ضَــــــعْفًا وَشَـــــــيْبَةً (تعميم)

يوسف العوض
1446/04/05 - 2024/10/08 09:16AM

الخطبة الأولى

عبادَ اللهِ : الإنسانُ يتقلبُ في حياتهِ بمراحلَ ثلاثٍ فمَرْحَلَةُ الطفولةِ وهي مرحلةُ ضعْـفِ، يحتاجُ فيها إلى رعايةِ وعنايةِ من يقومُ بشؤونهِ حتى يشبَ ويكبرَ، ومرحلةِ الشبابِ وهي مَرْحَلَةُ قُوَّةٍ وَنشَاطٍ وَهمّـةٍ وفتوةٍ ، وعَمَلٍ وإنتاجٍ ، يرعى شأنهُ بنفسهِ ويقومُ بأمرهِ ، ثمّ مرحلةِ الشَّيْخُوخَةِ وهي مرحلةُ ضعفٍ ثانيةٍ، يشيبُ فيها شعرهُ، ويكبرُ فيها عمرهُ، ويضعفُ بدنهُ، ويقلُّ سمعهُ وبصرهُ، وتتثاقلُ حركتهُ، حَتَّى يَعُودَ مُحْـتَاجًا مَرَّةً أُخْرَى إِلَى المُسَاعَدَةِ وَالعَوْنِ، وَالعَطْفِ وَالرَّحْمَةِ وهذا مصداقاً لقولهِ سبحانهُ: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ".

ولذلكَ قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "إنَّ مِن إجلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ المسلم، وحامِلِ القرآن غيرِ الغالي فيه والجافي عنه، وذي السلطانِ المقسِط" فكبارُ السنِّ هم بركةُ المجتمعاتِ، وأهلُ الخيراتِ، وأصحابُ الخبراتِ، وذوو الرأي والمشوراتِ، جعلَ اللهُ الخيرَ معهم، والبركةَ عندهم، كما قالَ صلّى اللهُ عليه وسلّم: "الخير في أكابركم"، وفي روايةٍ "البركة في أكابركم" هؤلاءِ الكبارُ قضوا أعمارَهم وأفنوا شبابَهم في تربيةِ أولادهم، وخدمةِ أوطانِهم ومجتمعاتِهم، وعبادةِ ربهم.. فكانت مراعاتُهم عندَ كبرهِم وضعفِ أجسادهِم وقلةِ حيلهم من بابِ ردِّ الجميلِ، ومقابلةِ الإحسانِ بالإحسانِ "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ".

عبادَ اللهِ : أمرَ الإسلامُ جميعَ أفرادِ المجتمعِ بالاهتمامِ بهم والاعتناءِ بشأنهم والإحسانِ إليهم:

فأمرَ أولادَهم بأنْ يُحسنوا إليهم في كبرهِم كما أنّهم سبقَ وأحسنوا هم إليهم في صغرهِم، قالَ تَعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا".

وأمرهَم بحسنِ صحبتِهم وإنْ سعوا في كفرهِم وعملوا على إضلالِهم، فقالَ سبحانه: "وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًاۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ".

وأمّا من جهةِ عبادتِهم لربِهم، فإنَّ اللهَ تبارك اسمُه وهو الشكورُ قد شكرَ لهم ما قدموه في سالفِ الأعمارِ، فلمّا كبرت أسنانُهم، وضعفت أبدانُهم يسّرَعليهم وجعلَ لهم الرُّخصَ والمعاذيرَ، فمن لم يقدرْ على الصلاةِ قائماً صلّى قاعداً، ومنْ ضعفَ عن الصِّيامِ وضعَ عنهُ الصِّيامَ وأمرهُ بالإطعامِ، ومن كتبَ عليه الحجَّ ولم يتحمل بدنُه شرعَ له أن يُنيبَ من يحجَّ عنه ، وأمرَ باعتبارِ هذا السنِّ الكبيرِ والالتفاتِ إليه وعدمِ تجاهلهِ حالَ حضورهِم العباداتِ، فقال: "إذا صلَّى أحَدُكم لِلناسِ فليُخفِّفْ؛ فإنَّ فيهمُ الضَّعيفَ والسَّقيمَ والكَبيرَ، وإذا صلَّى لِنَفْسِه فليُطوِّلْ ما شاءَ".

ًعبادَ اللهِ : وجَّهَ الشَّرعُ المجتمعَ المسلمَ للاهتمامِ بهذهِ الفئةِ من أبناءِ الوطنِ وجعلَ لهم على المجتمعِ حقوقا:

ِأولها: الاحترامُ والتوقيرُ: قالَ النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ليسَ منَّا من لم يرحَم صغيرَنا ويعرِفْ شرفَ كبيرِنا"، فأمرَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ باحترامِ الكبارِ وتوقيرهِم، وحذَّرَ من عدمِ معرفة حقهِم وتركِ توقيرهِم فقالَ: "ليس مِنَّا من لم يرحمْ صغيرنا ، ويُوَقِّرْ كبيرنا ، ويأمرْ بالمعروفِ ، ويَنْهَ عن المنكرِ".

ولمَّا جاءَ أبو بكر بأبيه أبي قحافةَ إلى النَّبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُسلمَ بين يديهِ، وكانَ شيخاً كبيراً طاعناً في السنِّ، فلمَّا رآهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم  : "قالَ لأبي بكرٍ: ( لو أقرَرْتَ ُالشَّيخَ في بيتِه لَأتَيْناه ) تكرِمةً لأبي بكرٍ قال: فأسلَم ورأسُه ولحيتُه كالثَّغامةِ بيضاءَ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ( غيِّروهما وجنِّبوه السَّوادَ )" وهذا منه تلطفٌ وأدبٌ جمٌّ وحسن َخلقٍ، ورحمةٌ بالكبارِ لأنَّ حقَّ النَّبي صلَّى الله ُعليه وسلَّم أنْ يُؤتى، ولكنَّه يعلمُ الأمَّة.

ثانيا: جعلَ الإسلامُ الشيبََ نوراً ووقارًا وثوابًا وأجراً كبيراً، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "لا تنتِفوا الشَّيبَ ما من مسلِمٍ يشيبُ شيبةً في الإسلامِ إلَّا كانت لَهُ نورًا يومَ القيامةِ إلَّا كتبَ اللَّهُ لَهُ بِها حسنةً وحطَّ عنهُ بِها خطيئةً".

ثالثا: جعلَ اللهُ لهم حقاً على المجتمعِ إذا احتاجوا أن يعينَهم، وإذا افتقروا أن ينفقَ عليهم، فلا يهملهم ويتركهم لعوادي الزَّمنِ، وإنَّما كما خدموا في شبابِهم يخدموا في هرمِهم، وكما قدموا للمجتمعِ في قوتِهم يحملهم المجتمعُ في حالِ ضعفِهم وعجزِهم، قالَ اللُه تعالى:" إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ".

الخطبة الثانية

عباد الله : إنَّ احترامَ الكبيرِ والأكابرِ ليس مجرَّدَ تقاليدَ جميلةٍ، أو أعرافَ أو عاداتٍ يتعودها الإنِّسانُ في مجتمعِهِ؛ وإنَّما هي سُلوكياتٌ راقيةٌ نُؤَدِّيها عن طِيبِ خاطرٍ، ورضا نفسٍ، التماساً للأجْرٍ، وابتغاءً للثوابِ، وطلباً لرضا اللهِ تعالى، وهي من مفاخرِ هذا الدِّينِ العظيمِ، فالحمدُ للهِ الذي جعلنا مسلمينَ

المرفقات

1728368179_شيبة.docx

المشاهدات 1235 | التعليقات 0