له منه فهو روح البدن والقلب. اهـ[9]

 

وقال الغزالي: "إن وجدت جليسا يذكرك الله رؤيته وسيرته فالزمه ولا تفارقه، واغتنمه ولا تستحقره، فإنها غنيمة المؤمن وضالة المؤمن، وتحقق أن الجليس الصالح خير من الوحدة، وأن الوحدة خير من الجليس السوء[10].

 

وقال النووي: اعلم أن الاختلاط بالناس على الوجه الذي ذكرته - أي من شهود خيرهم دون شرهم، وسلامتهم من شره - هو المختار الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وكذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء -رضي الله عنهم- أجمعين[11].

 

بيان بعض النصوص الشرعية في العزلة والخلطة وبعض اقوال اهل العلم في ذلك:

قال عز وجلّ:" إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" (الكهف:10).

 

قال القرطبي: "هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة وقد خرج النبي صلى الله عليه و سلم فارا بدينه وكذلك أصحاب..

 

قال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب مرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت وقد جاء في الخبر: "إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك " ولم يخص موضعا من موضع وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزل الشر وأهله بقلبك وعملك وإن كنت بين أظهرهم وقال ابن المبارك في تفسير العزلة: أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت.اهـ[12]

 

 قال ابن كثير: "وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث: "يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن" ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها،

المشاهدات 1506 | التعليقات 0