صَنَائِعُ المعرُوفِ..

نايف بن حمد الحربي
1436/11/02 - 2015/08/17 10:01AM
(صَنَائِعُ المعرُوفِ..) جامع العزيزية: 30/12/1435هـ
الحمدُ للهِ بفضلهِ يُستَجلَبُ كُلُّ بِر, والحمدُ للهِ بِمِنَتِهِ يُستَدفَعُ كُلُّ ضُر, جَعَلَ المعروفَ صَنائع, مُسدِيهَا أَوَلُّ مَن بها بُرّ, عنهُ السُوءَ تَدرأ, وعليه الخيرَ بإذنِ اللهِ تُقِرّ, وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه, وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
أما بعد :
فعَلَيْكم بتقوى اللهِ عبادَ الله، هي لـِمَن يَعقِلُ, أنفَسُ وصيةٍ طيفُهَا به مَر, به عن السوءِ تنأى, وله إلى الهدى تَستَجِر.
معاشر المسلمين:
الناسُ بالناسِ مَادَامَ الحياةُ بهم ... والسَعدُ لاشَكَ تاراتٌ وتاراتُ.
وأفضلُ الناسِ ما بينَ الورى رَجُلٌ ... تُقضَى على يدهِ للناسِ حَاجَاتُ.
اشتَرى عبدُاللهِ بنُ عامرٍ مِن خالد بنِ عُقبةَ دَارَهُ التي بالسوق, بتسعينَ ألفِ درهم, فلمَّا كان مِن الليل, سَمِعَ عبدُاللهِ بُكاءَ أهلِ خالد, فقال لأهلهِ: مالهؤلاء؟ قالوا: يَبكُونَ دَارَهم, فقال عبدُاللهِ: يا غلام, ائتِهِم فأَعْلِمْهُم أنَّ الدارَ والمالَ لهم جميعا.
أهل الإسلام.. الناسُ مَعادن, وإنَّ مِن أسمَاهُم مَعدِنَا, أولئكَ الذينَ لا يَعيشُونَ لأنفُسِهِم, وإنَّماَ يَجهَدُونَ دائما لإدخَالِ السُرورِ على الغير, ولا غَرو, فهذه هي مَعَادِنُ الأنبياء, ففي التنزيل: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} وفي التنزيل: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} وفي مسلمٍ, سُؤالُ عَبْدِاللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ: "هَلْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَهُوَ قَاعِدٌ؟ قَالَتْ عائشةُ: نَعَمْ، بَعْدَمَا حَطَمَهُ النَّاسُ" وعندَ الطبراني بإسنادٍ صحيح مِن حديث ابنِ عمر: "أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أَنفَعُهُم للناس".
قال الأَبْشِيْهي: " يُستَدَلُّ على رَجَاحَةِ عقلِ الرجلِ بأمورٍ مِنها: ميلُهُ إلى مَحاسنِ الأخلاق, وإعراضُهُ عن رذائلِ الأعمال, ورغبتُهُ في إسداءِ صنائعِ المعروف" وفي آدابِ ابنِ مُفلِح:
لم أرَ كالمعروفِ أمَّا مَذاقُهُ ... فحلوٌ وأمَّا وَجهُهُ فجميلُ
قالَ ابنُ عباسٍ: "ما رأيتُ رَجُلاً أوليتُهُ معروفاً, إلا أضاءَ ما بيني وبينَهُ, ولا رأيتُ رَجُلاً فَرُطَ إليهِ مِنِّي شئٌ إلا أظلَمَ ما بيني وبينَهُ" قال زهير:
ومَن يجعلَ المعروفَ مِن دُونِ عِرضِهِ ... يَقيهِ ومَن لا يَتقِ الشَتمَ يُشتَمِ.
وقال عبدُاللهِ بنُ عُثمانَ -شيخُ البخاري-: "ما سألني أحدٌ حَاجَةً إلا قُمتُ له بنفسي, فإن تَمَّت وإلا قمتُ لَهُ بمالي, فإن تَمَّت وإلا استَعَنتُ بالإخوان, فإن تَمَّت وإلا استَعنتُ بالسُلطان" قال عمرو بنُ العاص: "في كُلِّ شئٍ سَرَف, إلا في إتيانِ مَكرُمَة, أو اصطناعِ مَعرُوف" ذَمَّ أعرابيٌ رَجُلاً فقال: " سَمينُ المال, مَهزُولُ المعروف" قالَ ابنُ دُرَيد:
وما هذهِ الأيامُ إلا مُعَارَةٌ ... فما استطَعتَ مِن مَعرُوفِهَا فتَزَوَّدِ.
فإنَّكَ لا تدرِ بأيةِ بلدَةٍ ... تموتُ ولا ما يُحدِثُ اللهُ في غَدِ.
ولكم أن تتأمَلُوا أهلَّ الإسلامِ, في طَرفٍ مِن فضائلِ إسداءِ المعروف, ففي الدُنَا يَحُولُ دونَ سُوءِ القضاء, وفي الأُخرَى به مَغفرةُ الذنوب, ونيلُ المطلُوب, فلهذه ما أخرجه مسلمٌ في صحيحه مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلَمَ- قال: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ" ولتلك: ما جاءَ في مسلمِ أيضا مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلَمَ- قال: "مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" وما في الصحيحين أنَّهُ -صلى الله عليه وسلَمَ- لـمَّا رَجَعَ مِن غار حِراء, إِبَانَ نُزُولِ أَوَّلِ الوحيِّ قالَ لخديجة: "لقد خَشيتُ على نفسي" فقالت: "كَلا وَاللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ" مما يُنبيكَ أنَّهُ قد استَقرَّ في الأفهام, أنَّ صَنائعَ المعروفِ تقي مصَارعَ السوء, وفي الصحيحين أيضا مِن حديثِ حذيفةَ -رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلَمَ- قال: "تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا، قَالُوا: تَذَكَّرْ، قَالَ: كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ، فَآمُرُ فِتْيَانِي: أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِر، قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَجَاوَّزُوا عَنْهُ" وما خَبَرُ البغيِّ عليكم بغريب.
ثُمَّ إنَّ صنائعَ المعروف, مع كُلِّ هذا الأجرِ الـمُتَرَتِبِ على إسدائهَا, هيَ ثَمَنٌ يَسْتَرِقُ بها ذوو الـمُروءاتِ رِقَابَ الأحرار.
قال الـمُهَلَبُ بنُ أبي صُفرة: "عَجِبتُ لِـمَن يَشتَري المماليكَ بمالِهِ, ولا يَشترِ الأحرارَ بمعروفه"
ومَن يَجعلَ الضِرغَامَ للصيدِ بَازَهُ ... تَصَيَّدَهُ الضِرغَامُ فيَّما تَصَيَّدا.
وما قَتَلَ الأحرارَ كالعفو ِ عنهُمُ ... ومَن لَكَ بالحُرِّ الذي يَحفَظُ اليَدا.
وقالَ بَزَرْ جَمْهَرْ: "خيرُ أيامِ المرء, ما أَغاثَ فيه المـُضطَر, وارتَهَنَ فيه الشُكر, واستَرَقَ فيهِ الحُر".
أقول هذا القول, واستغفر الله لي ولكم...

الحمد لله مُولي النعمة, ودافعِ النقمة, واسعِ الرحمة, وصلى الله وسلم على خير البرية, وأزكى البشرية, وعلى عترته الطاهرة الزكية, ومَن سارَ على طريقته السوية..
أما بعد : فاصنع المعروفَ يا رعاكَ اللهُ, وعَجِّلْهُ.., قال جعفرُ بنُ محمد: "إنَّي لأُسارِع إلى قَضاءِ حَوائجِ إخواني؛ مَخَافَةَ أنْ أَرُدَهُم فيَستَغنُوا عَنَّي"
جُودُ الكريمِ إذا ما كانَ عن عِدَةٍ ... وقد تأخرَّ لم يَسلَم مِن الكَدَرِ.
إنَّ السحائِبَ لا تُجدِي بَوارِقُها ... نَفعَاً إذا هي لم تُمطِر على الأثَرِ.
واستُره.., قال العباس: " المعروفُ أَميَزُ زرع, وأفضلُ كنز, ولا يَتِمُّ إلا بثلاثِ خِصال: تعجيلِهِ, وتصغيرِهِ, وسترِهِ"
خِلٌّ إذا جِئتَهُ يَوماً لِتَسأَلَهُ ... أعطَاكَ ما ملَكت كَفَّاهُ واعتَذرا.
يُخفي صَنائِعَهُ واللهُ يَعلَمُهَا ... إنَّ الجميلَ إذا أخفَيتَهُ ظَهرا.
ولا تَمُنَّ به.., فااـمَنُّ مَفسَدَةُ الصَنِيعَة, وقديماً قيل:
إذا الجُودُ لم يُرزَق خَلاصاً مِن الأذى ... فلا الحمدُ مَكسُوبَاً ولا المالُ باقيا.
قال رجلٌ لابنِ شُبرُمَة: "فعلتُ بفُلانٍ كذا, وكذا, وفعلتُ به كذا, فقال ابنُ شُبرُمَة: لا خيرَ في المعروفِ إذا أُحصِي"
ولا يَصرفكَ عنه نُدرَةُ الشاكرِ عليه.., فقديماً قال الحُطيئةُ:
مَن يَفعل الخيرَ لا يُعدَم جَوازِيهِ ... لا يَذهب العُرف بينَ اللهِ والناسِ.
وقال عليٌ -رضي الله عنه-: "لا يُزَهِّدُكَ في المعروفِ كُفرُ مَن كَفَرَه, فإنِّهُ يَشكُرُكَ عليه مَن لم تُسدِهِ إليه"
يَدُ المعروفِ غُنمٌ حيثُ كانت ... تَحمَّلَهَا شَكُورٌ أو كَفُورُ.
ففي شُكرِ الشَكُورِ لها جَزَاءٌ ... وعندَ اللهِ ما كَفَرَ الكَفُورُ.
وحاذِر.., فإنَّ اللهَ ذَمَّ مَانعي المعروف, فقال سُبحانَهُ في آيةٍ تُتلَى إلى يَومِ القيامة: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وما العَارِيَّةُ إلا نوعاً مِن أنواعِ المعروف, وفي البخاري مِن حديثِ أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلَمَ- قال: " ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ -وذكر منهم-: وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ, يَقُولُ اللَّهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ" وقال صالحُ عبدُالقدوس:
إذا كُنتَ لا تُرجَى لدفعِ مُلِمَّةٍ ... ولم يَكُ للمعروفِ عندَكَ مَوضِعُ.
ولا أنتَ ذو جَاهٍ يُعَاشُ بجَاهِهِ ... ولا أنتَ يومَ البعثِ للناسِ تَشفَعُ.
فَعيشُكَ في الدُنيا ومَوتُكَ واحدٌ ... وعُودُ خِلالٍ مِن حَيَاتِكَ أَنفَعُ.
وتَمَثَّل قَولَ الشافعي:
الناسُ بالناسِ مَادَامَ الحياةُ بهم ... والسَعدُ لاشَكَ تاراتٌ وتاراتُ.
وأفضلُ الناسِ ما بينَ الورى رَجُلٌ ... تُقضَى على يدهِ للناسِ حَاجَاتُ.
لا تَمنَعَنَّ يَدَ المعرُوفِ عن أحدٍ ... مَا دُمتَ مُقتَدِراً فالسَعدُ تَاراتُ.
واشكر فضائلَ صُنعِ اللهِ إذْ جُعِلَت ... إليكَ لا لكَ عندَ الناسِ حاجاتُ.
قد مَاتَ قَومٌ ومَا ماتتْ مَكارِمُهُم ... وعاشَ قومٌ وهم في الناسِ أمواتُ.
واعلم.., بأنَّ كمالَ المعروفِ لا يكونُ إلا بإتمامِهِ, قال أحدُ السلف: "رَبُّ المعروفِ أشَدُّ مِن ابتِدَائه" وفي مُسلمٍ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ..." ومِن إحسانِ العملِ إتمَامُهُ.
أصلحَ اللهُ الحال, ونفعَ بالمقال, وأجارنا مِن غَلَبَاتِ الهوى, وميلِهِ إذا مَال..
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين, ...
وكتب/ نايف بن حمد الحربي.
المشاهدات 2370 | التعليقات 0