صور من سيرة الربيع بن خثيم (( خطبة منقولة ))

محمد سعيد صديق
1433/01/20 - 2011/12/15 11:17AM

الخطبة الأولى العنوان / صور من سيرة الربيع بن خثيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل: (يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
عباد الله، نقف اليوم مع عَلَمٍ من أعلام التابعين، ومن كبار الفقهاء والعُبَّاد والزُّهَّاد، من أهل الوَرَع والخشية، مع الذي جعل الله له ذكرًا في العالمين. إنه التابعي الجليل: (الرَّبيع بن خُثَيْم )، والتابعي هو الذي أدرك زمن الصحابة ورآهم ولم يرَ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأنا اليوم سأسلِّط الضوء؛ لألتقط صورًا من سيرته العطرة، ونقف معها؛ لنهتدي بها في حياتنا وتعاملنا، فالأمَّة اليوم بحاجة إلى من يحدثها عن سِيَر هولاء الأعلام، أمثال: الرَّبيع بن خُثَيْم؛ لتقتدي بها وترى أصحاب الهِمم العالية والعزيمة الصادقة؛ قال الله – تعالى –: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
الصورة الأولى: الربيع يغض بصره عن الحرام:
إن إطلاق البصر سببٌ لأعظم الفتن، فكم فسد بسبب النظر من عابد! وكم انتكس بسببه من شباب وفتيات كانوا طائعين! وكم وقع بسببه أناس في الزنا والفاحشة، والعياذ بالله!
فالعين مِرآة القلب، فإذا غضَّ العبد بصره، غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره، أطلق القلب شهوته وإرادته، ونقش فيه صور تلك المبصَرات، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه في الدار الآخرة.
ولذلك؛ كان السلف الصالح يبالغون في غضِّ البصر؛ حذرًا من فتنته، وخوفًا من الوقوع في عقوبته، فكان الربيع بن خُثَيْم - رحمه الله - يغضُّ بصره، فمرَّ به نسوة، فأطرق - أي: أمال رأسه إلى صدره - حتى ظنَّ النسوة أنه أعمى، فتعوذن بالله من العمى.
وفي ذات يوم قِيلَ له: يا ربيع، لم لا تجلس في الطرقات مع الناس؟ فقال: أنا أخشى ألاَّ أردَّ السلام ولا أغضَّ بصري.
هكذا يبالغ الربيع بالغضِّ، حتى يحافظ على قلبه الذي ربَّاه على الإيمان، فأين شباب اليوم من هذه الخصلة، التي هي غض البصر؟!
فهذا درسٌ عظيم من الربيع إلى كلِّ المسلمين، وخاصة الذين يجلسون في الطرقات والأسواق: أن كفُّوا أبصاركم عن النظر إلى الحرام.
الصورة الثانية: الربيع يشتغل بعيوبه عن عيوب الآخرين:
لقد اشتغلَ الربيع بعيوب نفسه، وترك الاشتغال بعيوب الآخرين، وطبَّق في حياته ما قاله الله -تعالى - في كتابه الخالد:(والَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)، في ذات يوم قِيلِ له: يا أبا يزيد، ألا تذمُّ الناس؟ فقال: والله ما أنا عن نفسي براضٍ فأذمَّ الناس, إن الناس خافوا الله على ذنوب الناس وأمنوه على ذنوبهم.
نعم والله صدق الربيع، ألا ترون أيها الناس، أننا في مجالسنا نتحدث ونقول: والله نخشى من عذاب الله من أفعال فلان وعلان، ونخاف من عذاب الله من أقوال فلان وفلان، ولكننا ننسى أن نخافَ على أنفسنا من عذاب الله من ذنوبنا وأفعالنا وأقوالنا.
هذا إبراهيم التيمي، قال - وهو يتحدث عن أخلاق الربيع -: "أخبرني من صحب الربيع بن خُثَيْم عشرين سنة: ما سمع منه كلمة تعاب"، الله أكبر.
أيُّ تربية هذه التي كان ينتهجها الربيع مع نفسه، حتى كانت هذه السيطرة على لسانه، فلا يُسمعُ منه كلمة تُعاب مع طول مدة الصُّحبة؟!
جاء رجلٌ إلى الربيع بن خثيم, فاغتاب أخًا له, فقال الربيع بن خثيم: أقاتلت الروم؟ قال: لا، قال: أقاتلت فارس؟ قال: لا، قال: فيَسلَمُ منك فارس والروم، ولا يسلم منك المسلم؟! قُمْ عني.
فهذا درسٌ من الربيع لكلِّ من أطلق العنان للسانه بالتكلم على المسلمين، وبذكر عيوبهم، ليشتغل بعيوب نفسه عن عيوب إخوانه من المسلمين، فطُوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.
الصورة الثالثة: الربيع يعفو ويقابل السيئة بالحسنة:
كان الربيع من الرجال الذين ترجموا قول الله تعالى: (وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، في واقع حياتهم، من الذين جرَّدوا نفوسهم من الانتقام والثأر والغضب إلا لله.
في ذات يوم، وبينما هو في المسجد ورجل خلفه، فلمَّا قاموا إلى الصلاة، جعل الرجل يقول له: تقدَّم، ولا يجد الربيع مكانًا أمامه، فرفع الرجل يده وضرب بها عنق الربيع، ولا يعرف أن الذي أمامه هو الربيع بن خُثَيم.
فماذا تظنون من الربيع أن يفعل؟ ضربه هذا الرجل، وأهانه أمام الناس وبدون سبب.
ونحن على يقين أن نفس الربيع في تلك اللحظات دعته للانتقام أمام هذه الإهانة، ولكنه داس على نفسه، وقابلها بعكس ما تريد، أتدرون ماذا فعل؟
التفت الربيع إلى الرجل الذي ضربه، فقال له: رحمك الله، رحمك الله، وإذا بالرجل يبكي بكاءً شديدًا حين عرف الربيع، أرأيتم كيف قابله بهذا الخلق العظيم؟!
وفي ذات يوم اشترى فرسًا بثلاثين ألفًا، فغزا عليها، ثم أرسل غلامه يحتشُّ، وقام يصلي وربط فرسه، فجاء الغلام، فقال: يا ربيع أين فرسك؟ قال: سرقت يا يسار، قال: وأنت تنظر إليها؟ قال: نعم يا يسار، إني كنت أناجي ربي - عز وجل - فلم يشغلني عن مناجاة ربي شيء اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنيًّا، فاهده، وإن كان فقيرًا، فأغنِه (ثلاث مرات).
سُرِق له فرس، والفرس يعادل في زماننا السيارة الحديثة الغالية الثمن، ومع ذلك دعا له بالخير!
أما في زماننا، فهناك من المسلمين إذا سُرِق حذاؤه من المسجد، أقام الدنيا ولم يقعدها على السارق، ويبدأ يسبُّ ويشتم ويلعن ويدعو عليه بالهلاك! وهناك من يفعل مثلما فعل الربيع. فالربيع من خلال موقفه يخاطب المسلمين، فيقول لهم: اجعلوا قول الله تعالى: (وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، شعاركم في مواجهة من اعتدى عليكم، وعوِّدوا ألسنتكم على الكلمة الطيبة، فالكلمة الطيبة صدقة.
الصورة الرابعة: الربيع يثبت أمام إغراء النساء:
اسمع إلى هذا الموقف، وهذه القصة، وتدبَّر ما فيها من عِبرة، كان الربيع معروفًا بجماله، كان جميلاً كأشد ما يكون الجمال، حتى إن المرأة إذا نظرت إليه لا تستطيع أن تملك نفسها، وقيل عنه: إنه كان يغطي على جزء من وجهه حتى لا يفتن النساء، ولكن كان مع هذا من أعظم عباد الله خوفًا من الله، وكان عُمره لا يجاوز الثلاثين؛ وكان في بلده فُسَّاق وفُجَّار يتواصون على إفساد الناس، وليسوا في بلد الربيع فقط، بل هم في كل بلد، ثُلَّة تسمى فرقة الصدِّ عن سبيل الله، يهمُّها أن تقودَ شباب الأمة وشيبها ونساءها إلى النار.
تواصوا على إفساد الربيع، فجاؤوا بأجمل امرأة عندهم، وقالوا: هذه ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قُبْلة واحدة من الربيع، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، ثم ذهبت وتعرَّضت له في ساعة خلوة، وأبدت مفاتنها، ووقفت أمامه، فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله، كيف بك إذا نزل ملك الموت، فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يدي الربِّ العظيم؟! أم كيف بك إن لم تتوبي يوم تُرمَيْن في الجحيم؟! فصرخت وولَّت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله - عز وجل- تقوم من ليلها ما تقوم، وتصوم من أيامها ما تصوم، فلقِّبت بعد ذلك بعابدة الكوفة، وكان هؤلاء المفسدون يقولون: أردنا أن تفسد الربيع فأفسدها الربيع علينا؛ (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ).
يا تُرى ما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟ هل هي قلة الشهوة؟ إن الشهوة لعظيمة؛ إذ هو في سن أوج الشهوة وعظمتها - سن الثلاثين - ومع ذلك ما الذي ثبَّته هنا، وما الذي عصمه؟ إنه الإيمان بالله، إنها الخشية من الله تعالى.
الصورة الخامسة: الربيع شديد الخوف من الله:
كان الربيع بن خثيم يتجهَّز لتلك الليلة التي سيفارق فيها أهله وماله، فيروى أنه حفر في بيته حفرة، فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيها، وكان يمثل نفسه أنه قد مات وندم وسأل الرجعة، فيقول:(رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)، ثم يجيبُ نفسه، فيقول: "قد رجعت يا ربيع"، فيُرى فيه ذلك أيَّامًا؛ أي: يرى فيه العبادة والاجتهاد والخوف والوجل.
وكانت أمُّ الربيع بن خُثَيْم تنادي ابنها الربيع , فتقول: يا بني، يا ربيع، ألا تنام؟ فيقول: يا أمّاه من جنَّ عليه الليل، وهو يخاف البيات، حقَّ له ألاَّ ينام، فلمّا بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسَّهر، نادته، فقالت: يا بني، لعلك قتلت قتيلاً؟ فقال: نعم يا والدة، قد قتلت قتيلاً، قالت: ومن هذا القتيل يا بني حتى تَتحملعلى أهله، فيعفون؟ والله لو يعلمون ما تلقى من البكاء، والسَّهر بعد، لرحموك، فيقول: يا والدة، هي نفسي؛ أي: قتلتُ نفسي بالمعاصي.
وهكذا هم طلاب الآخرة في صراع دائم مع أنفسهم التي تدعوهم إلى السوء، ويدعونها للصلاح، تجذبهم بقوة خارج الصراط، ويجذبونها بقوة نحو الصراط.
وقالت ابنةُ الربيع للربيع: يا أبت، لم لا تنام والناس ينامون؟ فقال: إن البيات في النار لا يدع أباك أن ينام.
الصورة السادسة: الربيع محافظ على الصلاة في المسجد:
كان الرَّبيع بعدما سَقَطَ شِقُّه؛ يهادى بين رجلين إلى مسجد قومه، وكان أصحاب عبدالله يقولون: يا أبا يزيد، لقد رخَّص الله لك، لو صليتَ في بيتك، فيقول: إنه كما تقولون، ولكني سمعته ينادي: حي على الفلاح، فمن سمع منكم ينادي: حي على الفلاح، فليجبْه، ولو زحفًا, ولو حَبوًا.
فأين شبابنا وأقوياؤنا الذين تركوا الصلاة في المساجد، ويصلون في بيوتهم، وقد رزقهم الله الصحة والعافية؟!
أين الذين إذا بعد المسجد عن بيوتهم قليلاً، تركوا الصلاة فيه، وأصبحوا يصلون في بيوتهم؟! لا أخالهُم الآن يجدون جوابًا لهذه التساؤلات.
وفي الختام، قيل للربيع بن خُثَيْم: ألا ندعو لك طبيبًا؟ قَالَ: أَنْظِروني، فتفكَّر، ثم قَالَ:(وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا)، قَالَ: فذكر حرصَهم على الدُّنيا ورغبتهم، فيها، وقال: قد كانت فيهم أطباء، وكان فيهم مَرضَى، فلا أرى المداوي بقي، ولا أرى المداوى، وأُهلِك النّاعتُ والمنعوت، لا حاجة لي فيه.
فنسأل الله أن يعاملنا بعفوه وكرمه، اللهمَّ اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعفُ عنا، اللهم توفَّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد ، معاشر المؤمنين: ماذا عسى الواحد فينا يقول لنفسه حين يسمعسيرةهؤلاء عليهمرحمة الله؟ وكيف يكون حال الواحد منا وهو يرى الواحد من السلف قد عمل الصالحات وهوخائف مشفق. ونحن نسيء ونقصر،ونحن في أمن واطمئنان.
إنه عباد الله الغروربتسويلات الشيطان والاغترار بقلة من الطاعات الواجبة التي يؤديها المرء، وهو يرىأنه يستحق الجنة على ما فعل.
فنسأل الله عز وجل أن يجمعنا وإيَّاكم مع أولئك الصفوة الصادقة في دار كرامته، ومستقر رحمته.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على من أمركم ربكم بذلك فقال عز من قائل :(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ). وقال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه عشراً)) رواه مسلم.
اللهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد...
المشاهدات 2366 | التعليقات 0