صيباً نافعاً (المطر)
د. منصور الصقعوب
1437/02/14 - 2015/11/26 06:21AM
الخطبة الأولى
الحمد لله ذي القدرة القاهرة, والحكمة الباهرة, والآلآء المتظاهرة, لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدست أسماؤه وتعالت عظمته وجل ثناؤه, له المحامد كلها, ومنه النعم كلها, ولا يخفى عليه شيء من الأمور سِرُّها وعلنُها.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد: نعم وافرة، وخيرات عامرة، نتفيؤها من عند ربنا, السماء تمطر, والشجر يثمر, الأرض تخضر, والأمن مديد, والعيش رغيد, فما لنا لا نشكر، وبحسن صنع ربنا لا نعتبر.
حينما يأتي المطر يستبشر الناس بمقدمه, لأنه زينة للأرض وغوث للعباد وسقيا للبهائم والأشجار, وذلك من فضل الله علينا «وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته»
فوالله لولا الله ما سُقينا ولا تنعّمنا بما أوتينا, لولا لطف الله ورحمته لما أُغِثنا, لولا عفو الله لأجدبنا, «قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً ..»
«أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون* لو نشاء جعلناه أجاجاً فولا تشكرون»
ترى الفرح في وجوه الناس عند نزول المطر, ترى البِشر يعلو محياهم, ومن ذا الذي لا يفرح بالمطر, حين يَنزِل من الله ولا يعقبه عذاب ولا غرق, الغيث الذي لو شاء الله لأصبح عذاباً, والمطر الذي لو شاء الله لجعله غرقاً, الكثير من الناس لا يتأمل في المطر ونزوله, وبغفل عن التفكر في قدرة الله وملكوته, والمؤمن كل شيء يذكّره بعظمة الجليل سبحانه, فدعنا يا مبارك نرعي السمع لتأملات العارفين عن المطر.
قال ابن القيم: ومن آياته السحاب المسخر بين السماء والارض كيف ينشئه سبحانه بالرياح فتثيره كسيفاً, ثم يؤلف بينه ويضم بعضه الى بعض, ثم تلقّحه الريح, وهي التي سماها سبحانه لواقح, ثم يسوقه على متونها الى الارض المحتاجة اليه, فإذا علاها واستوى عليها أهراق ماءه عليها, فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته, حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه أقلع عنها وفارقها, فهي روايا الارض محمولةٌ على ظهور الرياح
وبالجملة فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جوٍ صاف لا كدورة فيه وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء وهو –يعني السحاب-مع لينه ورخاوته حاملٌ للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى ان يأذن له ربه وخالقه في ارسال ما معه من الماء فيرسله وينزله منه مقطعاً بالقطرات, كلُ قطرةٌ بقدْر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته, فيرشُ السحابُ الماءَ على الارض رشاً, ويرسله قطرات مفصلة, لا تختلط قطرة منها بأخري ولا يتقدم متأخرها ولا يتأخر متقدمها ولا تدرك القطرةُ صاحبتَها فتمتزج بها, بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رُسِم لها لا تعدِلُ عنه حتى تُصيبَ الأرضَ قطرةً قطرةً, قد عُيِّنتْ كلُ قطرة منها لجزء من الارض لا تتعداه إلى غيره, فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا منها قطرة واحدة أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه, فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني في الارض الفلانية بجانب الجبل الفلاني فيصل اليه على شدة من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا.
وقال رحمه الله: ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدْر الحاجة حتى إذا أخذت الارض حاجتها منه, وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها أقلع عنها وأعقبه بالصحو فهما -أعني الصحو والغيم- يعتقبان على العالم لِما فيه صلاحه, ولو دام أحدهما كان فيه فساده, فلو توالت الامطار لأهلكت ما علي الارض ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب والثمار وعفّنت الزروعَ والخضروات وأرخت الابدان وحشرت الهواء فحدثت ضروب من الامراض, وفسد أكثر المآكل, وتقطعت المسالك والسبل, ولو دام الصحو لجفّت الابدان وغيض الماء وانقطع معين العيون والآبار والانهار والأودية وعظم الضرر واحتدم الهواء فيبس ما على الارض وجفت الابدان وغلب اليبس وأحدث ذلك ضروباً من الامراض عسرة الزوال فاقتضت حكمة اللطيف الخبير أن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم فاعتدل الأمر وصح الهواء ودفع كلُ واحد منهما عادية الاخر واستقام أمر العالم وصلح, فلله الحمد على ما قضى وقدّر
عباد الله: ومن أعاجيب المطر أنك ترى الأرض ميتة, مجدبة, فما هو إلا أن يأتي فإذا بها تحيا وتزهر, وذاك مثلٌ ضربه الله ليبين للعبد قدرته على إحياء الخلق بعد موتهم, وعودتَهم بعد رحيلهم «ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها لماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير» فشبه إحياء الأرض بإحياء العباد, وإخراج الزروع بإخراج الموتى من القبور, فما أعظم الله.
وأما الأرض بعد نزول المطر فقد شبه الله تنوع أحوالها بتنوع أحوال الناس عند الوحي والعلم, ففي الصحيح عن أبي موسى عن النبي ق قال : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» قال ابن القيم: فشبه ق العلم الذي جاء به بالغيث لأن كلاً منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان, والعلم سبب حياة القلوب .
معشر الكرام : وعند نزول المطر أقوال وأفعال ينبغي للمرء أن يتعاهدها شكراً للنعمة, فقول: مطرنا بفضل الله ورحمته, سنةٌ ينبغي قولها عند المطر, والقلب حينها يستشعر أن المطر هو من الله وحده, هو الذي أنزله, ومتى ما شاء أمسكه, اختار لنزوله بلداً دون آخر, ووقتاً دون غيره, لأن الأمر كله له, وله في كل ذلك الحكمة البالغة.
والمؤمن عند نزول الأمطار يقول: «اللهم صيباً نافعاً», وتلك سنة ينبغي قولها حين تهطل الأمطار, لأن المطر إن لم يكن نافعاً فربما كان عذاباً أو لم يكن فيه نفع, وإن لم يكن صيباً أي هنيئاً فسيكون شقاءً وعذاباً, وعند الرعد نُقل عن ابن الزبير : أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته, ثم يقول: إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض"
أما المصطفى e فقد كان إذا نزل المطرُ حسر ثوبه ليناله المطر, وقال«إنه حديث عهد بربه», وروى عن ابن عباس أن السماء أمطرت قال لغلامه: أخرج فراشي ورحلي, أخرج كذا وأخرج كذا يصيبه المطر فقال أبو الجوزاء لابن عباس: لم تفعل هذا يرحمك الله؟ فقال أما تقرأ كتاب الله «ونزلنا من السماء ماء مباركا» فأحب أن تصيب البركة فراشي ورحلي، وروى ابن حرملة أنه رأى ابن المسيب في المسجد ومطرت السماء وهو في السقاية فخرج إلى رحبة المسجد ثم كشف عن ظهره للمطر حتى أصابه ثم رجع إلى مجلسه, وكانَ علي t إذا مطرت السماء خرج فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال: « بركة نزلت من السماء لم تمسها يد ولا سقاء» فاللهم أنلنا بركاتك واسقنا غيثك وارحمنا برحمتك, اللهم صل على محمد
الخطبة الثانية: الحمد لله وحده
عباد الله: إذا كان المطر في الأصل رحمة فإنه ربما كان عذاباً, والقلوب الحية حين ترى الرياح وتخيل السماء فقد توجل قلوبهم, ورسول الله كان إذا تخيلت السماء تغير لونه ودخل وخرج حتى إذا أمطرت سري عنه, وهذا وهو الرسول وهم الصحابة, خافوا نذيراً وآية, فاللهم ارزقنا خير ما سقيتنا.
المطر يا كرام, الذي يبعثه الله رحمة ويحيي به الأرض بعد موتها, قد جعله على قوم آخرين ليكون عذاباً: « وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً ». وقال : «إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية». وقال«ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر».
المطر جندي من جنود الله يدبره كيف يشاء ولا يعصي لخالقه أمراً, المطر قطرات من ماء إذا زادت أغرقت وجرفت, وفتكت ودمرت, وهذا صنع الله وقدرته في الماء الذي هو أيسر الأشياء فما الطن بما هو أعظم منه, كم رأى الناس من فيضانات مدمرة وأعاصير مهلكة, وأمطارٍ مغرقة, تقف أمامها القوى عاجزة, ولا يملك الناس وهم يرون سيلها وسيرها, وعظمها وأثرها إلا أن يذعنوا لله وينسبوا له القدرة.
ولا يذهب وهلك بعيداً, فما زال الناس في هذه البلاد في أذهانهم بقايا ذكريات لسيول غمرت وخلفت ضحايا.
لأجل كل ذا, فحين تأتي الأمطار سلوا المولى أن تكون رحمة لا عذاباً, وأصحاب القلوب المتعلقة بربها لا تأمن عقوبة, بل تتغير مع تخيل السماء, وتتعلق بذي العزة والكبرياء, وتفرح بالمطر ولا تجعله سبب عصيان, لا في البراري ولا في الحواضر
معشر الكرام: ومع نزول الأمطار وخروج الكثير للبراري ومواقع الأمطار فإن مما يؤكد عليه: الرفق في القيادة وما كان الرفق في شيء إلا زانه, شكر النعمة وعدم المجاهرة بالمعصية, «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة», آية يذكّر بها بعض من يجعلون كثبان الرمال ميداناً للهوهم بسياراتهم, أو يغامرون ويخاطرون بأنفسهم بقرب مسايل المياه والوديان, مراقبة الأسرة من أبناء وبنات عند النزول في البراري والمتنزهات, فكم يغفل البعض من الآباء, وينسى أن ثمة من أهل الفسق من يستغل مثل هذه الأحوالِ والتجمعات, إلزامُ البنات بالحياء, والحذر من البعد عن أماكن العائلة والتحشم والحجاب, فهما شرع ومطلب في كل مكان, والإخلال بهما ليس من شكر النعمة.
وبعد معاشر الكرام: فالمطر نعمة تحتاج الشكر لتدوم, وكم من أناسٍ حرموا المطر بذنب أحدهم, فلا نكن ممن نتسبب في سخط الله علينا وسبباً لحجب إفضاله علينا, وقد ورد في الأثر" أن البهائم تلعن عصاة بني آدم حين الجدب"
اللهم اجعل الغيث الذي سقيتنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق.
الحمد لله ذي القدرة القاهرة, والحكمة الباهرة, والآلآء المتظاهرة, لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدست أسماؤه وتعالت عظمته وجل ثناؤه, له المحامد كلها, ومنه النعم كلها, ولا يخفى عليه شيء من الأمور سِرُّها وعلنُها.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد: نعم وافرة، وخيرات عامرة، نتفيؤها من عند ربنا, السماء تمطر, والشجر يثمر, الأرض تخضر, والأمن مديد, والعيش رغيد, فما لنا لا نشكر، وبحسن صنع ربنا لا نعتبر.
حينما يأتي المطر يستبشر الناس بمقدمه, لأنه زينة للأرض وغوث للعباد وسقيا للبهائم والأشجار, وذلك من فضل الله علينا «وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته»
فوالله لولا الله ما سُقينا ولا تنعّمنا بما أوتينا, لولا لطف الله ورحمته لما أُغِثنا, لولا عفو الله لأجدبنا, «قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً ..»
«أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون* لو نشاء جعلناه أجاجاً فولا تشكرون»
ترى الفرح في وجوه الناس عند نزول المطر, ترى البِشر يعلو محياهم, ومن ذا الذي لا يفرح بالمطر, حين يَنزِل من الله ولا يعقبه عذاب ولا غرق, الغيث الذي لو شاء الله لأصبح عذاباً, والمطر الذي لو شاء الله لجعله غرقاً, الكثير من الناس لا يتأمل في المطر ونزوله, وبغفل عن التفكر في قدرة الله وملكوته, والمؤمن كل شيء يذكّره بعظمة الجليل سبحانه, فدعنا يا مبارك نرعي السمع لتأملات العارفين عن المطر.
قال ابن القيم: ومن آياته السحاب المسخر بين السماء والارض كيف ينشئه سبحانه بالرياح فتثيره كسيفاً, ثم يؤلف بينه ويضم بعضه الى بعض, ثم تلقّحه الريح, وهي التي سماها سبحانه لواقح, ثم يسوقه على متونها الى الارض المحتاجة اليه, فإذا علاها واستوى عليها أهراق ماءه عليها, فيرسل سبحانه عليه الريح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لئلا يؤذي ويهدم ما ينزل عليه بجملته, حتى إذا رويت وأخذت حاجتها منه أقلع عنها وفارقها, فهي روايا الارض محمولةٌ على ظهور الرياح
وبالجملة فإذا تأملت السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع في جوٍ صاف لا كدورة فيه وكيف يخلقه الله متى شاء وإذا شاء وهو –يعني السحاب-مع لينه ورخاوته حاملٌ للماء الثقيل بين السماء والأرض إلى ان يأذن له ربه وخالقه في ارسال ما معه من الماء فيرسله وينزله منه مقطعاً بالقطرات, كلُ قطرةٌ بقدْر مخصوص اقتضته حكمته ورحمته, فيرشُ السحابُ الماءَ على الارض رشاً, ويرسله قطرات مفصلة, لا تختلط قطرة منها بأخري ولا يتقدم متأخرها ولا يتأخر متقدمها ولا تدرك القطرةُ صاحبتَها فتمتزج بها, بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رُسِم لها لا تعدِلُ عنه حتى تُصيبَ الأرضَ قطرةً قطرةً, قد عُيِّنتْ كلُ قطرة منها لجزء من الارض لا تتعداه إلى غيره, فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا منها قطرة واحدة أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه, فتأمل كيف يسوقه سبحانه رزقاً للعباد والدواب والطير والذر والنمل يسوقه رزقاً للحيوان الفلاني في الارض الفلانية بجانب الجبل الفلاني فيصل اليه على شدة من الحاجة والعطش في وقت كذا وكذا.
وقال رحمه الله: ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدْر الحاجة حتى إذا أخذت الارض حاجتها منه, وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها أقلع عنها وأعقبه بالصحو فهما -أعني الصحو والغيم- يعتقبان على العالم لِما فيه صلاحه, ولو دام أحدهما كان فيه فساده, فلو توالت الامطار لأهلكت ما علي الارض ولو زادت على الحاجة أفسدت الحبوب والثمار وعفّنت الزروعَ والخضروات وأرخت الابدان وحشرت الهواء فحدثت ضروب من الامراض, وفسد أكثر المآكل, وتقطعت المسالك والسبل, ولو دام الصحو لجفّت الابدان وغيض الماء وانقطع معين العيون والآبار والانهار والأودية وعظم الضرر واحتدم الهواء فيبس ما على الارض وجفت الابدان وغلب اليبس وأحدث ذلك ضروباً من الامراض عسرة الزوال فاقتضت حكمة اللطيف الخبير أن عاقب بين الصحو والمطر على هذا العالم فاعتدل الأمر وصح الهواء ودفع كلُ واحد منهما عادية الاخر واستقام أمر العالم وصلح, فلله الحمد على ما قضى وقدّر
عباد الله: ومن أعاجيب المطر أنك ترى الأرض ميتة, مجدبة, فما هو إلا أن يأتي فإذا بها تحيا وتزهر, وذاك مثلٌ ضربه الله ليبين للعبد قدرته على إحياء الخلق بعد موتهم, وعودتَهم بعد رحيلهم «ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها لماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير» فشبه إحياء الأرض بإحياء العباد, وإخراج الزروع بإخراج الموتى من القبور, فما أعظم الله.
وأما الأرض بعد نزول المطر فقد شبه الله تنوع أحوالها بتنوع أحوال الناس عند الوحي والعلم, ففي الصحيح عن أبي موسى عن النبي ق قال : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» قال ابن القيم: فشبه ق العلم الذي جاء به بالغيث لأن كلاً منهما سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان, والعلم سبب حياة القلوب .
معشر الكرام : وعند نزول المطر أقوال وأفعال ينبغي للمرء أن يتعاهدها شكراً للنعمة, فقول: مطرنا بفضل الله ورحمته, سنةٌ ينبغي قولها عند المطر, والقلب حينها يستشعر أن المطر هو من الله وحده, هو الذي أنزله, ومتى ما شاء أمسكه, اختار لنزوله بلداً دون آخر, ووقتاً دون غيره, لأن الأمر كله له, وله في كل ذلك الحكمة البالغة.
والمؤمن عند نزول الأمطار يقول: «اللهم صيباً نافعاً», وتلك سنة ينبغي قولها حين تهطل الأمطار, لأن المطر إن لم يكن نافعاً فربما كان عذاباً أو لم يكن فيه نفع, وإن لم يكن صيباً أي هنيئاً فسيكون شقاءً وعذاباً, وعند الرعد نُقل عن ابن الزبير : أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته, ثم يقول: إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض"
أما المصطفى e فقد كان إذا نزل المطرُ حسر ثوبه ليناله المطر, وقال«إنه حديث عهد بربه», وروى عن ابن عباس أن السماء أمطرت قال لغلامه: أخرج فراشي ورحلي, أخرج كذا وأخرج كذا يصيبه المطر فقال أبو الجوزاء لابن عباس: لم تفعل هذا يرحمك الله؟ فقال أما تقرأ كتاب الله «ونزلنا من السماء ماء مباركا» فأحب أن تصيب البركة فراشي ورحلي، وروى ابن حرملة أنه رأى ابن المسيب في المسجد ومطرت السماء وهو في السقاية فخرج إلى رحبة المسجد ثم كشف عن ظهره للمطر حتى أصابه ثم رجع إلى مجلسه, وكانَ علي t إذا مطرت السماء خرج فإذا أصاب صلعته الماء مسح رأسه ووجهه وجسده، وقال: « بركة نزلت من السماء لم تمسها يد ولا سقاء» فاللهم أنلنا بركاتك واسقنا غيثك وارحمنا برحمتك, اللهم صل على محمد
الخطبة الثانية: الحمد لله وحده
عباد الله: إذا كان المطر في الأصل رحمة فإنه ربما كان عذاباً, والقلوب الحية حين ترى الرياح وتخيل السماء فقد توجل قلوبهم, ورسول الله كان إذا تخيلت السماء تغير لونه ودخل وخرج حتى إذا أمطرت سري عنه, وهذا وهو الرسول وهم الصحابة, خافوا نذيراً وآية, فاللهم ارزقنا خير ما سقيتنا.
المطر يا كرام, الذي يبعثه الله رحمة ويحيي به الأرض بعد موتها, قد جعله على قوم آخرين ليكون عذاباً: « وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً ». وقال : «إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية». وقال«ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر».
المطر جندي من جنود الله يدبره كيف يشاء ولا يعصي لخالقه أمراً, المطر قطرات من ماء إذا زادت أغرقت وجرفت, وفتكت ودمرت, وهذا صنع الله وقدرته في الماء الذي هو أيسر الأشياء فما الطن بما هو أعظم منه, كم رأى الناس من فيضانات مدمرة وأعاصير مهلكة, وأمطارٍ مغرقة, تقف أمامها القوى عاجزة, ولا يملك الناس وهم يرون سيلها وسيرها, وعظمها وأثرها إلا أن يذعنوا لله وينسبوا له القدرة.
ولا يذهب وهلك بعيداً, فما زال الناس في هذه البلاد في أذهانهم بقايا ذكريات لسيول غمرت وخلفت ضحايا.
لأجل كل ذا, فحين تأتي الأمطار سلوا المولى أن تكون رحمة لا عذاباً, وأصحاب القلوب المتعلقة بربها لا تأمن عقوبة, بل تتغير مع تخيل السماء, وتتعلق بذي العزة والكبرياء, وتفرح بالمطر ولا تجعله سبب عصيان, لا في البراري ولا في الحواضر
معشر الكرام: ومع نزول الأمطار وخروج الكثير للبراري ومواقع الأمطار فإن مما يؤكد عليه: الرفق في القيادة وما كان الرفق في شيء إلا زانه, شكر النعمة وعدم المجاهرة بالمعصية, «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة», آية يذكّر بها بعض من يجعلون كثبان الرمال ميداناً للهوهم بسياراتهم, أو يغامرون ويخاطرون بأنفسهم بقرب مسايل المياه والوديان, مراقبة الأسرة من أبناء وبنات عند النزول في البراري والمتنزهات, فكم يغفل البعض من الآباء, وينسى أن ثمة من أهل الفسق من يستغل مثل هذه الأحوالِ والتجمعات, إلزامُ البنات بالحياء, والحذر من البعد عن أماكن العائلة والتحشم والحجاب, فهما شرع ومطلب في كل مكان, والإخلال بهما ليس من شكر النعمة.
وبعد معاشر الكرام: فالمطر نعمة تحتاج الشكر لتدوم, وكم من أناسٍ حرموا المطر بذنب أحدهم, فلا نكن ممن نتسبب في سخط الله علينا وسبباً لحجب إفضاله علينا, وقد ورد في الأثر" أن البهائم تلعن عصاة بني آدم حين الجدب"
اللهم اجعل الغيث الذي سقيتنا سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق.